درس أساسي

   د.

قدري جميل

أحداث الأشهر الأخيرة في البلدان العربية بما فيها سورية، أثبتت حقيقة جديدة تدخل مسرح الأحداث بقوة لا يجوز القفز فوقها ولا التعامل معها باستخفاف ولا تجاهلها ولا الخوف منها..

ألا وهي الحركة المتصاعدة المستقلة نسبياً للنشاط السياسي للجماهير الشعبية الواسعة..
وهذه الحالة تتكرر في التاريخ بشكل دوري تقريباً، وهي ليست جديدة، ولكن تفصل بين دورة وأخرى فترات زمنية طويلة، من 50 إلى 100 عام كما لاحظ الباحثون، ما يجعل الأمر مفاجئاً وغير معتاد بالنسبة لمن يعاصر موجة كهذه..

وتعقبها بعد انتهائها فترة هدوء ما هي في نهاية المطاف إلاّ فترة كمون لنهوض ونشاط سياسي واسع جديد للجماهير..
وخلال فترة الهدوء والكمون، تتراكم المشكلات التي تتطلب الحل، وتتراكم المطالب التي تبقى دون حل، وتتراكم درجة شحن المجتمع لانفجاره اللاحق، وكل ذلك يخلق سراباً ووهماً بأن كل شيء بخير ويتعود أولو الأمر على التعاطي بعدم جدية، وباستخفاف مع مطالب المجتمع، وتزداد ثقتهم بأنفسهم مقتنعين أن جهاز دولتهم القمعي القوي قادر على حل كل المشكلات..
ولكن عندما تأتي الموجة الجارفة التي يعبر عنها النشاط السياسي المستقل للجماهير، المستقل عن جهاز الدولة، والمستقل عن البنى السياسية التقليدية، فإذا بها لا تبقي ولا تذر، لأن طاقتها المخزونة خلال الكمون تكون هائلةً وقادرةً على صنع المعجزات.
وهي بجوهرها تعبيرٌ عن نضج موضوعي لضرورة إحداث تغييرات عميقة في المجتمع وفي بناه الاقتصادية والاجتماعية، والسياسية..
إن وعي هذه الحقيقة، في هذه اللحظة بالذات، يرتدي أهمية كبيرة لفهم ما يجري في طول العالم وعرضه، وخاصةً في العالم العربي، وفي بلدنا سورية.
إن عدم فهم واستيعاب هذه الحقيقة يمكن أن يدفع البعض في اتجاهات لا تحمد عقباها، وهذه الاتجاهات عبرت عن نفسها في الفترة الماضية بالأشكال التالية:
ـ اعتبار ما يجري مجرد مؤامرة خارجية أو داخلية..
ـ اعتبار ما يجري مجرد مطالب بسيطة آنية..
ـ اعتبار ما يجري أمراً بسيطاً يحل ببعض التجميلات الإصلاحية..
والحقيقة، أن هذا التيار المتصاعد الجارف للحركة الجماهيرية تحاول قوى عديدة التعامل معه محاولة الاستفادة منه وتجييره لمصلحتها ولصالح أهدافها الضيقة.
فالإمبريالية الأمريكية تحاول ولم توفق حتى هذه اللحظة، والكيان الصهيوني يحاول ولم يجنِ إلاّ زيادة الخوف على مستقبله (مثال مصر وتونس).
إن سورية ليست خارج الزمان والمكان، والموجة الحالية لصعود النشاط الجماهيري ليست عابرةً أو مؤقتة، ولن تنتهي موضوعياً دون تحقيق أهدافها التي كانت السبب في إقلاعها.
فكيف التعامل معها؟
بالذهاب إلى ملاقاتها والاستماع لها بانتباه واحترام، والتفاعل معها بشكل إيجابي كي تتحول طاقاتها المتفجرة إلى طاقة إيجابية تدفع المجتمع والبلاد في لحظات إلى عشرات السنين للأمام، أم بالخوف والتوجس منها شراً، وإغماض العين عنها واعتبارها رجساً من فعل الشيطان والتعامل معها بالنار والرصاص؟!.
إن التأخر عن ملاقاة حركة الجماهير المتصاعدة يوماً بعد يوم، إضافةً إلى الشك فيها وعدم احترامها، يخلق مصاعب إضافية، وأهمها خلق فراغ يسمح للقوى التي لا تريد الخير للبلاد ومجتمعنا من امتطاء هذه الموجة وتوجيهها بالاتجاه الغلط، ولو مؤقتاً..
إن هذه الموجة الجديدة التي تغير وجه التاريخ في منطقتنا والعالم، هي تعبير عميق عن أزمة الرأسمالية كنظام عالمي بكل تطبيقاته المحلية، والتي فقدت عملياً كل مبررات وجودها تاريخياً..

والتي أتت الثورات، قابلة التاريخ، لكي تخرج المولود الجديد إلى الوجود..
إن آلام الولادة ستكون أخف كلما استطعنا أن نفهم أكثر إيقاع حركة الجماهير التي تسير حتماً في الاتجاه الصحيح في نهاية المطاف.
وستكون آلام الولادة أكبر، إذا أغلقنا آذاننا عن هذا الإيقاع ولم نتفاعل معه بشكل إيجابي وإبداعي.
إن الأحزاب التي تلعب دوراً في التاريخ، وكذلك القادة، هي تلك التي تفهم هذه الحقيقة بعمق وتعبر عنها، وعندها تدفعها الجماهير إلى الواجهة..

أما الآخرون فإنها تقذف بهم على قارعة طريق التاريخ..
الجماهير تعود إلى الشارع، وهذا الأمر أصبح حقيقةً واقعةً، وهي سائرة نحو المستقبل..

إن فهم ذلك والتكيف معه بسرعة، ضمانة لتحقيق كرامة الوطن والمواطن

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

خالد بهلوي تحت شعار “وقف العنف والتهجير – العيش المشترك بسلام”، وبمبادرة من مجموعة نشطاء من الشابات والشباب الغيورين، شهدت مدينة إيسين الألمانية يوم 21 ديسمبر 2024 وقفة احتجاجية بارزة للتعبير عن رفض الاحتلال التركي والتهديدات والانتهاكات التي يتعرض لها الشعب الكردي المسالم. الحضور والمشاركة: حضر الفعالية أكثر من مائه شخصً من الأخوات والإخوة الكرد والألمان، إلى…

د. محمود عباس ستكثّف الولايات المتحدة وجودها العسكري في سوريا وستواصل دعمها لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) والإدارة الذاتية. تدرك تركيا هذه المعادلة جيدًا، وتعلم أن أي إدارة أمريكية قادمة، حتى وإن كانت بقيادة دونالد ترامب، لن تتخلى عن الكورد، لذلك، جاء تصريح أردوغان بعد عودته من مصر، ووزير خارجيته من دمشق اليوم كجزء من مناورة سياسية تهدف إلى تضليل الرأي…

شادي حاجي المرء لا يذهب إلى طاولة المفاوضات وهو خالي الوفاض وإنما يذهب وهو متمكن وقادر والمفاوض يكشف أوراقه تدريجياً تبعاً لسير العملية التفاوضية فعند كل منعطف صعب وشاق يقدم المفاوض بطريقة أو بأخرى معلومة ولو صغيرة حول قدراته على إيقاع الأذى بالطرف الآخر من أجل أن يكون مقنعاً فعليه أن يسأل عن مقومات الندية والتي تتركز على مسألة القوة…

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه”1970-2024″ كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. إذ إن بعض…