رئيس حكومة إقليم كردستان يروي مذكراته لـ«الشرق الأوسط»: أطلق سراحي من المعتقل قبل الامتحانات بيومين ومع ذلك حزت المرتبة الثالثة على العراق
هناك ضربوني لكن ليس بقسوة، وعند ظهيرة اليوم التالي عرضوني على النقيب عبد، مسؤول في الاستخبارات العسكرية في السليمانية، وللإنصاف أقول إنه تعامل معي بلطف..
قال لي (اجلس ولا تقل أي شيء من دون أن أسالك)، ثم أردف قائلا (هناك صديق لي هو فلان، من عائلة الساعاتي في السليمانية، وهذا الرجل أحترمه وأقدره لأنه ساعدني كثيرا، وقد طلب مني مساعدتك، وأنا قرأت ملفك، وأنت ابن عائلة معروفة ومتفوق دراسيا، لكن لدينا معلومات أغلبها دقيق وسنحقق معك فقط).
وأوصل لي رسالة مفادها أنه سيكون طيبا معي، وقد توسط صديقه بأن يجلبوا لي الكتب المدرسية لأنه لم يتبق سوى أيام قليلة على الامتحانات التي ستقرر مستقبلي، وبالفعل جلبوا لي الكتب في اليوم الأخير من التحقيق حيث بقيت ثلاثة أيام عندهم، وأفرجوا عني، حيث لم يكن قد بقي على موعد الامتحانات سوى يومين، أو يوم واحد، وصار عندي تحد كبير لأن أبرهن تفوقي أمام الجميع».
يقول أستاذه في المدرسة، الأستاذ فهمي «أتذكر جيدا أن الحاكم أحمد والد برهم اتصل بي هاتفيا وأبلغني بأن برهم قد أطلق سراحه، وأنهم يريدون مني أن أدرسه مادة الرياضيات، وكما نعلم فإن مادة الرياضيات صعبة جدا، ومن الصعب أن ينجح فيها طالب كان في السجن ورأى كل ذلك التعذيب، ذهبت بسيارتي إلى منزل عائلته، وبدأت أدرسه مادة الرياضيات، وعندما كنت أشرح الدرس لبرهم وأعطيه الأمثلة كان يقول لي (يكفي هذا يا أستاذ فهمي وانتقل إلى موضوع آخر).
كنت أعتقد أنه كان يريد أن ينجح فقط ولم يكن في بالي أن يحصل على تلك الدرجات العالية، كانت درجاته (96.6%) أي أنه كان الأول على منطقة كردستان والثالث على العراق، وكانت سعادتي الأكبر أنه حصل على مائة درجة من مائة في مادة الرياضيات».
ويستطرد قائلا «رأيت يوما والد الدكتور برهم، هنأته وقلت له: هل سترسل برهم إلى كلية الطب أم كلية الهندسة؟ فقال، يا أستاذ فهمي أنا نفسي من (الـعائدين) – الذين كانوا مع الثورة الكردية وعادوا إلى مدنهم بعفو – وإذا مارس هو أيضا السياسة فهذا معناه أننا سنلقى حتفنا ونفقده، فليذهب إلى بريطانيا حيث سيحمي علمه ويمارس السياسة أيضا».
يقول شوكت حمدي رشيد، الذي كان مديرا لإعدادية شورش عام 1977 وكان يعرف الدكتور برهم عن قرب حيث كان أحد تلامذته «لم أكن أعرف برهم من قبل، لكني سمعت بذكائه بحيث كان يؤمل أن يكون الأول على مستوى العراق»، مشيرا إلى أن «برهم صالح كان ظاهرة بين الطلاب كالنجم الساطع، إذ لم يكن وفيا ومخلصا للمدرسين فحسب، بل كان وفيا للطلاب أيضا».
