قتلناك بجهلنا يا أسما… عيل

عمر كوجري

أكثر من مرة أقف متهيباً، كسير الفؤاد أمام الحروف للكتابة عن الفقيد الأستاذ إسماعيل عمر، وذكر مناقبه وخصاله الحميدة، ولأردَّ له بعضاً من دينه علينا نحن محبيه  تقديراً لوفائه وسخائه بلا حدود من أجل الوطن..

كللل الوطن فأفقد الحماسة، ربما لجهة أن الكلمات لا تعيد إلينا عزيزاً، ومن جهة ثانية ربما تعب قلبي وهو ينسج أغنيات الرحيل للوديعين ..

الرائعين الكبار، تعبه وهو يدمي كمداً على أحبة كانوا عنوان الجمال في حياتنا..

لكنهم آثروا الرحيل، ومضوا إلى غامضهم الواضح، واشتهوا السباحة في بحر الملكوت.
وربَّما لأن عيني وهي تفيض بالعبرات المدرارة كلما خطرت ذكرى هؤلاء الكبار على سجية أميرة الرثاء الجاهلية..

تعبت، وأصابها البلى لكثرة من يرحلون كالوميض الذين كانوا حتى الأمس يضعون لنصوص الفشل واليأس اليأس الكبير في حياتنا أحلى العناوين.
الفقيد الراحل إسماعيل عمر كان من طينة الكبار..

كان عالياً وشامخاً في كل مواقفه..

دقيقاً..

متزناً حكيماً..

لذا كانت خسارته وفي هذا الزمن المر مدوية لعموم السوريين وبمختلف مشاربهم وطوائفهم ومؤسساتهم السياسية، وأدخلت الكربة والحزن في قلوب كل من عرفوه شخصياً، وتواصلوا، وتناقشوا، واختلفوا معه، لكنه – وهو العالي- لم يكن يقطع حبال الود بمجرد اختلافك معه، وهو الذي بمستوى حضوره الجميل كان غائباً كثيراً ومتوارياً أكثر.
لذا لم أصدق كغيري من أحبته أنه رحل بتلك السرعة، وهو السليم ” ظاهراً”  حيث كان يفاجئ الكثيرين بعمره الحقيقي، إذ عُدَّ دائماً شيخ شباب المسؤولين الكرد.
الفقيد «إسماعيل عمو» كما كنا نتداول اسمه وسيرته العطرة في نقاشاتنا التي بدت بعمومها عقيمة، كان بارعاً في قراءة واقع أهله الكرد في وجه التخصيص، وأهله السوريين في وجه التعميم، لم يكن متهوراً..

ولا مندفعاً..

ولا سباقاً لالتقاط مواقف ظنها زملاؤه من أهل الصف الأول من حركتنا أنها هي المسار الصحيح، فلم يقبضوا إلا على الريح، وولوا يمنحون أقدامهم الكسيحة للريح عند أول اختبار، لكنهم لم يعلنوا فشلهم في سياساتهم” الرعناء” بل اعتبروا أن ذلك المنصب كمالاً ما بعده كمال، ومزية ما بعدها مزية، فاستأسدوا على رفاقهم وأهلهم، وثمة مَن أمن لأهله حياة رغيدة، وترك الرفاق يكتوون بالنار من كل الجهات دون أن ترف له جفن، وآثر الهجرة مع الطيور، لكن الطيور لها هجرة سنوية، أما هم فبدلوا ياقات قمصانهم، ومعتقداتهم وقيمهم من أجل هواء أكثر برودة حسبما يظنون.
بقدر ما قدرت مواقف إسماعيل، بقدر ما حوربت من ضعاف النفوس والصائدين في الماء “الحرام”
لكن ..

بعضُ كردنا بارعون في وأد الأحلام الجميلة لشعراء من منزلة ” إسماعيل عمو” ونسف قراءاتهم للواقع والظروف.
لقد ساهمنا في قتل إسماعيل عمو بهذا الشكل أو ذاك، والأزمة القلبية لا تأتي من عدم..

إنها تراكم وركام أحزان وخيبات كثيرة ، فتتفجر الأوردة، وتتجلط الدماء.
إن مساهمتنا في قتل إسماعيل وغيره من الكبار هي أننا جاهلون بالمصائر التي تنتظرنا..

جاهلون بل أميون في قراءاتنا الكثيرة لكنها النافقة..

