سربست نبي
sarnabi@gmail.com
إذ قدّ الدستور السوري الحالي على مقاس دستور حزب البعث, بل يمكن عدّه مجرد حواشٍ على متنه الأيديولوجي.
وتميّز بهيمنة الأيديولوجية القومية العنصرية عليه, و التي تؤكد سيادة عنصر قومي دون غيره، وربط المواطنة السورية واختزالها في مطالب الأيديولوجية العروبية.
في الفقرة (1) من المادة الأولى تحدد اسم الدولة بـ(الجمهورية العربية السورية) وفي الفقرة (2) منها (القطر العربي السوري هو جزء من الأمة العربية) وعلى كل فرد سوري جدير بالمواطنة أن يلتزم العمل من أجل وحدة الأمة الشاملة, فـ(المواطنون في الجمهورية العربية السورية هم فقط العاملون من أجل الوحدة العربية الشاملة).
وفي المادة (4) (اللغة العربية هي اللغة الرسمية), حيث تمّ تجاهل وجود أية لغات قومية أخرى في البلاد وإنكارها.
وتُلزم جميع المواد التالية (116-96-90-63-7): رئيس الجمهورية, ورئيس الوزراء والوزراء ونوابهم, وأعضاء مجلس الشعب, عبر القسم الدستوري بالعمل على تحقيق أهداف الأمة العربية في الوحدة والحرية والاشتراكية.
كذلك الأمر مع المادة (11) الخاصة بمسؤوليات القوات المسلحة.
وفي الاقتصاد والتخطيط الاقتصادي المادة (13), كما في التعليم والثقافة طبقاً للمادة (21) حيث ورد: (يهدف نظام التعليم والثقافة إلى إنشاء جيل عربي قومي اشتراكي، علمي التفكير, مرتبط بتاريخه, معتز بتراثه، مشبع بروح النضال من أجل تحقيق أهداف أمته في الوحدة والحرية والاشتراكية).
والمادة (23) (الثقافة القومية الاشتراكية أساس بناء المجتمع العربي الاشتراكي الموحد, وهي تهدف إلى تحقيق القيم الأخلاقية والمثل العليا للأمة العربية), وحتى في النطاق القضائي بينما كانت الأحكام تصدر فيما مضى باسم (الشعب السوري) صارت بموجب المادة (132)(من الدستور الحالي تصدر باسم (الشعب العربي في سوريا).
وماذا بعد كل هذه الـ(بعثنة) العروبية للبلاد, التي استعانت بكل تقنيات احتكار السلطة من النازية واستلهمت ممارساتها الأيديولوجية وخبراتها البيروقراطية!!!
بات التغيير حتمياً في سوريا, مثلها في ذلك مثل الدول الأخرى.
وكما يشير مسار تطور حركة الاحتجاج في الشارع السوري فإن المآل الحتمي لنظام الاستبداد هو التغيير, نظير أنظمة الاستبداد التي تداعت تحت ضربات السخط الشعبي وغضب الشارع.
فهذا النظام باق حتى الآن في الظاهر فحسب, لكن بقاءه ليس دليل قوته, إنما العكس دليل ضعفه, وهو يستمر بفضل ضعفه هذا, إنه هشّ إلى حدّ كبير في الداخل.
وبات هذا التغيير أقرب الآن بالنسبة إلى الشعب الكوردي خصوصاً أكثر من أي وقت مضى.
بموازاة ذلك أخذ يعي بعمق ضرورة تخطي وضعه الراهن المذلّ، نحو وضعٍ يليق بكرامته الإنسانية.
معضلة الكورد السوريين لم تعد, بعد الآن, مع نظام الاستبداد العنصري في سوريا, لأن مسألة بقاء هذا النظام من عدمه غدت مسألة وقت ليست إلا.
إنما المعضلة الرئيسة هي مع تركة النظام السياسية والاجتماعية, من استعباد وتشويه وإقصاء وتعريب للكورد والجغرافية الكوردية….الخ التي ينبغي أن تزول بزوال النظام, وهذا هو المحك الذي ينبغي لأيّ نظام بديل ومحتمل أن يثبت جدارته الديمقراطية وشرعيته الوطنية الشاملة عليه.
فما يبدو جوهريّاً بالنسبة لنا وحيوياً بالنسبة لمستقبل قضيتنا هو إعلان الثورة أولاً على تركة النظام العنصري.
