تداعيات صراع الأجندات الإقليمية في سوريا

عبد اللطيف محمد أمين موسى

إن سير الأحداث والتغيرات الجيوسياسية التي ساهمت في الانتقال من حالة اللااستقرار واللادولة إلى حالة الدولة والاستقرار في سوريا، ومواكبة المستجدات المتلاحقة على الأصعدة المحلية والإقليمية والدولية، تكشف بوضوح أن المتغيرات في سوريا هي نتيجة حتمية لتسارع الأحداث وتبدل موازين القوى، التي بدأت تتشكل مع تغيرات الخرائط في بعض دول الشرق الأوسط، نتيجة الصراع مع إيران، وزيادة الضغوط القصوى، والتفاوض تحت الضغط بهدف دفع إيران إلى الانكفاء داخل حدودها، والتخلي عن أذرعها التي بدأت تفقدها تدريجيا مع تغير نظام الأسد، ومقتل نصر الله، وضرب الحوثيين، والتهديدات المتكررة في العراق لإنهاء الهيمنة الإيرانية.

إن تغير الخرائط في المنطقة، ولا سيما في سوريا، بدأ يصطدم بصراع على النفوذ والسلطة، مع انتقال سوريا من الهيمنة الإيرانية إلى بروز دور تركي متزايد، تجلى في السعي للسيطرة الفعلية على الإدارة الجديدة أو خلق إدارة تتناسب مع نفوذها. وقد ظهر ذلك بوضوح من خلال مستويات التغلغل التركي في مفاصل الدولة السورية ومؤسساتها.

كما سعت تركيا لإحداث تغييرات من خلال المؤتمر الوطني للحوار السوري، الذي اتسم بالإقصاء والتهميش بما يتماشى مع الرؤية التركية، عبر الإصرار على تعزيز نظام المركزية، وإقصاء المكونات الأخرى من السلطة. وقد قوبل هذا التوجه برفض واسع، مما وضع الدول الإقليمية والأوروبية الداعمة للمشروع التركي في حرج، خصوصا أن رفع العقوبات عن سوريا والدعم الدولي ارتبطا بتنفيذ الإدارة السورية الجديدة لعملية الانتقال السياسي الشامل.

هذا التوجه الدولي اصطدم بعناد الإدارة الجديدة في سوريا، التي تمسكت بالمركزية تحت ذريعة الكفاءة، مستبعدة جميع المكونات، ومقصية الكيانات السياسية من المشاركة الفاعلة في استحقاقات سوريا المستقبلية، في تكرارٍ لتجربة الحكومات السابقة.

لم تكن هذه التطورات لتحدث لولا الإصرار والتخطيط والضغط التركي على دمشق، وهو ما سيدفع سوريا وشعبها إلى مسار طويل من العقوبات، ويقود البلاد إلى المجهول، لا سيما في ظل الظروف الاستثنائية التي تمر بها، وعدم قدرة السوريين على تحمل المزيد من التأخير في تنفيذ الاستحقاقات المستقبلية، وعلى رأسها الانتقال السياسي الشامل.

الإدارة الجديدة في سوريا، ومن خلال توقيعها اتفاقيات دفاع مشترك مع تركيا، تسعى لمنح المشروعية للهيمنة التركية، مما أدى إلى انتقال سوريا من الهيمنة الإيرانية إلى الهيمنة التركية. وقد استشعرت إسرائيل خطر هذا التحول، فاتخذت خطوات استباقية عبر توجيه ضربات قوية إلى المطارات السورية التي يُفترض أن تدخلها القوات التركية، بل ووجهت رسائل مباشرة تهدد بعواقب وخيمة.

الصراع التركي الإسرائيلي بدأ يتجلى من خلال سجال وتصريحات غير مسبوقة بين مسؤولي البلدين، تخللها تبادل الاتهامات بدعم الإرهاب، وقصف إسرائيلي لأي تحرك في الجنوب السوري، في محاولة إسرائيلية واضحة لوضع قيود على تحالفات الإدارة الجديدة وخطواتها نحو السيطرة على الأراضي السورية. كما عبرت إسرائيل عن مخاوفها من استغلال الأراضي السورية كمنطلق لتهديدها، وقد بدأ السكان المحليون في بعض المناطق، لا سيما درعا، يدفعون ثمن هذا الصراع، بعد أن تم الزج بهم في مواجهة التدخلات الإسرائيلية، مما أدى إلى سقوط عشرات القتلى، وسط تسريبات من بعض مراكز القرار الإسرائيلية تتحدث عن نية تركيا نقل الصراع إلى حدود إسرائيل، وتحويل سوريا إلى حديقة خلفية لتصفية حساباتها الإقليمية، وهو ما ترفضه إسرائيل رفضا قاطعا.

في ظل هذا الواقع، تبرز تساؤلات حول خيارات حكومة دمشق، وحدود هذا الصراع، وتأثيره على سوريا والمنطقة. فالإدارة الجديدة في دمشق تواجه تحديا حقيقيا ومسؤولية كبيرة في التعامل مع هذا الصراع، بوضع مصلحة الشعب السوري وتضحياته فوق أي اعتبار، والعمل على تحقيق انتقال سياسي شامل يضمن مشاركة جميع المكونات السورية، دون الخضوع لأي ضغط إقليمي.