ويستطرد هذا المربي الفاضل قائلا «أتذكر جيدا أن برهم اختفى بعد امتحانات نصف العام، وتبين بعد ذلك أنه اعتقل، اتصل بي والده مباشرة وأبلغني أن السلطات الأمنية اعتقلت برهم، ولكوني مديرا للمدرسة حيث كان أبناء مسؤولي حزب البعث طلبة عندي، وكانت لي معرفة بآبائهم، لذا قلت إنني سأبذل ما في وسعي على الرغم من أنه كان هناك الكثير من المخلصين الذين قاموا بمحاولات كثيرة لإطلاق سراحه، ذهبت إلى مدير أمن السليمانية الذي كنت اعرفه فقد كان ابنه طالبا في الصف الثالث في مدرستي، جلست معه وحدثته عن الأمر، فقال (أعرف كل شيء).
فقلت (وماذا تعرف؟)، قال (الولد الذي تتحدث عنه هو من تنظيمات الاتحاد الوطني الكردستاني، ومن الأفضل ألا تتدخل في هذا الموضوع) فقلت له إن (ذلك الولد الذي اسمه برهم طالب عندي ونتوقع أن ينجح بالمرتبة الأولى على مستوى العراق، فكيف أتركه هكذا؟)، فقال (حسنا فلتنته التحقيقات عندها أرى ما يمكنني أن أفعله)».
ويضيف رشيد الذي كان مديرا للمدرسة التي كان يتعلم بها برهم، قائلا «عندما خرجت لم يكن عندي أمل في إطلاق سراحه، وبعد فترة ذهبت إليه وقلت له (إن برهم بحق طالب ذكي ومن الظلم أن يبقى في السجن، ويمكنك أن تسأل المدرسين العرب عن تصرفه داخل المدرسة).
بعد فترة أبلغني مدير الأمن بموافقته على إرسالنا كتب برهم إليه في السجن، أرسلوا ليدرس هناك، وهذا ما أعاد إلي الأمل، وقد أرسلت له الكتب فورا».
ويستطرد بذكرياته عن تلميذه برهم، بقوله «نتيجة لجهودنا وجهود المخلصين الآخرين أطلقوا سراحه قبل الامتحانات، وقد استطاع برهم أن يدرس في السجن في حين كانوا يحققون معه ويعذبونه كثيرا، لكنه استمر في دروسه وفي النهاية أخذ المرتبة الأولى على مستوى كردستان والثالثة على مستوى العراق، ويبدو أن إدارة الأمن كانت قد قررت اعتقاله مجددا بعد الامتحانات، لكن كانت حكمة أهله في أنهم أرسلوه إلى خارج البلاد».
وينبه رشيد إلى أن «برهم كان يعمل آنذاك كقائد شاب ومتمكن، وهناك فرق بينه وبين القادة الآخرين وهو أنه أتم شيئين في حياته بنجاح، الأول هو دراسته والثاني هو عمله السياسي، وهذا ليس بالأمر الهين، وقلة من القادة يستطيعون أن يوفقوا بين القضيتين»، مستذكرا «حادثة لن أنساها أبدا وهو أنه بعد عودة الدكتور برهم إلى إقليم كردستان بعد سنة 2001، وتوليه منصب رئاسة حكومة الإقليم في السليمانية،اتصل بي سكرتيره وقال لي أنه يريد رؤيتي مع المدرسين الذين كانوا أساتذته وقتذاك، وبدوري أبلغت المدرسين وذهبنا إلى مجلس الوزراء، وعلى الرغم من أن ضيوفه كانوا كثيرين، فإنه قدم موعدنا وبقي معنا أكثر من ساعة.
كان يدهشني أدبه وإخلاصه بحيث أنه كان يجلس في النهاية وتبين لنا بتصرفه هذا أن كرسي السلطة لم يغير برهم وانه نفس الطالب السابق».
يقول برهم صالح «هذه النتيجة، نجاحي المتفوق، حولتني إلى قصة المدينة، حيث اجتمع الناس في بيتنا مهنئين وجاءوا من مناطق بعيدة من دون أن نعرفهم، إضافة إلى الأقارب والأهل، إذ صاروا يفتخرون بابن السليمانية الذي اعتقل وخرج من المعتقل إلى الامتحانات وتفوق».
