بقلم:علاء الدين عبد الرزاق جنكو
ameer336@hotmail.com
ameer336@hotmail.com
كم أنا فخور وأنا الكردي المسلم أن أبدأ مقالتي بعبارة أرى حفرها في فكر وقلب كل متكلم بفمه وناطق بقلمه يرى أنه يفيد الآخرين ، تلك هي مقولة الإمام الشافعي رحمه الله : ( رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأى غيري خطأ يحتمل الصوابّ ) .
إن الاختلاف أمر لابد منه وهو كائن قديم ـ كان ولا يزال ـ يعيش معنا وينبغي أن نسلِّم به ونتكيّف معه ونحاول تطويره والانتقال به إلى الحالة الإيجابية وأن يكون هدفنا جميعاً البحث عن الحقيقة متسلحين بنقد ذواتنا قبل نقد الآخرين سواء كان فكراً أو رأياً أو شخصاً.
الاختلاف لا يتناقض مع العلاقات الطيبة ، وروابط الأخوّة القائمة بين الناس على اختلاف رؤاهم ومعتقداتهم ومذاهبهم .
فوجود الخلاف حالة صحية إذا لم يرافقه إقصاء وحرمان وأعتقد أن هذا الأمر مسلّمة أساسيّة ليس من الاختراع ذكرها هنا .
وكعادة البحوث الأكاديمية يذكر في صفحاتها الأولى وأقصد في مقدماتها أسباب اختيار الموضوع ، حتى يعلم القارئ مراد الكاتب من غير عناء وتعقيد ، وأنا مرتاح لهذا الأسلوب ، وليعذرني أولئك النفر الذين يرون أن أسلوب الغموط هو الأمثل حتى يضطر الجمهور إلى رفع مستواه التفكيري !!
فمن أهم الأسباب التي دفعتني لحمل القلم والكتابة تحت هذا العنوان هو نظرتي القديمة إلى الأسلوب الدعوي الإقصائي الذي كان ينتهجه فئةٌ من أولئك الذين كانوا يُحسَبون على الدعاة في مجتمعنا الكردي من جهة ، ونظرتي الجديدة لفئةٍ أخرى من المثقفين والكتاب الجدد المحسوبين على التيار العلماني المتنور الذين أخذوا وبامتياز محل أولئك الدعاة في نظرتهم الإقصائية تلك من جهة ثانية !!!
وقبل الخوض في بيان مشروعية الخلاف من الناحية الشرعية أود ذكر قصة ربما أغنت عن كل ما سأقوله ، وأتمنى أن يسع صدر القارئ لي وينظر إلى بضاعتي التي أعتقدها فإن أعجب بها أخذها وإلا فليترك لي شرف التعارف عليه من خلال التقاء الأفكار في عالم الحوار والنقد البناء .
يروى أن اختلافا كان يقع بين ملك من الملوك ووزيره في مسائل كثيرة حتى يشتد النزاع ، ولا يلين أحدهما لصاحبه في طرف ما يخالفه فيه ، فحضر حوارهما أحد الحكماء في ليلة وهما يتناظران في المرأة ، يعلو بها الملك إلى مصاف الملائكة ، ويهبط بها الوزير إلى منزلة الشياطين ، ويسرد كل منهما على مذهبه أدلته .
فلما علا صوتهما واشتد لجاجهما خرج ذلك الحكيم وغاب عن المجلس ساعة ثم عاد وبين أثوابه لوح ، على أحد وجهيه صورة فتاة حسناء ، وعلى الآخر صورة عجوز شوهاء ، فقطع عليهما حديثهما وقال :
أحب أن أعرض عليكما هذه الصورة ، ليعطيني كل منكما رأيه فيها ، ثم عرض على الملك صورة الفتاة الحسناء فامتدحها ، ثم التفت إلى الوزير وقد قلب اللوح خلسة من حيث لا يشعر واحد منهما بما يفعل ، وعرض عليه صورة العجوز الشمطاء فاستعاذ بالله من رؤيتها واخذ يذمها ذما قبيحا ، فهاج غيظ الملك على الوزير وأخذ يرميه بالجهل وفساد الذوق ، وقد ظن أنه يذم الصورة التي رآها هو ، فلما عادا إلى مثل ما كانا عليه من الخلاف الشديد تعرض لهما الحكيم وأراهما اللوح من جهتيه فسكن ثورتهما وضحكا كثيرا ثم قال لهما : هذا الذي انتم فيه منذ بداية الليلة ، وما أحضرت إليكم هذا اللوح إلا لأضربه لكما مثلاً لتَعْلَمَا أنكما متفقان في جميع ما كنتما تختلفان فيه ، لو أن كل منكما ينظر إلى المسائل المختلف فيها من جهتيها .