من هذا المنطلق تبدو مسألة التغيير من أجل ذاته (التغيير من أجل التغيير) عبثية وتشكل خيانة وطنية وإنسانية, لأن الغاية القصوى التي يبرر بها التغيير تنبع من مبدئها، وهي التخلص من الاستبداد السياسي- العنصري وميراثه, والإتيان بنظام ديمقراطي- تعددي يقوم على المساواة بين المواطنين ويضمن اختلافهم.
وهذه المساواة المنشودة لا تتجه بأثرها نحو مطالب المستقبل فحسب حتى يضمن الكورد حقوقهم المشروعة والعادلة, وإنما يتعين أن تتحقق كذلك بأثر رجعي, وذلك عبر إزالة آثار الغبن القومي والاضطهاد الذي تراكم خلال عقود من سياسات البعث.
وعليه يبدو ضرورياً وأمراً ملحاً أن تتطهر تماماً الدولة السورية, مستقبلاً, من ماضيها الاستبدادي والعنصري, وتتخلص من ميراث التعسف بحق الكورد، عبر مجموعة من التدابير السياسية والتشريعية، وحتى الرمزية, التي تؤهلها لأن تكون دولة عموم مواطنيها, وتثبت على هذا النحو أنها مستقلة عن كل المظاهر الأيديولوجية والعنصرية التي طبعتها بطابعها.
ما يجدر ذكره, في هذا السياق, أنه ليس ثمة بينة أو قرينة تنبئ عن استعداد المعارضة العربية السورية على الاعتراف بالحقوق القومية للكورد السوريين, أو إعلان القطيعة مع ميراث البعث العنصري وسياساته الإنكارية تجاه الكورد وقضيتهم حتى هذه اللحظة.
وهذه القوى حين تجد نفسها مرغمة على الحديث عن الشأن الكوردي السوري إنما تتحدث بطريقة عمومية وضبابية أقرب ما تكون إلى تصريحات وزراء أعلام حكومة البعث وناطقيه.
هذا هو شان البيان الصادر باسم (اللجنة التحضيرية لهيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الوطني الديمقراطي في سورية), الذي وقع عليه خمسة أحزاب كوردية إلى جانب القوى القومية العربية المعارضة, ومما جاء في الشأن الكوردي…(… الوجود القومي الكردي في سورية جزء أساسي وتاريخي من النسيج الوطني السوري، الأمر الذي يقتضي إيجاد حل ديمقراطي عادل للقضية الكردية في إطار وحدة البلاد أرضاً وشعباً، والعمل معاً لإقراره دستورياً، وهذا لا يتناقض البتة مع كون سورية جزءاً لا يتجزأ من الوطن العربي).
هنا نتساءل بحياد تام, هل هناك في القاموس العلمي (السياسي, التاريخي, الجغرافي, القانون الدولي) مصطلح علمي اسمه( الوطن العربي) سوى القاموس الأيديولوجي لحزب البعث العروبي, وفي أوهامه التوسعية؟ مقولة ( الوطن العربي) هي مقولة عروبية- بعثية- ناصرية مئة بالمئة, وليس لها تداول خارج أدبيات هذا الاتجاه الأيديولوجي.
ثم هل يمكن تحديد مفهوم( الوطن العربي) علمياً؟ دون تبني الأمنيات والرؤى الأيديولوجية للبعثيين؟ هل هناك سوى الكلام عن شعار يمتد خياله التوسعي من( من المحيط للخليج)؟ وهذا مرفوض واقعياً وديمغرافياً وسياسياً وتاريخياً, ليس مني وحسب, بل وأيضاً من مجمل الشعوب التي تعيش على هذه الجغرافية..
القول بـ (الوطن العربي) يعني ببساطة تبني القوى الكوردية التصور الأيديولوجي للبعث لديمغرافية المنطقة التي تشمل الشرق الأوسط وشمال افريقيا.
وهذا كلام فارغ علينا ألا نخدع أنفسنا به.
ولا أستطيع أن أخفي دهشتي من قبول بعض الساسة الكورد به دون تمحيص أو تدقيق؟ ففي هذا القبول مصادرة على التاريخ وحقائقه.
ناهيكم عن أن في هذا الإقرار مصادرة على مستقبل شعب وعلى حقه في تقرير مصيره وهو مالا يتجرأ أي فرد على فعله دون أن يكون فاقداً للحس بالتاريخ والمسؤولية التاريخية.
