ومن المؤسف القول بأن مختلف التحركات السياسية لهذه الأحزاب كبيرها وصغيرها لم تتعد كونها قفزات داخل القفص كنتيجة لإصرار السلطات المعنية في سوريا على المضي في تجاهل المطالب السياسية لهذه الحركة ككل.
الآن وبعد انقضاء نصف قرن من حياة الحراك السياسي الكردي في سوريا تعرض هذا الحراك خلالها لعدة أزمات داخلية أدت إلى توالد مفرط في عدد الأحزاب الكردية، نتيجة لسلسة انشقاقات تراوحت دوافعها بين خلافات فكرية وخصومات شخصية، وخلص المشهد اليوم إلى تصنيف قلة من تلك الأحزاب على أنها كبيرة جماهيرياً أو تنظيمياً وأخرى صغيرة، لا يتجاوز منتسبوها حدود عائلة الأمين العام وأصهاره وأنسبائه، وتعزى قابلية التصدع لدى هذه التنظيمات إلى تقليص الهامش الديمقراطي وانكماشه لصالح “المركزية” المسرفة في الهيمنة على القرار السياسي والمتحكمة في الإدارة الداخلية للهيئات الحزبية على حد سواء.
والمركزية كنظام إدارة وكعادتها، هيأت الظروف المؤاتية التي مكنت الفساد من التسلل إلى أهم مفاصل الحزب لاسيما القيادات، المتمترسة خلف أنظمة داخلية رثة ترجح دوما المركزية على الديمقراطية وتمنع ظهور أية توجهات جديدة داخل الحزب وتقمع بشدة أية دعوة للإصلاح أو المحاسبة داخل الحزب متذرعة بكل ما من شأنه أن يخدم الأمين العام وحاشيته، وتبقي على الحزب بأسره تحت سطوة هذا (الأمين).
وبينما كان مشروع الفساد الحزبي الكردي في سوريا يكاد يكون محصوراً في مسألة احتكار القيادة وتعميم (الرؤى) والمزاج الشخصي الخاص بالسكرتير أو الأمين العام للحزب كبرنامج سياسي ينبغي على جميع الأعضاء الالتزام به والتصفيق له وضرورة إبداء الإعجاب بشخص ا(لأمين) العام كحد أدنى وشرط أساسي لنيل صفة العضوية في الحزب، فقد تخطى الفساد تلك الحدود لدى “الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا”، أحد أقدم الأحزاب الكردية في سوريا، بقيادة عبد الحميد درويش 74 عاماً الذي استمرأ قيادة الحزب طيلة 53 عاماً باحتوائها، وبدأ الآن مشروعه في توريث الحزب ومقدراته التنظيمية والمالية من خلال إجراءات تصفوية أتخذها بحق صفوة من الكوادر خلال مسيرة الحزب كان آخرها محاولة إبعاد القيادي “فيصل يوسف” عضو المكتب السياسي مع مجموعة كبيرة من مؤيدي الإصلاح في الحزب خلال الأشهر الماضية، بعد أن ارتفعت وتيرة الأصوات المطالبة بالإصلاح والتجديد و البدء بالتحقيق في قضايا اختلاس أموال ومخصصات الطلبة التابعين لهذا الحزب في مدينة السليمانية في كردستان العراق.
وخلافاً لما جرت عليه العادة من إعلان انشقاق أو ولادة حزب جديد تعقب كل خلاف حزبي، يبدو أن الجناح الإصلاحي في الحزب التقدمي وتحت شعار الإصلاح والشفافية حاول من خلال تجسيد بيوريسترويكا كردية المضي في مشروعه الإصلاحي الرافض للتأبيد والتوريث داخل الحزب داعياً في ذات الوقت إلى استمرار التحقيق في قضايا الفساد المالي.
ومن نافل القول أن المشاريع الإصلاحية داخل الأحزاب لن ترى النور من خلال رفع الشعارات وإثارة النقاشات بل المسألة بحاجة لمواقف حاسمة تشمل التغيير في الرؤية والنهج والممارسة وأن تنطوي التحركات الإصلاحية على بعدٍ في النظر ودقة في الرؤية الإستراتيجية، وأن تمتلك القدرة على التوفيق بين المصالح الآنية والمستقبلية وضرورة إدراك حجم وطبيعة التغيير الذي يعيشه الحزب وتعيشه الأطياف السياسية الأخرى المحيطة بالحزب من اصطفافات حزبية وأجواء سياسية عامة في الوطن الذي تتفاعل داخلَهُ كل تلك العناصر.
تحتاج مشاريع البيروسترويكا في أي مكان إلى تجاهل ما روج له بعض المكسوفين من انهيار الاتحاد السوفييتي من توصيف للديمقراطية على أنها (مخادعة)، والتركيز على الحفاوة التي قابل بها أبناء تلك الجمهوريات السوفييتية ذلك الانهيار معتبرين إياه إنعتاقاً وظفراً بحريتهم والتحقق من أن سيف الفساد سبق عذل غورباتشوف وبيروسترويكاه.
من الخطأ إذاً الحديث عن بدائل للإصلاح الجاد والشفافية التامة ومن الخطأ أيضاً الظن بأن الدعوة للإصلاح هي دعوة للنوم على الحرير، فالإصلاح لا يأتي مجاناً دون تضحيات وخسائر، وغالباً ما تحتاج إعادة البناء إلى نوع من التفكيك الواعي والمنتظم.
فالحزب التقدمي اليوم وأعضاؤه أمام تحدٍ أساسي وخيارات واضحة بين قبول الصعود كفصيل سياسي متحاور ومتفاعل مرتكز إلى القاعدة الإصلاحية التي تبلورت مؤخراً أو أن يسقط كأفراد بينهم من يمتلك الثروة لكنه لا يمتلك بيئة العمل الجماعي المناسب ومنهم من يمتلك رؤى إصلاحية لكنه لم يتحل بعد بالشجاعة الكافية ليفصح عنها.
كاتب كردي مقيم في سوريا
Amjad_ib@hotmail.com