إبراهيم اليوسف
“ويبقى السؤال:
ها قد أعدنا إليكم سوريا
أم ها قد أعدتم إلينا سوريا؟”
تتبدل الوجوه ويتبدّل اللباس، لكن يبقى الجور في العقل الذي يُسود فوق كل شيء؛ عقلٌ مُتشبّع بالاستئثار ونفس الشهوة التي صنعت العهود المظلمة. حين تُخلع راية الظلم، يُستقبل الحدث بأصوات فرحة زائفة كما لو أن الفجر قد أشرق بعد ليلٍ طويل من القهر. لكن هذه الفرحة ليست إلا تمويهًا لمرحلة انتقالية تشبه دوران عجلةٍ قديمة؛ فلا يُعاد بناء الوطن على أسس جديدة، بل تُستولى السلطة بالطرق نفسها التي أرستها الأيدي السابقة.
يُقال: انتهى العهد، وبدأ عهدٌ آخر، ولكن السؤال يبقى دائمًا: من يملك القرار؟ الأمر ليس امتيازًا وظيفيًا، بل اختبارًا صارمًا لمفهوم المشروع الوطني. ففي كل مرحلة انتقالية، حين يُسلّم من لا يؤمن بمفهوم الشراكة المساواة القرار، تُصبح البلاد ساحة انتظار معلقة بين استبدادٍ راحل واستبدادٍ قادم. لا يلبث القادم مرتدياً ثوب الثورة ليُعلن حرية الشعوب، بل يُزين نفسه بشعارات الحرية ويتلو عبارات التحرر، ثم يكشف أن القرار لم يكن أداة بناء، بل كان وسيلة قبضٍ وإقصاء.
وفي هذا السياق، يظهر بوضوح شعارٌ قد لا يليق بمستقبل الشعوب: “من يحرّر يقرّر”. فقد تحوّل هذا الشعار إلى أداة لاستلام السلطة دون تحرير حقيقي، حيث ينتقل القرار من يد إلى أخرى في عملية تسليم واستلام مدروسة؛ ليست بمثابة انفراجٍ أو استعادة لحقوق الشعوب، بل كرسمٍ آخر للإقصاء وإعادة تدوير وجوه النظام ذاته.
وفي خضم هذا الانتقال المضلل، يتكرر المشهد ذاته: تُدار العملية من فوق، وتُقيد الأبواب أمام من لا يرضخون للوثن الجديد. يُستبدل “المحرِّر” بالمقرر”، فيُسدل الستار على كل صوت مختلف، وتُسحب الفرص من تحت أقدام الحالمين. لا يُقصى هؤلاء لأنهم ارتكبوا أخطاء فادحة، بل لأنهم رفضوا أن ينضموا إلى الدائرة الضيّقة التي تستمد شرعيتها من الولاء الفارغ.
وفي ظل هذا المنوال، لم تقتصر التجاوزات على استبدال الوجوه، بل شملت أيضًا إعادة صناعة التاريخ. ها قد أعدنا إليكم سوريا! ها قد أعدتمونا إلى سوريا، تلك سوريا التي شهدت في 12 آذار 2004 انطلاقة ثورة. أجل ثورة قياساً إلى واقع سوريا تحت ظل أعتى آلة استبدادية كانت بمثابة مقدمة للانتفاضة الكبرى، للثورة الكبرى التي ستندلع بعد بضع سنوات. حينما انطلقت الاحتجاجات في قامشلي والمدن الكردية ومدن التواجد الكردي، وتم خلال تلك الأيام تحطيم تماثيل الأسد، وإقامة وقفات احتجاجية في دمشق ودرعا؛ وقفت هذه الأحداث كرمزٍ لانطلاقة ثورة السوريين على امتداد أرض سوريا ضد النظام. تلك الثورة جاءت بقوى راديكالية كانت تحمل رسالة مختلفة عما عُرض في المراحل اللاحقة.