الاختلاف في القرآن الكريم :
ورد في القرآن الكريم أن الاختلاف في عمومه غير خاضع لمشيئة وإرادة الإنسان كما في قوله تعالى ({وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } هود (118) تقرر أن مشيئة الله تعالى اقتضت أن يخلق الناس جميعاً مختلفين.
ولتعميق هذا الفهم يذكر القرآن في موضع آخر { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} المائدة (48) وهذه الآية تؤكد أن الله وحده الذي صيّر هذا الاختلاف ، وجعله من ثوابت نظام هذا الكون الذي نعيش فيه .
ثم أن هذا الاختلاف لا يختص خلق الإنسان فحسب إنما هو من ثوابت نظام الخلق ، وقانون يعيش في بوتقته جميع الخلائق في هذا الكون الواسع الرحب كما ورد في قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } (28) سورة فاطر.
وبإمعان النظر في هذه الآية الكريمة يظهر التلازم بين الاختلاف وكل شيء خلقه الله سبحانه .
والإنسان كغيره من المخلوقات في دائرة هذا النظام أيضاً ، فقد خلق الله البشر مختلفين في الأشكال والأحجام والألوان والألسن { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ } الروم (22) .
وخلقهم مختلفين في الوسع والجهد والتحمل ولذا قرر القرآن الكريم أن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا بمقدار طاقتها ووسعها ، وخلقهم مختلفين في عقائدهم وقربهم وبعدهم من الله تعالى وخلقهم يختلفون في التسخير فبعضهم يسخر الآخر لخدمة أغراضه ومصالحه ، وخلقهم يختلفون ويتمايزون في القدرة على تعقّل الأمثال والحوادث .
فالاختلاف أمر طبيعي يقرره القرآن والعقل والتاريخ أيضاً .
ومن هنا فليس غريباً اختلاف البشر في الأفكار والتصورات والمعتقدات والعادات والتقاليد ولكن الغريب حقاً محاولة البعض القفز من فوق النصوص الشرعية من آيات وأحاديث ، والعمل على جعل الناس كلهم يؤمنون بفكر واحد وثقافة واحدة ومعتقدات واحدة وقيادة واحدة ونيّة واحدة .أو العمل على مبدأ من ليس معي فهو ضدي !!
قد أختلف معك في الرأي ولكن ……
عليك أن تأخذ بعين الاعتبار أني أمامك لحم ودم ولست قطعة فحم ترغب في زيادة إفحامها ، بل تلتزم آداب الحوار اللازمة لإنجاحها .
ومن أهم تلك الآداب على الإطلاق احترام الرأي الآخر ، وعدم الجزم بصواب رأيك تجاه الطرف المقابل .
ومن الآداب الأخرى التي قررها القرآن :
الأدب الأول : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الحجرات:11).
وهنا دعوة إلى عدم الدخول في عالم السّخرية، لأنّ من أختلف مع آخر ، قد يكون خصمه أفضل وأحبّ وأكرم عند الله عزّ وجلّ، وعليه أن يكبح جماح نفسه، ولا يتصور أنّ خصمه هو المسيء، والمتّهم، والمتورّط، لأن هذه النّظرة هي السّخرية بعينها، والتّنابز ، والاتّهام ، والاسم الفسوق ، المنهي عنها كما في الآية السالفة .
والأدب الثاني :{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ }(الحجرات:12).
عندما يختلف المرء مع غيره في موقف، لا يجوز أن يكون هذا الاختلاف مبنيّاً على الظّنّ، وإلاّ فآثم من يظن ، وإن وقع في التّنابز بالألقاب، فهو في الفسوق واقع.
إذاً هناك أدب خالص يُطالب القرآن الكريم التمسّك به والحفاظ عليه ولا يضير الاختلاف في الرأي، والذي يضير هو عدم التّمسّك بالهدى القرآني فيقع من لم يلتزم به في حظيرة الفسوق والظّلم والإثم.
