بوصلة الرؤى

إبراهيم اليوسف 

إن التمايز الذي تم بين المثقفين، بعيد اندلاع الثورات العارمة، من حولنا، جعلنا، وجهاً لوجه أمام ثلاثة نماذج منهم: أحدهم سرعان ما يتلمس جراحات أهله وذويه، ولم يتباطأ، ولم يتردد، في اتخاذ الموقف المطلوب، فانخرط في لجة  الفعل الثوري، عبر خطابه، سواء أكان كاتباً، أم شاعراً، أم فناناً، من دون أي تردد، بيد أن الأنموذج الثاني راح يتصرف عكس ما اختاره الأنموذج الأول، إذ انحاز إلى جانب آلة الاستبداد، متصامماً، ومتعامياً، ومتبلداً، إزاء كل ما يتم بحقّ ذويه، من دفعِ عالِ من قبلهم للضريبة، دماً، واعتقالاً، ومطاردة، ليكون هناك أنموذج يمكن وسمه بأنه “بين بين”، يدرك اللوحة أمامه، كاملة، بما تحمله من توترات وتناقضات، ويدرك مكمن الخطأ، في داخله، كما يبصر طريق الصواب، بيد أن طبيعته الزئبقية تمنعه  من حسم الأمر، وتوجيه بوصلته في الاتجاه الصحيح .

وإزاء أية معاينة، لطبيعة مثل هذه النماذج المشار إليها، كلها، بشيء من الأناة، والتدقيق، تكشف عن أن عامل المنفعة، هو الذي يكمن وراء اتخاذ رؤيته، وإن كان هذا العامل يتدرَّج بين مديين واسعين، يتراوحان بين مئة وثمانين درجة، هندسياً، حيث ثمة من ينطلق بتمترسه وراء موقفه، من منفعة محض ذاتية، وهو يمارس في صميمه اللاأبالية، تجاه الآخرين، حتى وإن كان قد تعكز، طويلاً، خلال فترات تكسبه على خطاب الذود عن هؤلاء، كمجرد وسيلة لتحقيق مآربه .

كما أن عامل المنفعة نفسه، يشكل دفعاً لمن يتبنى خطاب الآخرين، من حوله، وإن كان في مثل هذه الممارسة، يتم إلغاء المنفعة الذاتية، الآنية، المفترضة، عند هذا الأنموذج، بأخرى، هي منفعة  الجماهير العريضة، الأبقى، وهي في جوهرها أسُّ أيِّ خطاب غيري، يعدُّ الأبقى، على الدوام، لأن صاحبه يترفع عن الخضوع لسطوة غواية المغريات، الخاوية، التي طالما استخدمت لحرف المثقف، عن أداء واجبه، وإيقاعه في فخ فقدان المصداقية .

وفي المقابل، نجد أن الأنموذج الذي يقف في وسط المعمعة، ولا يجرؤ بحكم بنيته أن يحسم أمره، في اتخاذ الموقف، الصائب أو الخاطىء، موهماً بالتواشج مع النقيضين، في آن واحد، وهذا ما لايمكن أن يكون صائباً، إزاء القضايا الكبرى التي تتعلق بالحكم الأخلاقي على ثنائية: القاتل والضحية، إذ لابد من إبداء حكم واحد، لا ثاني له، لاسيما عندما يكون القاتل مستبداً، والقتيل طالب حرية .

إن مواقف مثل هذه النماذج الثلاثة، هي التي تحدد القيمة الأخلاقية، لكل منهم، على حدة، وإذا كان الأنموذج المستأثر بمنفعته الضيقة، يجني على نفسه، عبر سلوكه، إلا أنه يبقى- في المحصلة- واضحاً، للوهلة الأولى، ولا داعي لبذل المزيد من الجهد للكشف عنه، كما هو حال المتفاني، المنحاز للآخرين، مهما كانت ضريبة ذلك، ليبقى الأنموذج الأكثر شذوذاً، وانحرافاً، وضبابية، هو الأنموذج غير القادر على التقاط الموقف المطلوب، حتى وإن أبدع آلاف النظريات التسويغية، التي تجعله غير فاعل، متربصاً، واقفاً على الرصيف، لينخرط في أي اتجاه يسجل النصر، ولا فرق في عرفه بين السارق والمسروق، والظالم والمظلوم، ما دامت بوصلته هي المنفعة، وهذا هو الأنموذج الأخطر .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

خليل مصطفى الكلام لأبناء الأُمَّة السُّورية (المُسلمين والمسيحيين والعلمانيين): أوَّلاً ــ منذ عام 2011 وهُم يرفعون شعارات الديمقراطية والوطنية، ولا زالوا لتاريخه (2024)… ومع ذلك لم نجدهُم قد حرَّكُوا ساكناً.؟! ثانياً ــ مِنْ المُعيب (بل المُخجل) أنهُم لا يتمعَّنون بواقع حياتهم المأساوية.؟ وعليه فمن مُنطلقات الديمقراطية والوطنية نسألهُم: إلى متى سيظل الظَّلام مُخيِّماً عليهم.؟ وإلى متى ستظل قلوبهُم وعقولهُم مُغلقة.؟…

سعيد عابد مع تكثيف الضغوط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في إيران، أصبحت الهجرة استجابة واسعة النطاق في جميع شرائح المجتمع. من العمال المهرة إلى أصحاب الأعمال، يستكشف العديد من الإيرانيين طرق مغادرة البلاد بحثاً عن الاستقرار والفرص في أماكن أخرى. ويشمل جزء كبير من هذا الاتجاه الشباب، حيث اختار العديد من الشباب الإيرانيين التعليم كمسار للهجرة. في المقابل، تتخذ السلطات الإيرانية…

د. عبدالحكيم بشار يخطأ من يظن بأن أمريكا هي فقط دولة المؤسسات وأن الأفراد لا دور لهم، أو أن الدولة العميقة وحدها من تدير كل الأمور في ذلك البلد، أو القول : إن أيَّ رئيس هو مجرد موظَّف كبير في البيت الأبيض، وأن السياسة الأمريكية تُرسم في مكان آخر في أمريكا غير المكان الذي يُقيم فيه الرئيس طوال سنوات حكمه،…

صلاح بدرالدين خلال الانتخابات البرلمانية في ١ كانون الأول عام ١٩٦١ ، وكانت اخر انتخابات حرة في تاريخ سوريا ، وعندما ترشح الراحل الدكتور نورالدين ظاظا عن حزبنا (الحزب الديموقراطي الكردي في سوريا) أتذكر انني كنت في عداد – وكيل متنقل – لحملته وليس وكيلا رسميا ثابتنا بسبب مانع قانوني وهو صغر سني ، وكنت اتنقل بين مراكز الاقتراع ،…