المرسوم 49 وخيمة الوطن (مداخلة المحامي إبراهيم حسين التي ألقيت في مؤتمر نقابة المحامين بالحسكة)

بسم الله الرحمن الرحيم

لم نكن لنفوت فرصة هذا المؤتمر فهو مناسبة يجدر بنا استغلالها لمقاربة واقع مهنتنا وواقع بلدنا الحبيب ، ونفتح عبرها نافذة تواصل حقيقي مبني على حوار سليم أساسه الحب الذي يجب أن يجمعنا وعنوانه الانتماء لوطن يحتاج منا أن نتعاون سوياً لتخليص لوحته الجميلة من أي غباشة قد تعترض أعين من يعشقه، ودافعه أن المحامين هم أولى الناس بلعب دورهم البنّاء في تثمين معاقل النور وتحفيز همم الخيّرين من جهة وفي تعرية مواطن الخلل والقائمين أو المتسببين به من جهة أخرى ..
ولو لم يكن المحامون حملة اللواء الأعلى في مسيرة الدفاع عن الحق ، لما خصهم السيد رئيس الجمهورية على الدوام بلقاء مع قياداتهم النقابية ومنها اللقاء الأخير الذي جرى مع أعضاء نقابتنا المركزية الذين نبارك لهم ثقة الزملاء .
في اللقاء الأخير، إذاً ؛كان السيد رئيس الجمهورية يبعث برسالة إلينا كمحامين،يحفزنا على لعب دورنا وينشط ذاكرتنا ويضعنا في مرتبة نستحقها وهي مرتبة المشاركين بصنع القرار والمدافعين عن الحق والمحاربين للظلم أو الخطأ ، ونستشف ذلك من طلبه الواضح لمجلس النقابة كي يقوم بدوره في محاربة الفساد الذي يعيق مسيرة التطوير ، والمفرح بالنسبة لنا أنه أكد الاهتمام الذي توليه القيادة للمنطقة الشرقية ..
هذا الفرح الذي كان سيكون أكبر وأعظم لو وقف مجلس نقابتنا وشرح للسيد الرئيس ما نعانيه في المنطقة الشرقية..
فمعاناتنا أيها الأعزاء كبيرة وكبيرة جداً ،بل مؤلمة ومؤلمة جداً ..
لقد كانت المحاماة سابقاً مهنة الفرسان وملتقى أصحاب الكرامة المكتفين مادياً وهي في كل العالم مهنة الأغنياء والأذكياء ،ومنها يخرج القادة الذين يأخذون ببلدانهم قدماً نحو تطور نلمسه واضحاً لدى دول وضعت اسمها بفخار على خريطة العالم ..
ولأن سوريا دولة تشكل رقماً صعباً وبنت لنفسها مكانة عظمى بشهادة الأعداء أنفسهم فقد تمنيت من كل قلبي أن نكون نحن المحامون ،مستمرون في المشاركة الفعالة ببناء هذه المكانة وأن نكون على مستوى المهام التي يتمنى قائدنا أن نقوم بها ..
لكن هيهات ..

فكيف نكون بناة وطن ونحن جائعون ..