بحسب تصريحات قادتها، جاءت تلك الثورة من منطلقات شعبية راسخة، جاءت لتعلن انتهاء حقبة الظلم؛ بينما تحولت الفصائل التابعة لتركيا إلى أدوات ارتزاقيه، حيث كان هدفها ارتزاق المواقف بدلًا من الدفاع الحقيقي عن المطالب الثورية. وقد كانت الثورة السلمية هي التي كسرت ظهر النظام وعرته، في حين كانت مواجهات الفصائل- مع استثناء الجيش الحرّ الذي دافع في أشهر ولادته الأولى عن أهله دون أن يتبع أجندات مالية وقبل أن يسلم أول ضابط انشق عن الجيش السوري وهو المقدم حسين هرموش إلى النظام السوري- دون مساءلة تركيا: لم حدث ذلك حتى الآن؟ هؤلاء الأبطال الأوائل الذين رفضوا الإذعان للتمويل وهبوا دفاعًا حقيقيًا عن الثورة قبل أن تُشوّه بوساطة الجهات الممولة مثل تركيا وقطر وغيرها، التي حوّلت البوصلة الثورية إلى اتجاهات تخدم مصالحها الضيقة.
إنّ ما حدث في سوريا هو مرآةٌ تعكس كيف يمكن لقوى الثورة أن تنحرف عن مسارها إذا ما جُرَّدّت من روحها الحقيقية، إذا ما خضعنا للعبارات الشعارات التي تُستخدم لتسويغ الاستيلاء على القرار. ففي كل مرحلة انتقالية، يجب أن يكون القرار في يد من يؤمن بأن الوطن شراكةٌ جماعية، لا يُستعبد فيها المواطن بقرارات فردية تُفرض دون مشاركة. وإذا استمرّت السلطة في تجميع القرار بين أيادي من لا يستحقونه، فإن الشعوب لن تخرج من دائرة الانتظار التي أُرسِيت لها عبر عقودٍ من القمع والإقصاء.
الواقع صارخٌ؛ فقد تحولت الثورة التي طالما دُعيت باسم الحرية إلى عملية محاصصةٍ للسلطة، وإعادة إنتاج للمنطق القديم نفسه تحت أغلفة جديدة. وهكذا، تتكرر المأساة؛ فتظل الأبواب مغلقة أمام الأصوات المنتقدة، وتُمنح الفرص لمن يتماشى مع الرؤية المحدودة التي تفرضها الجهات الحاكمة الجديدة. فما الفرق إذًا بين المظاهر والواقع؟ الفرق يكمن في عدم سماع صوت المواطن، في استغلال الشعارات لتبرير تسليم السلطة دون تفكيك نظام القمع القديم.
ويبقى السؤال المدوي: من يقرّر؟ من يؤمن بالشعب حقًّا، ومن يريد أن يبقيه جمهورًا صامتًا؟ من يرى الوطن كمشروع تشاركي، ومن يحوّله إلى مزرعةٍ تُستغل فيها مصالح قلة على حساب أغلبية؟ إذا لم يُحسم هذا السؤال، فإن كل استلام للسلطة لن يكون إلا مرحلة مؤقتة من قيودٍ جديدة تُثقل عنق الحرية، وتعيد صياغة نفس المأساة.
إن الثورة الحقيقية لا تُقاس بعدد التظاهرات أو شعارات الانتصار، بل تُقاس بمدى تمكين المواطن من مشاركته في صنع القرار. الوطن لا يُبنى بمرسومٍ أو إعلانٍ، بل يبنى عندما يكون لكل فرد صوت، عندما تُفتح الأبواب للنقاش والحوار، وعندما يُستمع إلى الاختلاف دون خوفٍ أو قمع. وإلا، فإن ما نراه ليس انتقالًا، بل إعادة دورانٍ في الحلقة ذاتها؛ دورانٌ لا يكسر قيود النظام القديم، بل يُعيد تصويره بصورة جديدة تحت أسماء تبدو ثورية، ولكنها في جوهرها مجرد استمراريةٍ للسلطة.