يستطرد قائلا «في اليوم التالي أرسل بطلبي مسؤول تنظيمات السليمانية لحزب البعث، وذهبت لمقابلته، هنأني على تفوقي وقال لي (الآن يجب أن تنتمي إلى حزب البعث وترى مستقبلك، وإلا فمن الصعوبة أن أحميك)، قلت له أنا لا استطيع أن أكون بعثيا، إذ إن هذه الطريقة فيها خيانة لمبادئي، فأنا إذا صرت بعثيا تحت التهديد سأكون قد انتميت إلى الحزب تحت سلطة الخوف وليس إيمانا بالحزب، ثم إن الحزب اسمه حزب البعث العربي الاشتراكي، وأنا كردي، فكيف أدخل إلى حزب عربي؟..
صمت قليلا واحتار بما يجيبني، فقال (اذهب وفكر وأنا في انتظار ردك)».
لم يخطر في ذهن برهم التفكير في الموضوع ولو لدقائق، لكنه بالتأكيد كان قد فكر في الخطوة، أو الخطوات القادمة التي تهم حياته ومستقبله.
هنا، أيضا، يجد نفسه في مفترق طرق جديد، لكن هذا المفترق سيكون الأهم في تاريخه على الإطلاق، يقول «عندما عدت إلى البيت واجتمعت مع أهلي وأقاربي ورفاقي وبعض الأصدقاء، وأخبرتهم بما جرى مع المسؤول البعثي، هناك من اقترح علي أن التحق بالثورة الكردية في الجبل وأخلص من الملاحقات الأمنية، لكن أحدهم قال (أنت متفوق، وأقترح أن أكمل دراستي خارج العراق، إذ كانت الحكومة وفي عهد رئاسة أحمد حسن البكر تبعث الطلبة العشرة الأوائل من خريجي المدارس الإعدادية كل عام للدراسة خارج العراق، في أوروبا على الأغلب وعلى نفقتها، هذه الفكرة هي التي لقيت التأييد الأوسع من قبل عائلتي ورفاقي في الحزب على حد سواء، وهكذا باشرنا بالعمل على تنفيذها والشروع بها، فذهبنا إلى بغداد واستكملنا إجراءات البعثة الدراسية وحصلت على جواز سفر، لكن تحريات عمي توصلت إلى أن اسمي كان ضمن لوائح الممنوعين من السفر في المطار، فعملوا جهدهم بالتوسط وتقديم الهدايا لرفع المنع، ولم يرشحوني إلى البعثات بالرغم من تفوقي لأنني لم أكن بعثيا، لكننا كنا نريد رفع منع السفر أولا ولا يهمنا موضوع البعثة، وهكذا غادرت بغداد إلى لندن في الرابع من أغسطس (آب) 1979 للدراسة على نفقتي وليس على حساب الدولة».
لم يتحدث برهم صالح يوما للإعلام عن حياته السياسية أو عمله الحزبي داخل تنظيمات الاتحاد الوطني الكردستاني، مع أن تاريخه الحزبي حافل بالعمل السياسي السري، حتى بات البعض يتصور أن هذا السياسي جاء فجأة من خارج التنظيمات ليتبوأ المناصب.
لكن رفاق دربه الحزبي هم الذين قدموا إفاداتهم وشهاداتهم عن التاريخ الحزبي لصالح، وخسرو عبه رش، أأحد مناضلي الاتحاد الوطني الكردستاني، حيث التحق بالتنظيمات السرية للحزب منذ شهور تأسيسه الأولى داخل السليمانية عام 1975، وكان قد واكب عن قرب العمل الحزبي لبرهم، يقول «في يوم من الأيام كان عندي اجتماع مع الرفيق حمة حسين (قتل لاحقا) فقال لي إن لدي صديقا ذكيا ومتمكنا يريد أن ينضم إلينا، وكان الشخص الذي يتحدث عنه هو برهم صالح فقلت له (من الأفضل أن يبقى معك في التنظيم) فقال (إن قدراته الفكرية والعلمية أكبر مني، بالإضافة إلى أنه صديقي وأخشى أن تؤثر صداقتنا سلبيا على عملنا التنظيمي)، عند ذاك وافقت على ضم برهم معنا».