والمريضة لكل الحبائل التي تربطنا من هنا وهناك.
مشكلتنا أننا نصرُّ دائماً أن كل ما قمنا به وخططنا له، وما سننجزه هو في حكم الصحيح، وغيره هو الخاطئ..

التائه..

الضائع.

لهذا ترانا نخسر كل يوم، ونرتكب الأخطاء ذاتها، دون أن تنهض عقولنا من رقادها.
نحن نساهم بقتل إسماعيل وغيره الجميلين، عندما تنفرخ أحزابنا كل يوم، وتدور حركتنا حول نفسها كالدجاجة الدائخة دون أن نستحي لا من ذواتنا ، ولا من شعبنا.
 وعندما نصل إلى موقع نصدق أنفسنا أنه رسم على مقامنا، فنطوّبه بأسمائنا إلى اللحد، وعندما لانستقر على نسق ولا على نظام، فيصير كلُّ مَن زغب ريشه الطري صقراً على أهله، وأولاده، وهو البُغاث الوضيع الطيران.


لقد عيل صبرُ شعبنا يا إسماعيل بنا نحن ” الكرتونيون” الأفاقون..

الدجالون الذين لانفيق إلا وقت الكروب، ونعاود بعدها النوم متحدين جماعة الكهف وأهله وكلبهم الباسط ذراعيه، لكن بعضنا الأجمل لن تكل أصابعه، ولا متْنهُُ وهو ينقر على شباك القادمين من كردنا أن: كفانا نوماً..

كفانا ضحكاً على بعضنا.

فنمْ قريرَ العين هناك..

أيها العزيز..

فقد أراحك قلبك من حروبنا التافهة مع بعضنا البعض، واستأسادنا على بعضنا..

وتقاتلنا على التهام أجسادنا، وقتل أحلام الأطفال ليستمر تناسل الأحزاب، وتناسل الأخطاء، وغزارة الخيبات.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف تعود سوريا اليوم إلى واجهة الصراعات الإقليمية والدولية كأرض مستباحة وميدان لتصفية الحسابات بين القوى الكبرى والإقليمية. هذه الصراعات لم تقتصر على الخارج فقط، بل امتدت داخليًا حيث تتشابك المصالح والأجندات للفصائل العسكرية التي أسستها أطراف مختلفة، وأخرى تعمل كأذرع لدول مثل تركيا، التي أسست مجموعات كان هدفها الأساسي مواجهة وجود الشعب الكردي، خارج حدود تركيا،…

روني آل خليل   إن الواقع السوري المعقد الذي أفرزته سنوات الحرب والصراعات الداخلية أظهر بشكل جلي أن هناك إشكاليات بنيوية عميقة في التركيبة الاجتماعية والسياسية للبلاد. سوريا ليست مجرد دولة ذات حدود جغرافية مرسومة؛ بل هي نسيج متشابك من الهويات القومية والدينية والطائفية. هذا التنوع الذي كان يُفترض أن يكون مصدر قوة، تحوّل للأسف إلى وقود للصراع بسبب…

خالد حسو الواقع الجميل الذي نفتخر به جميعًا هو أن سوريا تشكّلت وتطوّرت عبر تاريخها بأيدٍ مشتركة ومساهمات متنوعة، لتصبح أشبه ببستان يزدهر بألوانه وأريجه. هذه الأرض جمعت الكرد والعرب والدروز والعلويين والإسماعيليين والمسيحيين والأيزيديين والآشوريين والسريان وغيرهم، ليبنوا معًا وطنًا غنيًا بتنوعه الثقافي والديني والإنساني. الحفاظ على هذا الإرث يتطلب من العقلاء والأوفياء تعزيز المساواة الحقيقية وصون كرامة…

إلى أبناء شعبنا الكُردي وجميع السوريين الأحرار، والقوى الوطنية والديمقراطية في الداخل والخارج، من منطلق مسؤولياتنا تجاه شعبنا الكُردي، وفي ظل التحولات التي تشهدها سوريا على كافة الأصعدة، نعلن بكل فخر عن تحولنا من إطار المجتمع المدني إلى إطار سياسي تحت اسم “التجمع الوطني لبناء عفرين”. لقد عملنا سابقاً ضمن المجتمع المدني لدعم صمود أهلنا في وجه المعاناة الإنسانية والاجتماعية…