الشعب السوري، ليس جزيرة معزولة عن محيطه العربي…لديه مظالم ومطالب وتطلعات وأحلام… لديه مشاكل وتحديات وأزمات يتوق للخلاص منها…نسب فقر مرتفعة…بطالة عالية…مستويات متدنية في الأجور…قبضة أمنية شديدة ونقص في الحريات…
بيد أن لسوريا، كباقي الدول والمجتمعات العربية، خصائص تميزها عن بعضها البعض…منها ما يمكن أن يعد عناصر قوة تحسب لها، وهنا نتوقف حصراً عند دعمها للمقاومات العربية وعدم “انحسابها” على خط التفريط والتخاذل الذي ظلل المشهد العربي…ومنها ما يمكن أن يُعد، عناصر ضعف، تحسب عليها، وهنا يتعين الوقوف عند القبضة الأمنية الشديدة للنظام…فضلا عن الانقسامات المجتمعية المعروفة.
لقد توفرت للقيادة السورية فرصة نادرة لتقود بنفسها، عملية إصلاح سياسي وتحوّل ديمقراطي واسعة النطاق…وأحسب أن نافذة الفرص لم تُستنفذ نهائياً بعد، وإن كان الوقت يمضي بسرعة، وكلما سالت دماء كلما أصبحت المهمة أصعب وأعقد…لكن القيادة السورية لم تبادر – من أسف – إلى اهتبال الفرصة، واكتفت بدلاً من ذلك بإبراز ما هو مختلف في سوريا عن بقية الدول العربية…وها نحن نكتشف، بعد أسابيع قليلة فقط، أن ما يجمع سوريا بأمتها من المشتركات والقواسم، أكبر بكثير مما يفرقها ويميّزها…سوريا ليست استثناء، وعناصر قوتها المميزة، لن تحصّنها في وجه رياح التغيير والإصلاح التي تهب بقوة في الفضاء العربي.
لا أحد سيشتري “حكابة العصابة المجهولة” التي تعيث قتلاً وحرقاً واختطافاً وترويعاً للآمنين في درعا…لا أحد سيأخذ على محمل الجد “حكاية القاعدة” كذلك، لقد استخدمها القذافي وصالح ولم تنفع في ليبيا واليمن، فلماذا الاعتقاد بأنها ستنفع في سوريا…القصة ببساطة أن شعب سوريا أراد الالتحاق بركب الحرية العربية، وأن السوريين أرادوا امتطاء الموجة الديمقراطية الرابعة، والتي هي موجة عربية بامتياز، فتصدت لهم آلة القمع البوليسية، وبالأدوات الوحيدة التي تعرفها واعتادت على استخدامها سنوات وعقود…تماماً مثلما حصل في مستهل ثورات ربيع العرب….هنا مربط الفرس…هنا الوردة فالنرقص هنا.
من مصلحة سوريا، شعباً ودولةً ومجتمعاً ونظاما…أن تسمع هذا الكلام منّا نحن الذين عشنا في سوريا وأحببنا شعبها…لا أن تكتفي بالاستماع إلى ما يطربها ويطمئنها….وبرغم اختلافاتنا القديمة والجديدة مع سياسات نظامها، إلا أننا وقفنا ونقف وسنقف ضد كل محاولات استهدافها من الخارج والنيل منها من قبل أعدائها وأعدائنا، خصوصاً حين يتصل الأمر بإسرائيل وأعوانها الكثر في المنطقة.
نحن نعرف كما تعرف القيادة السورية، أن ثمة متربصين بسوريا ونظامها…بعضهم يمثل عن حق، أسوأ ما أنجبته النظم السورية المتعاقبة…ليس عبد الحليم خدام، هذا الفاسد المفسِد والمفسَد، بديلاً لبشار الأسد…ولا هو موضع رهانات السوريين ومعقد آمالهم…وليس رفعت الأسد وأنجاله هم الأنموذج الذي يمكن أن يحرك السوريين…ولا نريد لسوريا أن تكون دولة دينية، خاضعة لـ”ولاية الفقيه” أو “حاكمية الله”….لكننا مع ذلك، لا نرى في جميع هذه “الفزّاعات” أسباباً كافية لإعاقة الإصلاح وعرقلته.
