سوريا وسيناريو التدخل العسكري التركي

هوشنك بروكا

لن نبالغ إن قلنا بأنّ تركيا كانت من أكثر الدول(القريبة والبعيدة) حرصاً على النظام السوري، وأكثرها جديةً في تقديم المبادرات تلو المبادرات لإخراج نظام الأسد من أزمته.

ليس لأن لتركيا مصالح إقتصادية وثقافية وديبلوماسية وأمنية كثيرة تربطها مع النظام السوري، وإنما أيضاً لأنّ سوريا تشكّل بالنسبة لها “عمقاً استراتيجياً” لا يُستهان به.

فبينهما حدودٌ طويلة وحساسة جداً تصل إلى ما يقارب ال900 كم، يتوزع على جانبيه الأكراد، الذين لا يزالون يعتبرون قضيتهم في البلدين “قضية أرض وشعب”.

فالحرص التركي على الإستقرار والثبات السوريين، نابع من هذا “العمق الإستراتيجي”، لأن استقرار تركيا مرتبط إلى درجةٍ كبيرة بإستقرار سوريا، لهذا ليس صدفةً أن يعتبر الكثير من المسؤولين الأتراك الأزمة السورية الراهنة، “مشكلةً تركية” تمس الداخل التركي، بقدر كونها مشكلة سورية.
بعد فشل الوساطة التركية بين الشعب السوري ونظامه، بسبب رفض هذا الأخير القيام بأية إصلاحات جديّة حقيقية، كما كان مطلوباً، وبعد يأس الطرف التركي من وعود الأسد التي لم يتحقق منها شيء، وتمادي نظامه في غيه، واستمراره في ركوب الحل الأمني وارتكاب المجاز والقتل بالجملة بحق المتظاهرين والمدنيين العزّل، طريقاً وحيداً للخروج من أزمته، دارت تركيا ظهرها له كليّاً، وقالت كلمتها مع “بعض” المعارضة السورية ضد النظام.
رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان(الذي حقق حزبه فوزاً كبيراً بنسبة 50.4 في الإنتخابات التشريعية للمرة الثالثة على التوالي، وبذلك سيكون قادراً على تشكيل الحكومة بمفرده، كونه سيتمتع بالغالبية المطلقة في البرلمان، أي 326 مقعداً من أصل 550) كان قد أعلن موقف بلاده قبيل الإنتخابات، عمّا يجري في سوريا بكلّ وضوح، قائلاً: “أنّ الأسد يستخف بالموقف ويصرّ على التعامل مع شعبه بوحشية”.

أردوغان قالها صراحةً بأنّ تركيا لا تستطيع الدفاع في المحافل الدولية، عمّا سماها ب”الفظاعات” التي يرتكبها النظام السوري.

ضد شعبه بوحشية.
أما الرئيس التركي عبدالله غول، فقد كان أكثر وضوحاً من أردوغان بقوله، أن “تركيا مستعدة لكلّ السيناريوهات إزاء الوضع في سوريا، سواء كانت مدنيةً أو عسكرية”.


جاء هذا بعد أقل من شهر من الموقف الذي أعلنه وزير الخارجية التركية أحمد داوو أوغلو بأنّ بلاده ترفض أي تدخل أجنبي في سوريا، لأن “أي تدخل أجنبي في بلد مثل سوريا له بنية اجتماعية متنوعة قد تكون له تداعيات مؤسفة” على حدّ قوله.
أما الآن، بعد انتهاء شهر العسل التركي السوري، فتركيا مستعدة لهكذا تدخل، مدنياً كان أو عسكرياً”، إن تطلب الأمر، على حدّ قول المسؤولين الأتراك.
نجاح أردوغان وحزبه في الإنتخابات يعني أنّ الموقف التركي تجاه “سوريا الأسد” قابل للمزيد من التصعيد والتدخل.

خصوصاً أنّ زعماء حزب العدالة والتنمية استخدموا الورقة السورية في لعبة الإنتخابات، استخداماً ذكياً، لحصاد المزيد من الأصوات في الداخل التركي.


مدنياً تدخلت تركيا في الشأن السوري خلال الأسابيع الماضية، بما فيه الكفاية.