ويستطرد خسرو قائلا «كانت أولى جلساتي مع برهم في أحد المقاهي التي كانت تقع أمام السينما رشيد في مدينة السليمانية، وعندما وصل رأيت شابا وسيما عرفني بنفسه، لا أعرف ما اعتراني ساعتها لكنني في عيون هذا الشاب قرأت أن الثورة تخطو نحو النصر حيث كان من النادر أن يفكر شاب غني وثري في أن يصبح وقودا للثورة والعمل التنظيمي، وكنت سعيدا جدا بانضمامه إلينا ومنحناه لقبا سريا هو (باور)» وفيما يتذكره خسرو عن الإمكانيات الفكرية التي كان يتمتع بها برهم وقتذاك، يقول «كنت أحمل معي كتابا لـ(مام جلال) وعنوانه (بره) وكان أول موضوع نناقشه.
فطلب برهم مني أن أعطيه الكتاب، لكننا كنا لا نملك كثيرا من نسخه آنذاك، فقلت له (لا أستطيع أن أعطيك الكتاب لأنه النسخة الوحيدة المتوافرة لدي)، فقال (أعطني إياه لهذه الليلة فقط) وفعلت، وفي الصباح اتصل بي هاتفيا وقال (أريد أن أراك)، وعندما وصل رأيت أنه قد أعاد الكتاب وقد أعاد كتابته بنسختين.
كان ذلك شيئا غريبا بالنسبة لي وهو أن ينشغل طالب آنذاك بكتابة ذلك الكتاب وخلال ليلة واحدة يقوم بكتابته بنسختين وبخط يده».
ودعما لما ذكره برهم نفسه حول استغلاله لسيارة والده الحاكم لأغراض التنظيم الحزبي، يذكر خسرو «نظرا لأن وضع برهم من الناحية الاقتصادية كان جيدا جدا حتى إن عائلته كانت تمتلك سيارة في وقت كانت السيارات قليلة في المدينة، لذلك كنا نقوم بأغلب فعالياتنا الحزبية بسيارتهم، إذ كان في بعض الليالي يخرج بسيارتهم دون علم أهله لننقل بها مقاتلي البيشمركة، وأتذكر في إحدى المرات دخل الدكتور بختيار وآسو دلاك وشوان (قتلوا جميعهم فيما بعد) إلى المدينة للقيام بعملية، لكن مع الأسف استشهد الدكتور بختيار خلال القيام بتلك العملية ونجا الآخرون، وكان لبرهم دور كبيرا في إخفاء هذين الرفيقين آسو وشوان، حيث سلمتهما إلى برهم قبل مغادرتهما المدينة بليلة واحدة، وقد أخفاهما في منزل عائلته».
ويستطرد خسرو ساردا التاريخ النضالي لبرهم، يقول «بعد فترة أصبحت طالبا في الموصل، واضطررت إلى أن أعرف برهم بالرفيق حمة رؤوف (قتل لاحقا) ولكن مع الأسف عرفه بدوره على مدرس كان اسمه كمال وكان في عمر والده وكان هذا غير مناسب نظرا للتفاوت الكبير في العمر بينهما وكنا نخشى أن يتم كشفهما من قبل السلطات، لذلك طلبت من لحمة رؤوف أن ينقل برهم فكان أن أرسلوه عند جمال ديمقراط ولكن تم اعتقال برهم بعد شهرين».
ويوضح «في الحقيقة كنت خائفا جدا على برهم ولم أتجرأ على أن أعود إلى السليمانية إلى أن تم إطلاق سراحه.
وأقولها باعتزاز إن برهم صالح استطاع أن يبدي التحمل والإصرار، ويتخطى تلك التجربة بنجاح، لكنه اعتقل بعد فترة من جديد، ولم يعترف بشيء هذه المرة أيضا وتم إطلاق سراحه».
هناك من يلوم برهم صالح لعدم صعوده إلى الجبال والقتال مع قوات البيشمركة التابعة للاتحاد الوطني الكردستاني، مع أنه، وحسب شهادات رفاقه ومسؤوليه في الحزب، كان يقوم بمهمات أكثر أهمية وخطورة من تلك التي كان سيؤديها هو في الجبل، بل إن مسؤوليه في التنظيم كانوا قد رفضوا أن يذهب إلى الجبال، وفضلوا أن يكمل دراسته خارج العراق اعتمادا على مؤهلاته العلمية العالية وتفوقه الدراسي الكبير، حسبما يؤكد خسرو «بعد ذلك قررنا أن هناك طريقين أمام برهم، إما أن يخرج إلى الجبال، أو أن يغادر إلى خارج العراق لنبعده عن أيدي الجهات الأمنية أولا، ونستفيد من قدراته العلمية ثانيا، وتبين لنا أنه من السابق له أن يخرج إلى الجبال حيث كنا نقول دائما إن الدراسة هي فوق كل شيء، وإن الذين لديهم القدرة على الدراسة يجب أن يكملوا دراستهم.