إن كانت هناك نيّة صافية وإرادة حقيقية لقطع الطريق على هؤلاء جميعاً، فإن “الوصفة السحرية” معروفة ومجربة…أنها تتلخص في الذهاب مباشرة، ومن دون تردد أو إبطاء إلى الإصلاح والتغيير…السياسي أولاً…والسياسي الآن…لقد سقط النموذج الصيني في الإصلاح الاقتصادي بديلاً عن الإصلاح السياسي…لقد سقطت نظريات تقديم كل أشكال الإصلاح على الإصلاح السياسي…هذه الرهانات – التي داعبت مخيّلة القيادة السورية وطربت لها ردحاً من الوقت قبل أن تهتدي لاقتصاد السوق الاجتماعي– باتت وراء ظهورنا.
ما كان يصلح من قبل، قبل أعوام ثلاثة أو خمسة، لم يعد صالحاً الآن…الشعب يريد إصلاح النظام…فإن استجاب النظام، كان به، وإن تخلف النظام، فإن الشعب سيريد إسقاط النظام وتغييره…أليست هذه هي الحكمة المتولّدة عن ثورات العرب الكبرى المشتعلة حالياً؟.
ثم، إنني أنصح وبشدة، أن لا يراهن الإخوة في سوريا على نماذج صمد فيها النظام أو نجح تكتيكياً في جبه رياح التغيير…النظام لم ينجح بعد في ليبيا، المعركة ما زالت مفتوحة، والثورة ما زالت مستمرة…والبحرين تعيش الهدوء الذي يسبق العاصفة، والعاصفة آتية برغم خفوت صوت “الجزيرة” وتدخل “درعها”…قد يستطيع هذا النظام العربي أو ذاك، الصمود في وجه العاصفة بعض الوقت، لكنه لن يفعل ولن ينجح طوال الوقت.
إن وضِعت سوريا على مائدة البحث الدولي، من بوابة حقوق الإنسان وإدانة الاستخدام المفرط للقوة وحماية المدنيين…فلن يستغرق الأمر سوى ساعات وليس أيام، لاستصدار قرار شبيه، بل واصعب من القرار 1973…سوريا ليست ليبيا، “لا نقط عندها تهديه ولا غازُ”…سوريا ليست البحرين، فهي محسوبة على “الضفة الأخرى” من الخليج، لا الضفة “المهمة جداً والصديقة جداً” للغرب…سوريا لديها مروحة واسعة من الأعداء والمرتبصين الذين ينتظرون لحظة الانقضاض عليها….لن تجد سوريا من سيدين المعارضة والشارع كما حصل في البحرين، أو كما يحصل في السعودية على نطاق أضيق، ستجد سوريا من سيدين النظام، وبكل قوّة، حتى وإن كانت المعارضة من طراز خدام (جلبي سوريا) ورفعت الأسد، مع أن المعارضة في سوريا أشرف وأنزهُ من أن تحسب على هذه الشخصيات أو أن تختصر بها…هناك معارضة وطنية ديمقراطية تقدمية قومية في سوريا، لا يمكن اختزالها بحفنة من الانتهازيين واللصوص.
إن الحرص على سوريا، يعني الحرص على معارضتها الوطنية والمخلصة أيضاً…ولكي يكون بمقدورنا أن نفعل ذلك ونحن في أتم الاطمئنان، فإن المعارضة السورية مطالبة، بأن تميّز مواقفها عن مواقف خصوم سوريا واعدائها….من عملاء إسرائيل مرورا بـ”الوهابيّون الجدد” وانتهاء بكل الطيف الذي نعرف، والذي تنتهي مرجعيته عند فيلتمان وبولتون وبيرل وقانون محاسبة سوريا ومدرسة المحافظين الجدد….أحياناً كثيرة، تختل معادلة بعض الأصوات المعارضة.
ولا ينبغي أن يظن أحدٌ في دمشق، أن موقفه “الإيجابي” من اجتياح “درع الجزيرة” للبحرين سوف يُرد لها بأحسن منه…أصحاب “الدرع”، بعضهم أو كثير منهم، يحكمهم “المأثور البدوي” عن أخذ الثأر وإن بعد أربعين عاماً…ليس أمام دمشق سوى أن تقلّع شوكها بيدها…وشوك سوريا هو الفساد والبطالة والفقر والحزب الواحد وهيمنة الأجهزة الأمنية وانغلاق آفاق المشاركة والحيش الحر الكريم…سوريا ليست استثناء، كل الدول العربية تعاني هذه الأعراض السرطانية، وبدرجات متفاوتة من التفاقم، والإنكار هو وصفة للكارثة والخراب، وبداية حل المشكلة تتجلى في الاعتراف بوجودها…حمى الله سوريا
مركز القدس للدراسات السياسية