اللاواقعية والبعد عن الأرض والواقع

حسين عيسو

حين وصلت الشبكة العنكبوتية الى بلدنا سوريا , كنت أتوقع من الجميع اعتبارها نعمة مثل نعمة الخبز أو الماء أو الهواء , وخاصة بالنسبة لنا نحن أبناء القومية الكردية الأكثر معاناة بين كافة مكونات الشعب السوري التعددي , فرغم معاناة الجميع الا أن الكردي بالذات لم تكن لديه إمكانية التنفيس عما يعانيه سوى ضمن الغرف المغلقة , لذلك كنت أتوقع أن تنم الاستفادة من هذه النعمة بنهم شديد “طبعا عند من لديه إمكانية الحصول عليها” ! , لكن يبدو أن العديد من مستخدمي الانترنت اليوم مازالوا وكما في الماضي , يعيشون ضمن تلك الغرف المغلقة التي كانت تجتمع فيها مجموعة صغيرة من الأشخاص المتشابهي الطروحات والآراء والتي لم تكن ترى أبعد من باب الغرفة , فيشتمون ويتهمون من شاءوا , ويحللون ما شاءوا , ثم كان كلام الليل يمحوه النهار
 والمصيبة اليوم أن العديد من هؤلاء ما زال يفكر بنفس العقلية , يتصفح المقالات المنشورة ويفهمها من العنوان “كما يقال في الأمثال”, ولا يكلف نفسه عناء قراءة ما في داخلها , فيحلل ويتهم ثم يشتم , دون الاهتمام برأي ذلك الآخر الذي ينطلق من خلفيته الفكرية التي قد لا ترضى عنها , كما أنك أيضا لا ترضيه , وهذا من سنن الطبيعة البشرية ومن يعتقد أن الحقيقة المطلقة معه مخطئ , يقول بوذا : “أنه وصل الى الحقيقة ولكن لكل انسان حقيقته التي يجب أن يبحث عنها” .

منذ أيام , ولسوء الحظ , نشر أحد الأخوة العرب من أبناء الحسكة “فيصل الظفيري” رسالة موجهة اليَّ أو من خلالي , بعنوان استفزازي , ينتقد العديد من الأمور التي تنادي بها بعض أطراف الحركة الكردية , ثم كان رد أحد الأخوة “وليد عبد القادر” عليه بأسلوب رد الفعل الذي غالبا ما يكون عاطفيا وبعيدا عن العقلانية , وهذا ليس غريبا بين أشخاص  ينتمون الى مكونين , يبدو أن الهوة بينهما بدأت تتوسع بشكل خطير في الفترة الأخيرة , ودون أي جهد يذكر في سبيل ردم تلك الهوة , لذلك كانت مقالتي بعنوان “الحكم الذاتي وسجال المتخندقين” انتقدت فيها صاحب الرسالة الأولى , وخاصة عنوانها الاستفزازي لكني أجبت الآخر أيضا بأنه تسرع حين لم يقرأ غير العنوان فأخطأ في الفهم , لأن “النص” في مقالة الأخ الظفيري مختلف عما في العنوان , ففيها التنديد بالمتطرفين أو من سماهم بالمغالين من الطرفين , وفيها المناداة بالمساواة بين كافة أطياف المجتمع السوري التعددي ودولة الحق والقانون وبأن هذه الأرض لنا جميعا وكلنا شركاء في هذا الوطن !, قد يكون قصده من هذا العنوان الاستفزازي الساخر تحريك الماء الراكد , أو وليس غريبا أن يكون هذا ما يتم تداوله في الشارع العربي , فأراد الرجل من خلالها معرفة رد فعل الشارع الكردي على هكذا اتهام , هذا ما فهمته من مقالته , وكنت أتمنى من مثقفينا الكرد الرد عليه بموضوعية لأن اهمال الرد وترك الشكوك تحت الرماد ليست في مصلحة أحد , للأسف كانت ردود البعض كلها شتائم وتهم دون التطرق الى ما في النص ,لذلك قلت بأننا اذا تعاملنا بالاتهامات والاتهامات المضادة فلن نفهم بعضنا ولن يسمع أحدنا الآخر , واذا كنا فعلا ننادي بالدولة الوطنية ونعمل على بنائها على أسس المساواة , أي الدولة المدنية للكل السوري التي تعترف  بكافة قومياتها وأديانها وحقوقهم المتساوية , فلنتفادى هذه الأساليب التي لا تؤدي الا الى توسيع الهوة بيننا , لذلك كانت الردود عليَّ مختلفة , فمن قرأها فعلا شكرني في رسائل خاصة !, وأما من اعتمد على العناوين , كال الشتائم والاتهامات , حتى أن أحدهم والذي سمى نفسه “ماجد حسكاوي” قال بأنني من اخترع “الظفيري” وأنا من نشر المقال , لكن يبدو أن الأخ الذي لم يجرؤ على ذكر اسمه الحقيقي , ليس حسكاويا فلو أنه كان من الحسكة لعرف بأن “الظفير” عشيرة عربية معروفة بهذا الاسم !, أما أروع اكتشاف في عصر الانترنت !!! هو ما قدمه “دليل اسماعيل” من تحليلات ودلائل علمية وإثباتات قاطعة تؤكد أن الظفيري ليس عنصريا عربيا وانما هو مرتزق كردي من السليمانية , كل هذه التأكيدات والتحليلات الفلسفية لم تنتبه الى أن “فيصل الظفيري” ليس خيالا وانما هو حي يرزق وينتمي الى عائلة معروفة تاريخيا في مدينة الحسكة ومن سكانها منذ بداية القرن الماضي أي منذ تأسيسها , وهو ممن يكتبون وينتقدون الأخطاء “ليس بالضرورة منشورة على الانترنت” من أي طرف كانت وبأسلوب ساخر , أي أسلوب “تراجي كوميك”* وللعلم فهو وكما قال لي بعد لقائي به يرحب بمن يود التعرف عليه.