فهي احتضنت مؤتمرات وفعاليات بعضاً من أقطاب المعارضة السورية(لا سيما الأخوان المسلمون)، وقالت قبل أسابيع أنها تنوي إقامة ملاذات للاجئين السوريين الهاربين من بطش النظام، داخل الأراضي السورية، وهي الآن تستقبلهم داخل أرضيها، وتستعد لإستقبال المزيد من اللاجئين، خصوصاً بعد إعلان أردوغان ومسؤولين أتراك آخرين، بأن بلادهم لا تنوي إغلاق الحدود مع سوريا من جانبها.

آخر الأخبار تتحدث عن نزوح حوالي 10 آلاف لاجئ سوري إلى تركيا.
بعد تصريحات المسؤولين الأتراك الأخيرة، بدأنا نسمع روايات رسمية جديدة يروّج لها النظام، تقول ب”ضبط كميات كبيرة من الأسلحة على الحدود مع تركيا” وهو ما يعني ضمنياً اتهام سوريا لتركيا بدعم ما تسميها ب”الجماعات المسلحة” التي تسعى حسب رواية النظام لإقامة إمارات سلفية في سوريا.

الروايات ذاتها، سمعنا النظام من قبل كيف يفبركها، ضد دول جارة أخرى.
تركيا كانت قد بحثت خطةً لإقامة “منطقة عازلة” على الحدود مع سوريا إذا سعى مئات الآلاف من السوريين للجوء إلى أراضيها.


دولياً تريد الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها في مجلس الأمن، ممارسة المزيد من الضغط على النظام السوري، لوقف حملات عنفه المفرط ضد المتظاهرين المناهضين له.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه ههنا، هو: هل سيرضخ النظام السوري لهكذا قرارٍ أممي، فيما لو صُدر؟
هل سيغيّر النظام السوري من سلوكه بالفعل، كما يطالبه الغرب منذ عقود؟
الواقع يقول: أنّ أشهراً من العقوبات الغربية والغضب الدولي على النظام السوري، فشلت حتى اللحظة في إقناع الأسد ونظامه بوقف إرهابه المنظّم ضد المتظاهرين العزّل.

لا بل تمادى النظام في عنفه المفرط ضد المدنيين، وحصاره للمدن بالدبابات وقصف المدنيين بالمروحيات.
شخصياً لا أعتقد أنّ النظام سيفعل ما يريده المجتمع الدولي منه.
الأسد، لن يتعامل مع أيّ قرار قد يصدر قريباً من مجلس الأمن.

هو قطع اتصالاته مع الأسرة الدولية منذ الآن.

ربما لهذا هو لا يرد على اتصالات الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون.


النظام السوري سلك الخيار الأمني العسكري، طريقاً أوحداً للخروج من أزمته: إما هو أو الخراب.

والأرجح أنه لن يتراجع عن هذا الخيار، لأن أيّ تراجع عن سلوكه هذا، سيعني سقوطه مقابل صعود الشعب.

فلا هو يرضى أن يبقى حاكماً على سوريا ب”نصف نظام”، ولا الشعب يقبل بعد كلّ هذا الخراب وسفك الدماء أن يعود إلى سوريا ما قبل الثورة، شعباً ب”نصف وطن”.
الكلّ في المجتمع الدولي، يبدو حتى الآن، متفقاً على ضرورة تجنب تكرار السيناريو الليبي، بعدم التدخل في سوريا عسكرياً.
ولكن حقيقة النظام السوري المتمادي في سلوكه العدواني ضد شعبه، ستثبت للعالم أجمع، أنّ لا مناص من هذا التدخل، عاجلاً أو آجلاً.
تركيا، إذ تقول بأنها مستعدة لكافة الخيارات، بما فيها الخيار العسكري، يعني أنّ هكذا تدخل سيصبح ممكناً، لا بل ممكنا جداً، في القادم من سوريا.


هي لن تترك ل”عمقها الإستراتيجي” في سوريا أن ينهار على مرآى من عينيها.
من هنا يُفهم احتضان الأتراك لبعض المعارضة السورية، ومساهمتهم الفاعلة في تشكيل وتفعيل “البديل” القادم، للحكم في سوريا.
تركيا الأردوغانية لا تخشى ممّن سيحكم في القادم من سوريا، طالما أنّ غالبية السكان في سوريا(حوالي 77%) هم مسلمون سنة.