إن الاستمرار في التعنت والتهرب من الاستحقاقات المستقبلية، وخصوصا الانتقال السياسي، سيؤدي إلى فقدان الدعم الدولي، الذي تحتاجه سوريا بشدة لإعادة الإعمار. كما أن الإصرار على التمسك بالمشروع التركي على حساب القوى الدولية والإقليمية الفاعلة، يمنح إسرائيل فرصة لتعزيز شرعيتها في تحويل سوريا إلى ساحة صراع ضد تركيا.

من المؤكد أن تركيا لا تملك الكثير من الخيارات سوى الخيار الدبلوماسي، لأن أي صدام مباشر مع إسرائيل سيؤدي إلى تغييرات خطيرة في نظام الحكم التركي، وربما يمتد تأثيره إلى الداخل التركي نفسه. لذا، ستحاول تركيا تجنب الصدام، والاستفادة من علاقتها مع ترامب للضغط على نتنياهو، ومحاولة كسب موافقة إسرائيل على تعزيز نفوذها في سوريا عبر اتفاقات دولية، ولكن أي خطوة غير محسوبة من قبل تركيا أو الإدارة السورية الجديدة قد تعني نهاية هذا المشروع، وفقدان تركيا لنفوذها في سوريا، لا سيما أن عملية تغيير النظام في سوريا قد أوكلت إلى تركيا.

أما إسرائيل، فإنها، ومن خلال حكومتها اليمينية، تخوض صراعا على عدة جبهات، وتسعى لتغيير خرائط النفوذ، والتخلص من الهيمنة الإيرانية في المنطقة، مستفيدة من الدعم المفرط من إدارة ترامب. هذا ما تدركه تركيا جيدا، وتسعى للدخول في صفقة ترضي إسرائيل، لأن أي تصعيد خلاف ذلك سيكون بمثابة انتحار سياسي ونهاية لنفوذ تركيا في المنطقة.

وهكذا، تبقى إدارة صراع النفوذ والتنافس الإقليمي في الشرق الأوسط، وسوريا بشكل خاص، بيد الإدارة الأمريكية، التي لن تسمح بانزلاق الأمور على نحو لا يخدم مصالحها ومصالح حليفتها إسرائيل، فيما تبقى الأبواب مفتوحة للصفقات الدولية بين أمريكا وروسيا وإيران والدول العربية، بما يتماشى مع مصالح تلك الأطراف في المنطقة وسوريا.


شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

علي جزيري يُحكى أن (حسان) ابن رئيس «الجمهورية السورية» شكري القوتلي تأخر عشر دقائق عن الدوام المدرسي ذات يوم، بيد أن مدير المدرسة (جودت الهاشمي)، أنّبَهُ وأعطاه كتاباً ممهوراً بختم المدرسة، يطلب فيه ضرورة إحضار ولي أمره، ولبى حسان حينئذ أمر المدير، لكنه عاد إلى البيت مكسور الخاطر، فاستغربت والدته عودة ابنها الوحيد في ذاك الوقت المبكر، وحين…

صلاح بدرالدين مدخلالى جانب الانشغال اليومي بامور وشؤون الكرد السوريين كمهام لها الاولوية من خلال النضال في سبيل رفع الاضطهاد القومي، والاجتماعي، والسياسي عن كواهلهم، واستعادة حقوقهم القومية، والمساهمة في النضال الوطني العام من اجل الديمقراطية، والتقدم، ومواجهة الاستبداد، كان الهم القومي – الكردستاني – لم يفارق مشاعر جيلنا والذي من قبلنا، ليس كموقف سياسي عابر…

إبراهيم اليوسف الوطن في أرومته قبل الخريطة في حبرها أحدهم   لم يبدأ مشروع “الشرق الأوسط الكبير” من مقاعد البيت الأبيض، بل تسرّب ببطء من: غرف التفكير، مراكز البحوث، خرائط الجيوبوليتيك، وأقلام من ظنّوا أن المنطقة لا تستحق حدودًا ثابتة، وفق تصورات القطب الثاني الموازي بل المعادي للاتحاد السوفياتي السابق، كقطب قوي عملاق، قبل انهياره التاريخي. إذ إن…

شيرزاد هواري   تشهد منطقة الشرق الأوسط في المرحلة الراهنة تصعيدات عسكرية متسارعة تقودها إسرائيل، مدعومة من حلفائها التاريخيين، في مشهد يشي بتحولات استراتيجية عميقة. هذه التطورات لم تأتِ من فراغ، بل تبدو كحلقة متقدمة من مسار طويل ابتدأ منذ ما يزيد عن قرن، مع توقيع اتفاقية سايكس – بيكو التي قسّمت إرث الإمبراطورية العثمانية على أسس استعمارية، دون أدنى…