فقط في سوريا : السلطة تحاور السلطة

مصطفى إسماعيل

انتهى اللقاءُ التشاوري الذي أطلقتهُ هيئةُ الحوار الوطني الحكومية الرسمية, لمْ يشكل اللقاءُ علامةً فارقةً في الأزمة السورية, ولا يمكنُ بناءً على ذلك, الحديثُ عن ما قبل وما بعد اللقاء التشاوري سورياً, فاللقاءُ الذي أفترضَ أن يكون الجولة الأولى في حوار السلطة السورية مع أطياف المجتمع السوري لمْ يكُ على طاولته أطيافُ المعارضة السورية, ولا المثقفون أو الشخصيات الوطنية المستقلة التي لا تضربُ بسيف السلطة, بل اقتصرَ على اللون الواحد (ما عدا استثناءاتٍ طفيفة).
 لهذا تمخض جبل الحوار عن فأر, وولد الحوار الوطني ميتاً, فلا يُعقلُ لحلِّ أزمةٍ متفاقمة في البلاد أنْ تجلسَ السلطةُ إلى السلطةِ, أو أنْ تتحاورَ السلطةُ معَ السلطةِ, هذا يحدثُ في سوريا فقط, وهذا يعني أنَّ السلطة قدْ قررت أن تصبحَ هي والشارعُ السوريُّ خطين متوازيين لا يلتقيان, وبالتالي إدامةُ الأزمةِ السورية إلى مزيدٍ من التدهور السياسي والاجتماعي والاقتصادي, فلا يُمكنُ وضعُ الأصبع على الجرح بحوارٍ من نوعية سقط المتاع.

حوارٍ خلبي خليقٍ بجعله حلقة في مسلسلٍ درامي سوري لا يتابعهُ أحد.

اللقاء التشاوري الذي دعت إليه السلطة, ونظمته السلطة, وتكفَّلتْ بنفقاته السلطة, وحاورت فيه مُواليها وهم طائفة من الببغاوات لا يرددون سوى معزوفات السلطة, لمْ يكُ موجهاً إلى الداخل السوري, بل إلى الخارج, وإلى مراكز القرار العالمية المهتمة بتداعيات المشهد السوري, فالسلطة لا تحتاج إلى حوارٍ معَ الداخل.

الحوارُ في الداخل موجودٌ أصلاً, وقائم على قدم وساق, فالدبابات والهراوات والشبيحة والمخابرات والجيش يتحاورون مع السوريين حتى قبل صدور المرسوم التشريعي المؤسس لهيئة الحوار الوطني التي نظمت اللقاء المذكور.
لكي يكتملَ مشهدُ اللقاء التشاوري لم يكُ أمام السلطة من بدٍّ إلا إحضارُ أشخاصٍ عابرين, وتنصيبهم مُمثلينَ عن شرائح وفئات وقطاعات مجتمعية, منهم نكرةٌ كوردي يترأسُ تجمعاً أو مبادرةً من ورق, أطلقهُ الأمنُ السوري قبلَ سنتين أو ثلاث لمحاولة سحب البساطِ من تحت أقدام الأحزاب الكوردية والمثقفين الكورد السوريين, وهو يغرِّدُ حين يطلب أربابه ذلك, ويُضْربُ عن التغريدِ حينَ يريدون, إنها الشعرةُ التي تُستلُ من عجين السلطة في التوقيت المناسب سلطوياً, يعرفه الشارع الكوردي جيداً ويعرفُ صحيفةَ سوابقه.
بناءً عليه وعلى ما يجري في الساحات والشوارع والأزقة السورية, بعدَ اللقاء التشاوري, وأثناءَ انعقاد جلساته, فإن ما يشبهُ الحوار الوطني ذاك وبمن حضر, كانَ لمجرَّد التقاط السلطة لأنفاسها وإعادة ترتيب أوراقها, وهذا ما أدركهُ السوريون في وقتٍ مبكر, من خلال أحزابهم العديدة وشخصياتهم الوطنية التي رفضتْ تلبية دعوة هيئة الحوار الوطني إلى اللقاء, لعلمهم أنَّ السلطة تفتقد ثقافة الحوار الحقيقي والجاد وتغليب المنطق والعقل, وليست في وارد التنازل عن ثوابتها ولاءاتها تجاه الشعب.
لا يمكنُ للسلطة التعاملُ مع الداخل الوطني وكأنَّها الخصمُ والحكمُ في آن, لا يمكنُ أن تدعو إلى الحوار من أجل الانتقال الديمقراطي, فيما دباباتها تطوِّق العديد من المدن, وتعيدُ اكتشاف جبهات قتالية ليستْ بينها حكماً جبهة الجولان, ويعيدُ الجيش الوطني المُختزلُ إلى جيشِ سلطة الانتشارَ في الداخل السوري, وكأنَّ الخطرَ الداهمَ والعدو المُحتاط له يكمنُ في الداخلِ وليسَ على تخوم الوطن.

لا أفقَ إذن أمامَ أيَّ حوارٍ وطني تجلسُ على طاولتهِ السلطة بذهنيتها المُتقادمة, فيما ترتفعُ درجة حرارة البلاد من أقصاها إلى أقصاها, وترتفعُ أعداد الضحايا والمصابين والنازحين والمعتقلين إلى مستويات قياسية ومخاوف قياسية وقلق قياسي غير معهود.
أيّ حوارٍ وسطَ سِفر المحنة السوري الحالي, هوَ مُحاولةٌ لحرق المراحل, هوَ محاولة للوثبِ فوقَ البداهات الوطنية الراسخة التي يُهجسُ بها للمرة الأولى بهذه الحِدة والصخب, هوَ استمرارٌ في مُخططِ مُصادرةِ وطنٍ لأجلِ امتيازاتِ أليغارشية يبدو أنها وضعتْ نفسها في كفّة ميزانٍ وفي الكفةِ الأخرى مُستقبلَ 23 مليونَ سوري.
mbismail2@gmail.com

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

كفاح محمود منذ تأسيس كثير من دول الشرق الأوسط خاصة تلك التي أُسّست نتيجة اتفاقية سايكس بيكو وخرائطها المفروضة بمبضع بريطاني فرنسي تركي، والأنظمة التي تكوّنت على إثرها عانت وما تزال تعاني من عقدة مركّبة بين هوية الدولة وأزمة نُخَبِها السياسية والثقافية ومفهوم المواطنة والانتماء، ومن أبرز ظواهرها التغييرات الدموية في الأنظمة السياسية التي حكمتها منذ منتصف القرن الماضي وحتى…

بدعوة من لجان تنسيق مشروع حراك ” بزاف ” لاعادة بناء الحركة الكردية السورية ، التامت الندوة الافتراضية الموسعة الثانية ليلة الثالث والعشرين من الشهر الجاري بمشاركة نحو أربعين شخصية وطنية مستقلة ، من بنات وأبناء شعبنا الكردي السوري ، من الداخل وبلدان الشتات ، ومن مختلف الفئات الاجتماعية ، وناشطي المجتمع المدني ، الذين تحاوروا بكل حرية ، وابدوا…

اعتبر الزعيم الكوردي رئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني مسعود بارزاني، يوم الجمعة، أن الارضية باتت مهيأة لإجراء عملية سلام شامل في منطقة الشرق الأوسط للقضية الكوردية. جاء ذلك في كلمة ألقاها خلال انطلاق أعمال منتدى (السلام والأمن في الشرق الأوسط – MEPS 2024) في الجامعة الأمريكية في دهوك. وقال بارزاني، في كلمته إنه “في اقليم كوردستان، جرت الانتخابات رغم التوقعات التي…

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….