فأردوغان يعرف كصاحب مشروع “إسلام تركي سياسي معتدل”، من أين تؤكل الكتف.
هو يعرف، كيف يكون فلسطينياً أكثر من عرفات، في ذات الوقت الذي تربط بلاده مع إسرائيل علاقات أكثر من جيدة على كافة المستويات.
هو يعرف(وهو التركي الأعجمي) كيف يكون “معلماً” على العرب من أهل القرآن، يعلّمهم إسلامهم وعروبتهم.
لهذا فإنّ تركيا التي أصبحت الآن صديقةً للثورة السورية وأهلها، لن تخشى ممن سيحكم في سوريا ما بعد الأسد.
أكثر ما تخشاه تركيا في سوريا ما بعد الأسد، هو القضية الكردية، التي تشكّل امتداداً لقضية أكرادها، الذين يقارب تعدادهم ال18 مليون نسمة.
صحيحٌ أن حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان قد حقق نجاحاً كبيراً حتى الآن، على المستويين الداخلي والخارجي، إلا أنه فشل فشلاً ذريعاً في حلّ القضية الكردية، حلاً عادلاً.


أردوغان، قال مراراً أنّ قضية الأكراد، هي قضيته، لكنه فشل حتى الآن، في إيجاد أية حلول ناجعة لها، ترضي جميع الأطراف.
فالأكراد لا يزالون ممنوعون، حسب الدستور التركي، من ممارسة حقوقهم كشعب صاحب قضية، ضمن إطار الجمهورية التركية.
أردوغان، نجح في كسر شوكة القوميين الأتراك(خصوصاً حزب الحركة القومية اليميني) الذين تراجعت شعبيتهم في الإنتخابات الأخيرة كثيراً، لكنه فشل في تحقيق النجاح ذاته أمام الأكراد الممثلين بحزب السلام والديمقراطية، الذي نجح في زيادة مقاعده إلى 36 مقعداً ليحتل المرتبة الرابعة، بعد أن كان ممثلاً في الدورة السابقة ب20 مقعداً فقط.


لا يمكن الإستهانة بالطبع، بهذا الوزن الإنتخابي الكبير للأكراد في تركيا.

لا سيما وأنّ حزب العمال الكردستاني قد فوّض حزب السلام والديمقراطية، بتمثيل الشعب الكردي وقضيته داخل تركيا.
تركيا ندمت كثيراً من عدم تدخلها في عراق ما بعد صدام.

وهو الأمر الذي أدخلها في مشاكل غير قليلة مع العراق الجديد، لا سيما بعد أن أصبحت كردستان العراق ذات الكيان شبه المستقل، جارةً مفروضة عليها.
هي لا تريد الوقوع في فخ “كردستان أخرى” محتملة في سوريا.

لأن ذلك سيؤثر بشكل مباشر على أكرادها، وسيدفعهم لممارسة المزيد من الضغط على تركيا، لتحقيق كردستانهم ونيل حقوقهم المشروعة فيها.
الأرجح أن تركيا لن تقبل هذه المرّة، أن تُمرّر عليها صعود “كردستان أخرى” تُفرض عليها كجارة “غير مرغوبة فيها”، وهو الأمر الذي سيستوجب عليها التدخل عسكرياً في سوريا، طالما تقتضي مصالحها ذلك.
هناك تخوّف كبير من تكرار النموذج العراقي في سوريا ما بعد الأسد.

فالموزاييك السوري(سنة+علويون+أكراد+دروز+مسيحيون) ليس موزاييكاً منسجماً كما يُراد له أن يكون.
قضية الأكراد والعلويين مثلاً، اللتين ستطفوان على السطح في سوريا ما بعد الأسد، هما قضيتان تركيتان أيضاً.


تركيا تخشى من أن تشتعل هاتين القضيتين الحساستين على حدودها.

ما يمكن أن يخلق لها المزيد من “وجع الرأس” واللاإستقرار في الداخل التركي(لا سيما على مستوى تركيبته الكردية)، الذي لا بّد أن يتأثر تأثيراً مباشراً بكلّ تحوّل يجري في الداخل السوري.
ربما من هنا يمكن فهم موقف المسؤولين الأتراك، الذين ينظرون إلى ما يجري في سوريا، في كونه “قضية داخلية” أكثر من كونه قضيةً خارجية.