كان من رأي أغلب الرفاق أن يغادر برهم إلى خارج البلاد وقد تم ذلك وخرج من العراق».
لكن علينا ألا نعتقد أن حياة الفتى أو الشاب برهم صالح كانت عبارة عن مشاغل سياسية وحسب، حياة خالية من اللون والصوت وقوة التعبير، يتحدث عن تلك الفترة قائلا «كان جيلنا مهتما بالثورة الكردية وبالثقافة في آن واحد، لإدراكنا أن كل مفردة من هذه المفردات تكمل بعضها، وأنا كنت مهتما بالثورة ونشاطي السياسي وبالقراءة والدراسة في الوقت ذاته، وكنت ولا أزال أهتم، وأنا ملم، بالثقافة الكردية وإلى حد كبير بالثقافة العربية، ولدي اهتمام خاص بالمسرح، ولا أزال أتابع الحركة المسرحية في السليمانية».
ويكشف هنا عن انتمائه لحركة مسرحية أراد أن يختبر خلالها مواهبه الإبداعية «وقد انتميت إلى فرقة مسرحية في السليمانية، لكنني لم أكن ممثلا جيدا فتركتها، كما كانت تعقد ندوات ثقافية كثيرة في مدينتنا وكانت وقتذاك جزءا من الحراك السياسي، أي أنها لم تكن ندوات ثقافية بحتة، وكأي شاب وقتذاك كنا نستمع للأغاني الجديدة خاصة الكردية، فرقة السليمانية وحسين كرنياني، وأيضا كنت معجبا بمظهري خالقي (فنان كردي إيراني)، وبسبب السنة التي قضيتها في إيران وتقارب الثقافتين الكردية والإيرانية أعجبت بالغناء الإيراني خاصة داريوش وهايدا ومهستي وكوكوش، كما كنا نتابع ديمس روسز وتوم جونز، وإلهام المدفعي الذي يمثل مزاوجة جميلة بين الفن العراقي الأصيل والجاز الغربي».
برهم صالح أخذ على عاتقه بعد سنوات طويلة، وعندما تسلم مسؤولياته كنائب لرئيس الحكومة العراقية، إعادة إعمار شارع المتنبي ليعيد لبغداد جزءا مهم من ألقها الثقافي والحياتي المميز، وهو يتابع الإنجازات الثقافية من شعر وفنون تشكيلية وموسيقى، ويحتفظ اليوم في بيته بأعمال تشكيلية عراقية مختلفة الأساليب والرؤى لفنانين عراقيين، هذه المجموعة تعبر عن رؤيا واضحة لهذا المنجز الفني العراقي المهم.
لكنه، وفي سنوات شبابه الأولى، كان يتابع الحراك الثقافي في مدينة السليمانية التي عرفت باعتبارها واحدة من أهم المدن الثقافية في العراق، كما تميز أهلها بمتابعاتهم وانشغالاتهم الثقافية التي تتوزع على السينما والمسرح والموسيقى والغناء والشعر والفنون التشكيلية، يقول مستذكرا «كانت تعقد أمسيات شعرية للشاعر الكردي الكبير شيركو بيكس قبل وبعد التحاقه بالثورة الكردية، وكذلك للشاعر المعروف لطيف هلمت، وكذلك للشاعر الكردي الإيراني هيمن الذي جاء إلى السليمانية واحتشدنا لسماع قصائده إذ كنا سمعنا عنه وقرأنا له قبل أن نراه، وكان المتلقي يفسر كل كلمة من القصائد حسبما يريد باعتبارها رموزا سياسية وليست قصائد.