يبقى التساؤل لماذا كل هذا الخلط , وماذا نريد , ولماذا لم تردوا عليه وتفندوا ادعاءاته بمثلها , لماذا قفزتم الى الاتهام الذي نحن الكرد أكثر من يعاني منه , ألم يكن المفروض أن نرد عليه بالحجة والبيان , لا إيجاد أصل جديد له ودون أي دليل , هل القصد كله كان الرد من أجل الرد , وليس تفنيد اتهاماته , أليس مدعاة للخجل أن تكون ردودنا بهذا الشكل , ومن لم يعجبنا رده نخلق له أسماء وتهما نحن أكثر من نعاني منها عبر التاريخ , الأمر الثاني هو أن من لم يستطع الرد على نقدي لاستعجاله في نشر اسمه , لم ينتقد ما كتبت , بل ذهب الى توجيه أسئلة اليّ , وكأني معتقل لديه وفيها الكثير من التجني , ومع أنني ومن خلال أكثر من مقالة , أنادي بالمواطنة في دولة مدنية تعددية , تتمتع فيها كل القوميات بكامل حقوقها المتساوية بغض النظر عن تعداد أبناء هذه القومية أو تلك ومع أن مقالتي “هوية المواطنية كقضية اشكالية” منشورة في العديد من المواقع الكردية والعربية , الا أن السيد “وليد” مثلا مازال مصرا على استنطاقي حول أي مواطنية أريدها , “مع أن طلبه مفسر في مقالتي تلك بالكامل , هنا أود القول لكل هؤلاء الأخوة الذين ابتعدوا عن الواقع بعد أن ابتعدوا عن الأهل والأرض , اذا كنتم فعلا غيورين على مصلحة شعبنا , ارحموه من شعاراتكم , وأن الاستمرار في الاستشهاد بالتاريخ ليس في مصلحة أحد وخاصة شعبنا الكردي , ثم هل تعلمون أن دولة مثل الولايات المتحدة لم تكن موجودة قبل خمسمائة عام بل كانت أرضا للهنود الحمر , فهل يستطيع أحد اليوم اثبات حق أولئك البشر فيها , كذلك تركيا التي لا يزيد عمرها عن ثمانمائة عام , هل يذكر أحد اليوم أنها كانت يونانية أو كردية أو أرمينية , الجزيرة السورية أرض كردية ولكن سكنها قبلنا الآشوريون وأتى العرب “منذ ألف وأربعمائة عام” وما زلنا جميعا فوق هذه الأرض ألا يعني ذلك أن هذه الأرض شراكة بيننا جميعا ولا يستطيع أي منا نفي حق الآخر فيها, هل تريدون الواقع أم الحلم , تحقيق كردستان الكبرى , مطلب البعض من الأخوة الذين ابتعدوا عن الأرض والأهل لكونهم لم يتحملوا المعاناة مثل غيرهم , يناضلون اليوم وعن بعد في سبيل تحريرها وتوحيدها , هل هم جديون في ذلك ؟ , لا أعتقد !!!!! , أحدهم استغرب ردا على تأسيس المجلس السياسي الكردي بسؤالهم كيف يستطيعون فصل الكرد في كردستان سوريا عن الكرد في كردستان ايران , أنا مضطر هنا أن أقول : يا ناس , قليل من الواقعية احتراما لعقول الآخرين فقط , فالذي نعرفه جميعا , هو أننا واخوتنا في كردستان ايران لم نتوحد في دولة واحدة يوما حتى تحت حكم الآخرين , فكيف بهذا الكلام , نتعاطف معهم ونحس بآلامهم , وكما قال الزعيم الكردي العراقي مسعود البرزاني نحلم أن نتوحد واياهم يوما ما , لكن أن نقول أننا واياهم كنا موحدين ويأتي من يريد فصلنا عنهم فانه يجافي كل الحقائق , لقد انتبه الأخوة العرب اليوم الى أن الشعارات الشعبوية والأحلام الوردية هي التي دمرت دولا كادت لولا تلك الشعارات أن تصل الى مصاف الدول المتقدمة , فكيف بنا ونحن شعب مغلوب على أمره , أليس من الواجب التعاون مع شركائنا في هذا الوطن في سبيل الحصول على حقوقنا الثقافية القومية على أسس المساواة الكاملة , هل يعلم هؤلاء أن الكرد في تركيا وبعد خمس وعشرين عاما من الحروب التي دمرت الطرفين يطالبون اليوم بالحقوق الثقافية القومية في تركيا , فماذا نريد نحن الكرد في سوريا , أحدهم طالب من لندن ذات مرة ببناء جدارا للفصل بيننا وبين شركائنا العرب والسريان وغيرهم , نسي الرجل في غمرة أحلامه أو مزايداته بأن جدار الفصل في فلسطين بناه اليهود وليس الفلسطينيون , وأقول له انني أعيش في الجزيرة السورية وقريتي تقع جنوب خط الحدود مع تركيا بمسافة أقل من عشرة كيلومترات , يحدها من الشرق قرية مسيحية “سريانية” ومن الجنوب والجنوب الغربي قريتان عربيتان وهم ليسوا من الغمر وانما من سكان المنطقة مثلنا وفي الشمال قرية كردية تليها كذلك قرى متداخلة عربية كردية سريانية , فكيف سيتم هذا الفصل , الموضوع الثاني عن المزاودة , فالأخ الذي اتهمني بها لم يقرأ ما أكتبه , ولو أنه قرأ افتتاحية العدد 414 من جريدة آزادي لقرأ فيها عن ستينات القرن الماضي ما يلي : “كما تعرض أحد الطلبة للمهانة والضرب المبرح على يد السلطات والفصل النهائي من كافة المدارس الحكومية فقط  لأنه رفع في مسيرة شعبية شعار : ” نحن أحفادك صلاح الدين بماضينا مفتخرين” .