كيف نكون رجال حق ونحن نعاني من ظلم ، وكيف نكون محاربين للفساد ونحن نترك الباب رحباً أمام مسببات الفساد ، بل كيف نكون عوناً لرئيسنا في تنمية المنطقة الشرقية ونحن لا ننقل إليه بشفافية أنين محاميّ الجزيرة وهم يُذبحون بغير سكين بفعل مرسوم أثار الكثير من علامات التعجب والاستفهام ..
وهو- أي المرسوم –قد يجبر المحامي على سلوك طرق ملتوية ،فيمارس مهنة أخرى بالخفاء وهو مقيد بجدول المحامين ، أو يلجأ لتأمين 15 دعوى ليملئ بها دفتر ممارسته ،وربما( وأؤكد على كلمة ربما ) لو قام مجلس الفرع بالتدقيق في الكثير من طلبات تثبيت الممارسة لاكتشف أن هناك تحويراً وربما تزييفاُ للدعاوى الواردة فيها ،ولعلم أن تأثير المرسوم انتقل من خنق الجيوب إلى تسويغ العيوب ، ولأن الفقر كفر فلا تستغربوا إذا صفعت يد الفقر زاهداً ،أن تصبح له قبور الخطايا مزاراً ولا تستغربوا أن يندفع كل (درويش) من المحامين لاتخاذ مزالق الزلات مساراً ويلتحق بمن سبقه من الفاسدين ويتخذ لنفسه في دعاوى التأمين أو الجزائيات سمساراً .
أستغرب إذاً كيف نطلب من المحامي أن يكون عنوان الشرف والاستقامة ونحن نحجب عنه لقمة العيش ونحجب عنه حق الاعتراض على مرسوم ، بينما رئيس الجمهورية نفسه يقول أننا نصدر مرسوماً فإن اكتشفنا أن به خللاً عدلناه ، وبينما هو نفسه يحفزنا على التشاركية في صياغة قوانين وتشريعات غايتها، بالنهاية ،رفاه الشعب ؟ فأين هو الرفاه من مرسوم عطّل على الأقل ثلاثين مهنة مختلفة ضمن محافظتنا؟وأين هو النقاش الذي يجب أن يطول هذا المرسوم من قبلنا كمحامين لتحقيق رغبة السيد الرئيس في جعلنا مشاركين بصنع القرار ولتبيان إيجابياته ومساوئه بعد تطبيقه ومن ثم نقل الانطباعات لراعي الأمة فإن كان الخير في البقاء أبقاه وإن كان الخير في الإلغاء ألغاه ..

علماً وأننا حتى هذه اللحظة لم نسمع من الحكومة مبررات الإصدار ولم نسمع أن مجلس الشعب درسه وأقره .
ولو قال قائل أن مبررات أمنية كانت وراء صدوره فأرد وأقول :إن تسرب العملاء والأعداء لن يجد لنفسه مرتعاً أفضل من فقر مدقع يلمّ بأهل البيت ، ثم أين هي هذه المبررات الأمنية التي تمنعني من التصرف بملكي بحجة منع الغرباء من التسرب ،بينما هذا الغريب نفسه يمكن له أن يتغلغل عبر ضعفاء النفوس ويمتلك بأسمائهم عقارات قريبة من وزارات أو دوائر غاية في الأهمية بالعاصمة وبمراكز مدن كبيرة دون ترخيص ودون استئذان ..

باختصار أيها الأخوة إن أمن محافظة الحسكة وسواها من مناطق الحدود لا يُبنى بعملية الخنق ،بل يُبنى وكما تعودنا بتنمية الحالة الوطنية وزرع حب الوطن في العقول والقلوب وهي حالة يقول التاريخ أنها طالما كانت موجودة عندنا ،وما قصف عامودة بطائرات المحتل الفرنسي ونضالات رجال الجزيرة الشرفاء في أوائل القرن الماضي، وأسماء شهدائنا عرباً وأكراداً ،مسلمين ومسيحيين في كل حرب ضد الكيان العنصري الصهيوني إلا دليل على أننا كنا وسنبقى عشاقاً للوطن محامين عنه رافعين للوائه مبايعين لقيادته رغم أنف كل حاقد ..
بعيداً عن الرتوش وعمليات التجميل اللفظية أيها الأحبة أقول :لا يوجد أي مبرر للإبقاء على المرسوم 49 ولا يوجد أي مبرر لسكوتنا عنه وعدم قيامنا بواجبنا الأخلاقي تجاه رئيسنا وتجاه بلدنا وتجاه أسرنا بل وتجاه أنفسنا في تعرية مخاطر هذا المرسوم التي تجلت واضحة في انخفاض كبير لموارد النقابة وفي عمليات هروب لأكثر من عشر زملاء من زملائنا خلال عام واحد من فرعنا إلى باقي الفروع وهي ظاهرة لم تحدث منذ تأسيس فرعنا والأرقام واضحة ..والذي حصل في فرعنا حصل في كل قطاعات المجتمع والدليل ما يسمى بمخيمات نَوَر الجزيرة التي باتت تشكل نقطة علام في ريف دمشق وغيرها ..