ليس ثمة خلاف في أن الجميع يريدون أن يكونوا سوريين بالفعل, وتكون سوريا وطن الجميع لكن أية سورية؟ هذا هو السؤال المحك, سوريا التي يريدها (حسن عبد العظيم) وغيره من القوميين أن تكون مجرد منظمة عروبية ملحقة بأوهامهم الأيديولوجية, التي شكلت طوال نصف قرن الهالة المقدسة للاستبداد؟؟؟ علينا ألا نقفز فوق الوقائع ونجرد مفهومنا عن الوطن بدلا من تشخيصه.
القول بأن سوريا هي ما نريد كلام مجرد وفارغ, لأن الكل يدعي أنه يريد سوريا لكن كل على هواه.
ومن يسلم بالقول: إن سوريا جزء من الوطن العربي لا أظنه يؤمن بها كوطن نهائي وحقيقي للجميع, بل أكاد أقول إنه يزدري في سرّه بهذا الوطن ولا يعترف بشرعيته السياسية والتاريخية.
فهو في حقيقة أمره لايتصور الدولة الوطنية خارج سياق تطلعاته نحو الأمة الواحدة المنشودة التي لا مكان لها إلا في مخيلة ساطع الحصري والأرسوزي وتلامذتهم المعاصرين.
والفكر القومي العروبي عموماً لايعترف إلا بتلك الدولة/ الأمة الواحدة, إن الدولة المتصوّرة في الفكر القومي العربي هي صنو الأمة, تنشأ وتتطور من خلال تحرر الأمة السياسي ككل و سيرورتها نحو الوحدة القومية, لهذا يعدّ مجرد الاعتراف بالدولة الوطنية( القطرية) خيانة بنظر العروبيين وهذا هو خلاصة رؤية السيد حسن عبد العظيم والمعارضة القومية العربية.
معلومٌ أن مسألة الدولة الوطنية, ظلّت بالنسبة لهؤلاء, بمثابتها مشجب الهزيمة.
إذ كلما عصفت بالمنطقة العربية أزمة من نوع ما, يوضع مفهوم الدولة العربية (القطرية) وشرعيتها موضع البحث, ويعاد النظر في حقيقة وجودها ودورها والجدوى التاريخية من استمرارها.
ويرى هؤلاء الساسة أن عدم الاستقرار الذي تعانيه المجتمعات العربية مردّه مأزق الدولة القائمة التي تفتقر إلى الشرعية التاريخية والقومية, بدلاً من أن يبحثوا عن حقيقة الأزمة في غياب الديمقراطية والمساواة.
والخلاصة أن معظم القوميين العرب من مدرسة السيد حسن عبد العظيم ذاتها يعتقدون بأن الكثير من الدول, التي تأسست بعد انحسار النفوذ التقليدي للاستعمار الأوروبي, هي دول شكلية لها شرعية دولية, دون أن تكون كذلك تاريخياً وقومياً.
إذ نشأت ككيانات سياسية واجتماعية على نحو عرضي, ودون مبرر تاريخي أو حاجة ضرورية, واكتسبت شرعيتها من بقائها كحقيقة واقعة, حصلت بأثرها على اعتراف قانوني يسوغ وجودها, دون أن تحظى بالمقابل على أي مبرر تاريخي وقومي.
ومن ثم فإن ولادتها غدا محكوماً بخطيئة المصادفة التاريخية للأوضاع الشاذة التي, في الأصل, أعاقت المشروع النهضوي للأمة الواحدة.
بل وأكثر من ذلك غدت عثرة سياسية وتاريخية أمام تقدم شعوبها ورقيهم.
إن المسألة الأخيرة تتصل بفلسفة القوميين في التاريخ.
فكيف فسّر هؤلاء مسألة أو واقع تجزئة الأمة؟ هل انطلقوا من الواقع القائم, أم من الوهم الأيديولوجي؟ كان الجواب لديهم هو أن الأصل في الوحدة, لأن الوحدة المنسجمة هي خير محض.
ومن ثم فإن حالة التجزئة هي عارضة ومصطنعة وهي حالة شرّ وفساد.
لكن هذه الوحدة البدئية هي لديهم وحدة لا واقعية ولاتاريخية, هي إما وحدة في المشاعر وفي العوامل الروحية والأدبية, أو في الأصل والنسب والانتماء الأثني وسوى ذلك.
وقد استطاع هؤلاء أخيراً أن يستدرجوا عدداً من القوميين الكورد إلى هذا الفخ الأيديولوجي بمصادقتهم على( أن سوريا جزء من الوطن العربي).
المعارضة العربية القومية في سوريا تطالبنا بتأييد مطالبها السياسية بحزم دون الاكتراث لحقوقنا العادلة بالمقابل.