الأدب الثالث : {وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ ؟ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ } .
(الحجرات:12).
فالآية الكريمة لم تقصتر حرمة الإساءة للمحاور أثناء وجوده فحسب بل تعدى ذلك إلى ما بعد غيابه وهذا يعتبر قمة الاحترام وسنام الرقي الذي لم يصل إليه كثير من المبادئ والأنظمة والقوانين !!
فوا أسفاي على مبدأ مثل هذا تخلى عنه من ينسبون إليه ، وطوَّلوا الألسنة عليه .
هذا هو الإرهاب بعينه !!!
نعم أحترم كل من يحمل فكراً واعتقاداً ومذهباً مخالفاً لي ، هكذا رباني أبي منذ نعومة أظفاري ، ومع الأيام اختلطت ببعض ممن يحملون مبادئ علمانية من خلال علاقاتي بجيل عشت معه كنت وما زلت أحترمه .
وفهمت بان العلمانية هي فصل الدين عن السياسة وفق مبدأ الدين لله والوطن للجميع ، ورغم تحفظاتي على هذا المبدأ ، تعاملت معه بإيجابية في بعض الأحيان عندما أرى أنه يكون علاجاً لوضع متأزم ، لكن الذي لاح لي أن التوجه العلماني في مجتمعنا الكردي خاصة في المرحلة الراهنة لم يقف على الحياد من مسألة الدين وفصله عن الحياة حتى بات كثير من كتابنا الأعزاء مَنْ جعل الدين العدو الوهمي لهم لضمان استمراريتهم ،وإبراز عضلاتهم في ميدان النقد والحوار .
فراح البعض من علمانيينا يطالبون بإقصاء من يحملون التوجهات السياسية برؤية دينية ، مستغلين الوضع العالمي في محاربة الإرهاب .
علما أن الشعب الكردي بأكمله – المتدينون والعلمانيون – بعيدون عن كل ما يمت للإرهاب بصلة ، وتشهد حروبهم مع خصومهم على ذلك .
وأما ظاهرة الإرهاب الديني فهي دخيلة علينا وبإذن الله تخلص شعبنا منها وإلى الأبد ..
أما أن نتهم كل من يخالف وجهة نظر معينة ، ويبدي رؤية مخالفة بأنه إرهابي ….
فأعتقد أن ذلك هو الإرهاب بعينه !!
وإذا كنت بدأتُ مقالتي بقول من أتعبد الله على مذهبه ، فها أنا أختمها – وبكل فخر – بمقولة من أخالفه دينا ومذهبا ذاك هو فولتير صاحب المقولة المشهورة : قد أختلف معك في الرأي لكني مستعد للتضحية بروحي في سبيل حقك في الدفاع عن رأيك …
فوجود الخلاف حالة صحية إذا لم يرافقه إقصاء وحرمان وأعتقد أن هذا الأمر مسلّمة أساسيّة ليس من الاختراع ذكرها هنا .
وكعادة البحوث الأكاديمية يذكر في صفحاتها الأولى وأقصد في مقدماتها أسباب اختيار الموضوع ، حتى يعلم القارئ مراد الكاتب من غير عناء وتعقيد ، وأنا مرتاح لهذا الأسلوب ، وليعذرني أولئك النفر الذين يرون أن أسلوب الغموط هو الأمثل حتى يضطر الجمهور إلى رفع مستواه التفكيري !!
فمن أهم الأسباب التي دفعتني لحمل القلم والكتابة تحت هذا العنوان هو نظرتي القديمة إلى الأسلوب الدعوي الإقصائي الذي كان ينتهجه فئةٌ من أولئك الذين كانوا يُحسَبون على الدعاة في مجتمعنا الكردي من جهة ، ونظرتي الجديدة لفئةٍ أخرى من المثقفين والكتاب الجدد المحسوبين على التيار العلماني المتنور الذين أخذوا وبامتياز محل أولئك الدعاة في نظرتهم الإقصائية تلك من جهة ثانية !!!
وقبل الخوض في بيان مشروعية الخلاف من الناحية الشرعية أود ذكر قصة ربما أغنت عن كل ما سأقوله ، وأتمنى أن يسع صدر القارئ لي وينظر إلى بضاعتي التي أعتقدها فإن أعجب بها أخذها وإلا فليترك لي شرف التعارف عليه من خلال التقاء الأفكار في عالم الحوار والنقد البناء .