صرختي هذه أرفعها علها تصل لقيادة علمتنا ألا نسكت على الخطأ وأتمنى من كل زملائي الشرفاء ألا يفهموا منها أني أبرر حالات فساد قد تنتج بسبب انعدام العمل بعد المرسوم إذ أن أبناء هذه المهنة كانوا وسيبقون من المدافعين عن القيم والفضائل بيد أن القصد هو صعوبة ضبط الكثير من الأنفس التي قد يشق عليها الصمود ..
وإن قال قائل فلم أقتصر في حديثي على مرسوم واحد والتحديات والملاحظات التي يجب أن نعالجها ونشير لها كثيرة ومتعددة فإني أجيب :
لا تنتظروا منا أن ننشغل بالإشارة لفساد أو نطالب بإصلاحات مهنية أو سياسية في وطننا طالما أن قوت عيالنا في خطر ، فالجائعون يبحثون أولاً عن لقمة عيش ،إن توفرت فستعينهم على التفكير وستجعلهم قادرين على المساهمة كل بطريقته في جعل سورية جنة الله على الأرض .


أقول كل هذا الكلام وأنا واحد منكم لا أميز نفسي بانتماء ضيق فخيمة الوطن هي التي تظللني هنا ،وهي خيمة من حقي ومن واجبي أن أدافع عنها ، خيمة إن عابها طارئ ، فلا امتياز لأحدنا ينجيه ، وإن حاق بها ضرر،فإنه لا يستفرد بأحدنا دون الآخر ،وإن سادها خير وهناء فهو يعمّنا ويشملنا بلا تفريق ، فلا تفرقوا رحمكم الله ..


المحامي إبراهيم حسين

7 آذار 2010

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف باتت تطفو على السطح، في عالم يسوده الالتباس والخلط بين المفاهيم، مصطلحات تُستخدم بمرونة زائفة، ومن بينها تجليات “الشعبوية” أو انعكاساتها وتأثيراتها، التي تحولت إلى أداة خطابية تُمارَس بها السلطة على العقول، لا لتوجيهها نحو النهوض، بل لاستغلالها في تكريس رؤى سطحية قد تقود إلى عواقب وخيمة. لاسيما في السياق الكردي، حيث الوطن المجزأ بين: سوريا، العراق، إيران،…

شادي حاجي القضية الكردية في سوريا ليست قضية إدارية تتعلق بتدني مستوى الخدمات وبالفساد الإداري وإعادة توزيع الوظائف الادارية بين المركز وإدارات المناطق المحلية فإذا كان الأمر كذلك لقلنا مع من قال أن المشكلة إدارية والحل يجب أن يكون إدارياً وبالتالي حلها اللامركزية الادارية فالقضية الكردية أعقد من ذلك بكثير فهي قضية شعب يزيد تعداده على ثلاثة ملايين ونصف تقريباً…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية ومع مناصري ثقافة التسامح واحترام حقوق الانسان ومع أنصار السلم والحرية، نقف مع السوريين ضد الانتهاكات الجسيمة والاعتداءات الصريحة والمستترة على حقوق الانسان الفردية والجماعية، وسياسات التمييز ضد المرأة والطفل، وضد الأقليات، وضد الحرب وضد العنف والتعصب وثقافة الغاء الاخر وتهميشه، وتدمير المختلف، والقيام بكل ما…

نحن، المنظمات الحقوقية الكردية في سوريا، نهنئ الشعب السوري، بجميع مكوناته وأطيافه، على إسقاط نظام الاستبداد، إذ تمثل هذه الخطوة التاريخية ثمرة نضال طويل وتكاتف الشعب السوري ضد آلة القمع، وهي بلا شك نقطة انطلاق نحو بناء سوريا المنشودة. إن سوريا الجديدة، بعد إسقاط النظام البائد، تدخل مرحلة حاسمة، وهي مرحلة البناء والسلام والصفح. لذا، ينبغي أن تسود فيها العدالة…