كانت تلك المسيرة بعد انقلاب الثامن من آذار وردا على مسيرات شوفينية تنفي وجود الكرد في سوريا , وكنا نهتف فيها مفتخرين بكوننا أحفاد صلاح الدين ونحيي الأخوة العربية الكردية , اعتقلت يومها وطردت من المدارس الرسمية , كان ذلك في الفترة التي لم يجرؤ كثيرون على اظهار كونهم كردا !, كذلك من يقرأ ما كنت أنشره على صفحات الشرق الأوسط والحياة في تسعينات القرن الماضي يلاحظ أيضا أنني كنت أنادي بالتآخي العربي الكردي وكان أغلب ما أنشر ردودا على الشوفينيين من الكتاب العرب , واليوم عبر الانترنت لم أغير رأيي , وكل ما كتبته متاح لمن يريد قراءتها وهذا رأيي , وللعلم هذا ما يراه المجلس السياسي الكردي في سوريا اليوم , وكذلك العديد من المثقفين السوريين من العرب وغيرهم , وصلوا الى نتيجة مفادها أن الواقع غير الحلم وأن المستقبل للدولة المدنية الحديثة التي تتساوي فيها كل المكونات في حقوقها وواجباتها .
 أخيرا , وبما أن ما ذكرته في نهاية مقالتي السابقة لم يلتفت اليه أي من القراء الكرام فانني أعيد لصقها بهذه المقالة : “تساؤل أود طرحه كسوري كردي على المثقفين والسياسيين الكرد السوريين الحريصين فعلا على مصلحة شعبنا الكردي في سوريا وبعيدا عن الشعارات الشعبوية التي أصبحت ممجوجة لدى الشارع السوري عامة والكردي خاصة , وبمنأى عن المصالح الحزبوية الضيقة , أقول : هل تعلمون أن محافظة الحسكة بدأت تفرغ من سكانها وأن عدد المهاجرين الى الداخل السوري والخارج , من الكرد فقط يقارب المليون انسان تقريبا , واذا استمر الحال على هذه الوتيرة والتي يبدو أنها في تصاعد خاصة بعد تطبيق المرسوم 49 فلن تكون هنالك حاجة الى حكم ذاتي في الجزيرة التي تكون قد أفرغت من سكانها الكرد بعد عشرين عاما , هل فكر أحد بما سيكون عليه شكل الغد , صحيح أننا لم نستفد من عبر التاريخ لأننا لم نقرأه , فقط سمعناه من المغنين الذين يشيدون ببطولات لم نجن من وراءها سوى الكوارث , فهل عندنا الإمكانية اليوم لفهم الواقع لننطلق منه الى المستقبل بموضوعية .
Tragicomic* = المأساة الهزلية
الحسكة في 11-03-2010
Hussein.isso@gmail.com

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…