يروى أن اختلافا كان يقع بين ملك من الملوك ووزيره في مسائل كثيرة حتى يشتد النزاع ، ولا يلين أحدهما لصاحبه في طرف ما يخالفه فيه ، فحضر حوارهما أحد الحكماء في ليلة وهما يتناظران في المرأة ، يعلو بها الملك إلى مصاف الملائكة ، ويهبط بها الوزير إلى منزلة الشياطين ، ويسرد كل منهما على مذهبه أدلته .
فلما علا صوتهما واشتد لجاجهما خرج ذلك الحكيم وغاب عن المجلس ساعة ثم عاد وبين أثوابه لوح ، على أحد وجهيه صورة فتاة حسناء ، وعلى الآخر صورة عجوز شوهاء ، فقطع عليهما حديثهما وقال :
أحب أن أعرض عليكما هذه الصورة ، ليعطيني كل منكما رأيه فيها ، ثم عرض على الملك صورة الفتاة الحسناء فامتدحها ، ثم التفت إلى الوزير وقد قلب اللوح خلسة من حيث لا يشعر واحد منهما بما يفعل ، وعرض عليه صورة العجوز الشمطاء فاستعاذ بالله من رؤيتها واخذ يذمها ذما قبيحا ، فهاج غيظ الملك على الوزير وأخذ يرميه بالجهل وفساد الذوق ، وقد ظن أنه يذم الصورة التي رآها هو ، فلما عادا إلى مثل ما كانا عليه من الخلاف الشديد تعرض لهما الحكيم وأراهما اللوح من جهتيه فسكن ثورتهما وضحكا كثيرا ثم قال لهما : هذا الذي انتم فيه منذ بداية الليلة ، وما أحضرت إليكم هذا اللوح إلا لأضربه لكما مثلاً لتَعْلَمَا أنكما متفقان في جميع ما كنتما تختلفان فيه ، لو أن كل منكما ينظر إلى المسائل المختلف فيها من جهتيها .
الاختلاف في القرآن الكريم :
ورد في القرآن الكريم أن الاختلاف في عمومه غير خاضع لمشيئة وإرادة الإنسان كما في قوله تعالى ({وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } هود (118) تقرر أن مشيئة الله تعالى اقتضت أن يخلق الناس جميعاً مختلفين.
ولتعميق هذا الفهم يذكر القرآن في موضع آخر { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} المائدة (48) وهذه الآية تؤكد أن الله وحده الذي صيّر هذا الاختلاف ، وجعله من ثوابت نظام هذا الكون الذي نعيش فيه .
ثم أن هذا الاختلاف لا يختص خلق الإنسان فحسب إنما هو من ثوابت نظام الخلق ، وقانون يعيش في بوتقته جميع الخلائق في هذا الكون الواسع الرحب كما ورد في قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } (28) سورة فاطر.
وبإمعان النظر في هذه الآية الكريمة يظهر التلازم بين الاختلاف وكل شيء خلقه الله سبحانه .
والإنسان كغيره من المخلوقات في دائرة هذا النظام أيضاً ، فقد خلق الله البشر مختلفين في الأشكال والأحجام والألوان والألسن { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ } الروم (22) .
وخلقهم مختلفين في الوسع والجهد والتحمل ولذا قرر القرآن الكريم أن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا بمقدار طاقتها ووسعها ، وخلقهم مختلفين في عقائدهم وقربهم وبعدهم من الله تعالى وخلقهم يختلفون في التسخير فبعضهم يسخر الآخر لخدمة أغراضه ومصالحه ، وخلقهم يختلفون ويتمايزون في القدرة على تعقّل الأمثال والحوادث .
فالاختلاف أمر طبيعي يقرره القرآن والعقل والتاريخ أيضاً .
ومن هنا فليس غريباً اختلاف البشر في الأفكار والتصورات والمعتقدات والعادات والتقاليد ولكن الغريب حقاً محاولة البعض القفز من فوق النصوص الشرعية من آيات وأحاديث ، والعمل على جعل الناس كلهم يؤمنون بفكر واحد وثقافة واحدة ومعتقدات واحدة وقيادة واحدة ونيّة واحدة .أو العمل على مبدأ من ليس معي فهو ضدي !!