ليس مستبعداً، أن يتكرر النموذج العراقي في سوريا، وهذا ما تخشاه تركيا ولن تقبل به أبداً.
تركيا، ستسد الطريق بكلّ الوسائل المتاحة أمام حدوث “عراقٍ آخر” على حدودها.
هي لن تقبل ب”إقليم كردي” آخر، جاراً لها.
هي لن تقبل ب”عراق فيدرالي” آخر، في سوريا تسمح للأكراد بأن يحكموا أنفسهم بأنفسهم، حكماً ذاتياً في مناطقهم، لأن ذلك سيشكلّ دافعاً قوياً لأكرادها للمطالبة بالحكم الذاتي والخروج من سلطة المركزية التركية.
هي لن تسمح بولادة “سوريا لا مركزية”، لأن خروج أيّ مكون سوري(خصوصاً المكوّن الكردي) من قرار المركز سواء عبر الإدارة الذاتية أو الحكم الفيدرالي، ربما يشكل تهديداً على المركزية التركية، القائمة على “دستورٍ مركزي” يعتبر كل مواطن ضمن الأراضي التركية، أياً كانت قوميته وإثنيته، “تركياً يساوي العالم”.
تركيا ترى في الداخل السوري داخلها، وفي المشكلة السورية مشاكلها.


لذا هي ستلعب في القادم من سوريا بكلّ ما لديها من أوراق متاحة، وستستخدم كلّ الخيارات بما فيها خيار التدخل العسكري إن تطلب الأمر ذلك، للحؤول دون فرط العقد السوري، والفوز تالياً، بجارةٍ ترضيها وتحقق لها أكبر قدرٍ ممكن من مصالحها.


hoshengbroka@hotmail.com 
  

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي القضية الكردية في سوريا ليست قضية إدارية تتعلق بتدني مستوى الخدمات وبالفساد الإداري وإعادة توزيع الوظائف الادارية بين المركز وإدارات المناطق المحلية فإذا كان الأمر كذلك لقلنا مع من قال أن المشكلة إدارية والحل يجب أن يكون إدارياً وبالتالي حلها اللامركزية الادارية فالقضية الكردية أعقد من ذلك بكثير فهي قضية شعب يزيد تعداده على ثلاثة ملايين ونصف تقريباً…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية ومع مناصري ثقافة التسامح واحترام حقوق الانسان ومع أنصار السلم والحرية، نقف مع السوريين ضد الانتهاكات الجسيمة والاعتداءات الصريحة والمستترة على حقوق الانسان الفردية والجماعية، وسياسات التمييز ضد المرأة والطفل، وضد الأقليات، وضد الحرب وضد العنف والتعصب وثقافة الغاء الاخر وتهميشه، وتدمير المختلف، والقيام بكل ما…

نحن، المنظمات الحقوقية الكردية في سوريا، نهنئ الشعب السوري، بجميع مكوناته وأطيافه، على إسقاط نظام الاستبداد، إذ تمثل هذه الخطوة التاريخية ثمرة نضال طويل وتكاتف الشعب السوري ضد آلة القمع، وهي بلا شك نقطة انطلاق نحو بناء سوريا المنشودة. إن سوريا الجديدة، بعد إسقاط النظام البائد، تدخل مرحلة حاسمة، وهي مرحلة البناء والسلام والصفح. لذا، ينبغي أن تسود فيها العدالة…

خليل مصطفى بتاريخ 22/2/1958 (شهر شباط) تم التوقيع على اتفاقية الوحدة (بين مصر وسوريا)، حينها تنازل رئيس الجمهورية السُّورية شكري القوتلي عن الرئاسة (حكم سوريا) للرئيس المصري جمال عبد الناصر (طوعاً)، وقال لـ (جمال عبدالناصر): (مبروك عليك السُّوريون، يعتقد كل واحد منهُم نفسهُ سياسياً، وواحد من اثنين يعتبر نفسهُ قائداً وطنياً، وواحد من أربعة يعتقد بأنهُ نبي، وواحد من عشرة…