ويتعذر اليوم الحديث عن تحالف مشترك للمعارضة السورية, شامل للكورد والعرب, بغياب هذا الخطاب الديمقراطي, الجذري والشامل, الذي يحتوي مطالب الكل ويستغرقها, ويؤكد على عدالة القضية القومية للكورد السوريين.
إن الاعتقاد بسوريّة القضية الكوردية والاعتراف بها, من جانب هؤلاء, لا ينبغي أن يقوما على أساس وعي عروبي مجرد, وإنما من خلال وعي سوري مشخّص.
وعي بالمواطنة القائمة على الاختلاف والإقرار بالتعددية السياسية والتاريخية والثقافية.
وهذا الاعتقاد لا يكون ممكناً إلا عبر الإقرار الدستوري والسياسي أن هويّة سورية السياسية ليست عربية فقط, ولا ينبغي أن تكون عروبية كذلك، إنما هي تعددية.
وينبغي لأيّ نظام سياسي محتمل أن يستمدّ شرعيته من المجتمع السوري بتنوعه القومي والثقافي والاجتماعي والتاريخي القائم, وأن يجد أسسه الواقعية في هذا التنوع ويعكسه في مبادئه العامة.
وعادة ما يكون الدستور هو الناظم لهذه المبادئ العامة ولعلاقاته.
ولهذا من العدل تماماً أن ينصّ الدستور السوري مستقبلاً ويحدد بوضوح أن الدولة السورية هي دولة متعددة القوميات، وأن العرب والكورد يمثلان القوميتين الرئيستين.
إلى جانب الاعتراف بحقوق الجماعات القومية الأخرى كـ الكلدوآشوريين وغيرهم.
وأن على أيّ دستور ديمقراطي محتمل لسوريا أن يقرّ بالتساوي التامّ بين العرب والكورد في المكانة والدور, وفي الحقوق والوجبات, كمدخل عادل ورئيس لحلّ القضية القومية للكورد في سوريا.
وعليه أن ينصّ كذلك بأن البرلمان، أو أيّة سلطة أخرى, لا يملك حق المساس, بهذا المبدأ, أو يحدّ من شموليته ومن تحققه في كلّ مناحي الحياة السياسية أو الاجتماعية، وأن أيّ قانون يمسّ هذا المبدأ أو وجاهته يطعن في دستوريته, ويعدّ مخالفاً لعقد التأسيس والشراكة, وباطلاً في نهاية المطاف.
الانتماء لسوريا هو أعدل الأشياء بيننا, هذا ما ينبغي إعلانه والتأكيد عليه.
وبكل المعايير ليس هناك ممن هو سوري أكثر من سواه أو أقلّ سوريّة.
سورية هي للجميع دون تفاوت أو تفاضل.
ولا معنى لحرية أيّة جماعة من دون هذه المساواة بين الكل.
وعلى أيّ نظام سياسي محتمل يتصدى للتغيير أن يبرهن على أرض الواقع, وبصورة عملية, أن سوريا هي كورديّة بمقدار ما هي عربية, وعربية بمقدار ما ستكون كوردية.
وهي في الآن نفسه ليست كوردية, أو لن تكون كذلك, بمقدار ما لن تكون عربية وحسب.
وعدم القبول بهذه البداهة السياسية والثقافية سيقود المجتمع والدولة مجدداً إلى الخضوع لطغيان فئة أو جماعة عرقية, ويستبعد البقية.
إن طموح الكورد في المواطنة التامّة والمساواة الحقيقية لا ينبغي أن يفهم على أنه اختراع أيديولوجي أو سياسي, إنما هو شرط سياسي وتاريخي لكمال الدولة السورية ونضجها، ومقدمة لشرعيتها و استمرارها, وتجسيدها لوحدة إرادة السوريين جميعاً.
وهذا هو الجواب الحقيقي على السؤال التاريخي الكبير: هل الكيان السوري سيظلّ صالحاً لبقاء الكورد فيه أحراراً, ومتساوين مع غيرهم, دون قسرٍ، أو إنكار, أو إكراه, أو إرهاب؟ وكيف؟ هنا تبرز أهمية تكريس القناعة التالية, إن حرية الكورد ومساواتهم في سوريا هي شرط لحرية جميع السوريين ومساواتهم.
ذلك أن قضية حرية السوري بوجه خاص, وحرية السوريين بوجه عام، تتصل عميقاً بمسألة مساواة السوريين جميعاً على اختلاف انتماءاتهم, فإن لم يتساوَ الجميع يغدو الحديث عن حرية السوريين لغواً فارغاً.