قد أختلف معك في الرأي ولكن ……
عليك أن تأخذ بعين الاعتبار أني أمامك لحم ودم ولست قطعة فحم ترغب في زيادة إفحامها ، بل تلتزم آداب الحوار اللازمة لإنجاحها .
ومن أهم تلك الآداب على الإطلاق احترام الرأي الآخر ، وعدم الجزم بصواب رأيك تجاه الطرف المقابل .
ومن الآداب الأخرى التي قررها القرآن :
الأدب الأول : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الحجرات:11).
وهنا دعوة إلى عدم الدخول في عالم السّخرية، لأنّ من أختلف مع آخر ، قد يكون خصمه أفضل وأحبّ وأكرم عند الله عزّ وجلّ، وعليه أن يكبح جماح نفسه، ولا يتصور أنّ خصمه هو المسيء، والمتّهم، والمتورّط، لأن هذه النّظرة هي السّخرية بعينها، والتّنابز ، والاتّهام ، والاسم الفسوق ، المنهي عنها كما في الآية السالفة .
والأدب الثاني :{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ }(الحجرات:12).
عندما يختلف المرء مع غيره في موقف، لا يجوز أن يكون هذا الاختلاف مبنيّاً على الظّنّ، وإلاّ فآثم من يظن ، وإن وقع في التّنابز بالألقاب، فهو في الفسوق واقع.
إذاً هناك أدب خالص يُطالب القرآن الكريم التمسّك به والحفاظ عليه ولا يضير الاختلاف في الرأي، والذي يضير هو عدم التّمسّك بالهدى القرآني فيقع من لم يلتزم به في حظيرة الفسوق والظّلم والإثم.
الأدب الثالث : {وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ ؟ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ } .
(الحجرات:12).
فالآية الكريمة لم تقصتر حرمة الإساءة للمحاور أثناء وجوده فحسب بل تعدى ذلك إلى ما بعد غيابه وهذا يعتبر قمة الاحترام وسنام الرقي الذي لم يصل إليه كثير من المبادئ والأنظمة والقوانين !!
فوا أسفاي على مبدأ مثل هذا تخلى عنه من ينسبون إليه ، وطوَّلوا الألسنة عليه .
هذا هو الإرهاب بعينه !!!
نعم أحترم كل من يحمل فكراً واعتقاداً ومذهباً مخالفاً لي ، هكذا رباني أبي منذ نعومة أظفاري ، ومع الأيام اختلطت ببعض ممن يحملون مبادئ علمانية من خلال علاقاتي بجيل عشت معه كنت وما زلت أحترمه .
وفهمت بان العلمانية هي فصل الدين عن السياسة وفق مبدأ الدين لله والوطن للجميع ، ورغم تحفظاتي على هذا المبدأ ، تعاملت معه بإيجابية في بعض الأحيان عندما أرى أنه يكون علاجاً لوضع متأزم ، لكن الذي لاح لي أن التوجه العلماني في مجتمعنا الكردي خاصة في المرحلة الراهنة لم يقف على الحياد من مسألة الدين وفصله عن الحياة حتى بات كثير من كتابنا الأعزاء مَنْ جعل الدين العدو الوهمي لهم لضمان استمراريتهم ،وإبراز عضلاتهم في ميدان النقد والحوار .
فراح البعض من علمانيينا يطالبون بإقصاء من يحملون التوجهات السياسية برؤية دينية ، مستغلين الوضع العالمي في محاربة الإرهاب .
علما أن الشعب الكردي بأكمله – المتدينون والعلمانيون – بعيدون عن كل ما يمت للإرهاب بصلة ، وتشهد حروبهم مع خصومهم على ذلك .
وأما ظاهرة الإرهاب الديني فهي دخيلة علينا وبإذن الله تخلص شعبنا منها وإلى الأبد ..
أما أن نتهم كل من يخالف وجهة نظر معينة ، ويبدي رؤية مخالفة بأنه إرهابي ….
فأعتقد أن ذلك هو الإرهاب بعينه !!
وإذا كنت بدأتُ مقالتي بقول من أتعبد الله على مذهبه ، فها أنا أختمها – وبكل فخر – بمقولة من أخالفه دينا ومذهبا ذاك هو فولتير صاحب المقولة المشهورة : قد أختلف معك في الرأي لكني مستعد للتضحية بروحي في سبيل حقك في الدفاع عن رأيك …
الإمارات العربية المتحدة
22 / 3 / 2006