وكنت أذهب كثيرا إلى السينما لا سيما أن عمي كان يملك دار عرض سينمائية، وكنت أدخل مع أصدقائي مجانا، في وقت كانت توجد فيه ثلاث دور عرض سينمائية في عموم المدينة، وغالبا ما كنت أذهب لمشاهدة الأفلام التي فيها نوع من القصص السياسة أو سيرة حياة مناضل ثوري عالمي، فقد كانت هذه الأفلام نادرة بسبب الرقابة الأمنية المشددة عليها».
كان برهم يعيش مرحلته العمرية بكل مساحاتها واشتراطاتها الحياتية، يقول «كنا نتابع موديلات الملابس ونرتدي آخر ما يصل من الأزياء الأوروبية، مثل سراويل الجارلس والأربطة العريضة الملونة، وكنت أطلق شعري طويلا، يوم كان لي شعر بالطبع».
ويستدرك قائلا «أنا عشت مراحل حياتي كاملة وغير ناقصة سواء طفولتي أو فتوتي وشبابي، وكنت أمارس نشاطي السياسي والثقافي وأتفوق دراسيا، حيث كنت أنجح وأكون الأول على المدرسة كل عام، إذ لم أكن أتغيب عن المدرسة، وكنت مواظبا على أداء واجباتي الدراسية والاجتماعية».
التفوق الدراسي كان سببا لإنقاذه من محن آنية كثيرة، فمثلا «خلال التحقيق معي في المعتقل كانت حجتي أنني متفوق دراسيا ومواظب على الحضور في المدرسة، فكيف تتهمونني بكل هذا الحراك السياسي؟ ولو كنت مثلما تقولون لانشغلت في العمل السياسي وتركت دراستي، وكانت هذه أهم وسيلة للدفاع عن نفسي، والحق يقال إن بعض معلوماتهم كانت دقيقة وصحيحة من خلال مراقبتهم وبعض الاعترافات التي حصلوا عليها وكذلك من خلال عملائهم المتعاونين معهم، وكانت حججي تخلق لهم نوعا من الإرباك والشك في الوشايات أو المعلومات التي وصلتهم، إذ كيف يمكن أن يكون تلميذ في السنة النهائية من الدراسة الإعدادية متفوقا ودرجاته عالية ومواظبا على دراسته وحضور المدرسة وفي الوقت ذاته هو نشيط سياسيا».
لقد حول برهم كل ما اختزنته ذاكرته من مشاهد ومعايشة حقيقية وعن قرب إلى دروس يستنير بها حاليا، يقول «كانت الأجهزة الأمنية مسيطرة من حيث السطوة والإرهاب ومن خلال أجهزتهم المخابراتية والأمنية والحزبية، لكن بسبب افتقادهم للدعم الشعبي وعدم تعاون الناس معهم في السليمانية لم يستطيعوا السيطرة على التحركات السياسية، وحتى لم يتمكنوا من ضبط الشارع أمنيا، وهذا درس بليغ لكل الأجهزة الأمنية والحكومات بأنها إذا لم تكسب الناس وتشعرهم بالانتماء إلى الشعب فإنها لن تتمكن من إنجاز أي شيء، فالسطوة والتعذيب وإشاعة العنف والخوف لا تحقق أي شيء مهما بلغت قوة هذه الأجهزة وبطشها، بدليل أن الحكومات العراقية متعاقبة وعبر عشرات السنين وبجيوشها وسطوة أجهزتها الأمنية وسجونها وإعدامها للآلاف من الأكراد لم تستطع القضاء على الثورة الكردية أو إيقاف تيار نهرها الجارف.
وهنا أتذكر حادثة حصلت عام 1976، إذ صحونا ذات يوم مبكرين، وبالضبط الساعة الثامنة صباحا، على أصوات رصاص يتردد صداه في مركز مدينة السليمانية إثر تعرض موكب المحافظ إلى هجوم مسلح من قبل رفاقنا في شارع مولوي، وهو مركز المدينة النابض بالحركة، لم أكن أعرف وقتذاك المهاجمين، لكننا عرفنا فيما بعد أن المنفذين للعملية ينتمون إلى التنظيمات السرية للاتحاد الوطني الكردستاني.
هذه الحادثة وغيرها من عمليات تؤكد أن قوة القمع السلطوي لا تستطيع إيقاف عجلة أي ثورة ضد الاستبداد».
حادثة أخرى يتذكرها بدقة «عندما كنا، مثلا، نوزع منشورات حزبية سرية، أو ننقل بعض قطع السلاح سرا، ونجد أن الأجهزة الأمنية تلاحقنا بسياراتها السريعة وعناصرها المدججين بالسلاح، كنا ندخل أي بيت قريب ونقول لهم إننا نتعرض للمداهمة أو الملاحقة من الأمن، فكانوا يؤووننا ويدبرون الطرق لإخفائنا أو تهريبنا لإنقاذنا، وكنا نطمئن أن كل بيت يؤوينا ويفتح أبوابه أمامنا بلا تأخير أو قلق، وكانت كل بيوت السليمانية هي مقرات احتياطية للجوئنا واختفائنا من غير أن نتفق معهم أو نشعرهم مسبقا بذلك لأنهم يعرفون أننا نناضل من أجلهم ومن أجل حريتهم وحياتهم وقضيتهم».
يعزو صالح أحد أهم أسباب فشل سلطات النظام السابق في قمع الثورة الكردية والقضاء عليها إلى الالتفاف الشعبي الكردي على هذه الثورة والإيمان بها ودعمها، يقول «هذه تجربتنا مع حزب البعث في العراق، فالحزب الحاكم آنذاك كان في حالة حرب مع الثورة الكردية التي شكلت واحدة من أشد المراحل خطورة عليهم، وهي حرب بين شعب مؤمن بعدالة قضيته ونبل تضحياته، وسلاح هذه الثورة هو الإيمان بقوة الإرادة وليس بالأسلحة البسيطة التي كان يتوفر عليها مقاتلو ثورتنا، بينما كان الجانب المقابل هو الحكومة، حزب البعث الذي كانت لديه القوات المسلحة بجميع أسلحتها المتطورة من طائرات مقاتلة ودروع وأعداد كبيرة من الجنود والأسلحة الثقيلة، إضافة إلى مختلف الأجهزة الأمنية والمعتقلات المزودة بأشد وسائل التعذيب والتنكيل قسوة والجيش والمعسكرات التي كانت مزروعة وسط مدننا والتي كان يُعدم فيها يوميا العشرات من الثوار الأكراد، بل كانت دائرة الأمن وسط مدينة السليمانية (بناية الأمن الحمراء) التي شهدت حلقات يومية من تعذيب الرجال والنساء، بل وحتى الأطفال وإعدامهم، إذ عرفت هذه الدائرة باعتبارها الأكثر قسوة ورعبا في كردستان، وربما في جميع المحافظات العراقية، باستثناء مقار ومعتقلات مديرية الأمن العامة ورئاسة المخابرات في بغداد، ومع ذلك لم تتمكن سلطات البعث من قمع الثورة الكردية لأن هذه الثورة كانت مدعومة من قبل الناس، من قبل الجماهير الكردية التي اعتبرت أن النظام الحاكم ضدها ويريد القضاء عليها وعلى طموحاتها وأحلامها وإرادتها، وذلك من خلال القضاء على ثورتها لهذا حاربت هذه الجماهير أساليب وقمع النظام بشتى الطرق المتاحة، فالشعب كان معنا ولنا».
دائرة الأمن الحمراء (امنه سوره كا) كما تسمى أو مشهورة باللغة الكردية، تحولت اليوم إلى متحف يعرض أجهزة ووسائل التعذيب والقتل، ولم تتم إعادة إعمار هذه البناية، إذ بقيت على حالها لتبقى شاهدا حيا ووثيقة تتحدث عن المآسي التي جرت بين جدرانها، وتدين وحشية وتسلط النظام التعسفي الذي كان حاكما في العراق.
———-
– الحلقة الأولى من مذكرات برهم صالح: تعلمت العربية مبكرا بتشجيع من أبي الذي درس الحقوق ببغداد
– مذكرات برهم صالح (الحلقة 2): لم أقاتل مع البيشمركة بأوامر من الاتحاد الوطني..
وليس باختياري