نوروز بين الواقع والأماني

  افتتاحية صوت الكورد *

مع بداية انطلاق الربيع ..

وهو يشكل لوحة الطبيعة الساحرة في العالم , و في ربوع كردستان الساحرة ..

حيث تسيح الجداول مترنمة في دفقها النابض مع ذوبان كتل الثلوج , و انحدارها في الأعماق لتلون حنايا الوديان , و تزرع الأمل في شرايين الحياة حيث البابونج و القرنفل و عناقيد الياسمين ..

تحيط المكان بعبق لا يزال يزكم الأنوف ..

مع جوقة البلابل و الشحارير تفيض بأنغامها العذاب مع ساعات الصباح الندي ..

حيث تنتهي أسرابها إلى أشجار الدلف و البلوط و الصنوبر و ألوان الأيك الملتفة ..

و قد خرجت البراعم من أكمامها متهادية مع الأنسام البليلة ..

ولكن هذه اللوحة الساحرة لا تكاد تجد في أحضانها إلا الآلام , في شهر كردستاني , ضم في  أحشائه ألوانا من القهر و العذاب,… و ذكريات مريرة دامية , لا تكاد تراها وسط ذلك الغمام القاهر , إلا بأشعة وانية تفيض من هذه الومضة أو تلك , أو هذه الغصّة المتعثرة وسط الآلام و الدموع..

في قدر ارتسم مع هذا التألق الآذاري الساحر ..

حيث يصادف اليوم الأول من آذار ذكرى رحيل البارزاني الخالد , رمز الأمة , و سفر تاريخها المعاصر , لينتهي هذا الشهر  في الواحد و الثلاثين بإعدام قائد ملهم , وعظيم من عظماء الكورد القاضي محمد , حيث يضم  بين غلافيه كسِفْر أليم هذين الحدثين المفجعين ..

لنجد في أعماق هذا السفر الاتفاقية الخيانية المبرمة في الجزائر /1975 / في السادس منه, بين النظام العراقي البائد و شاه أيران, كأكبر مؤامرة استهدفت الاتفاقية التاريخية بين الثورة الكوردية و النظام, بما كان لتلك المؤامرة  من أثر بالغ في التاريخ الحديث , بعد تضحيات عظيمة في ثورة أيلول المجيدة , لتكتمل الكارثة في أبشع صورها في المجزرة الدامية التي استهدفت الأبرياء من أبناء شعبنا الكوردي في سوريا في الثاني عشر منه عام / 2004/ في الربيع المضرج بالدماء, والذي قاد إلى انتفاضة عارمة في غضبة ساحقة على الظلم و العسف الذي طال شعبنا , وكاد أن يقوده إلى فتنة عمياء , لا تزال آثارها مائلة في مزيد من تشديد القبضة الأمنية عليه ..


و يظل هذا الشهر نازفا و أليما في توالي أيامه الدامية في/ 16 /آذار ليشكل الحصاد الكيماوي المروع عام 1988 في حلبجة, كارثة القرن العشرين, حيث سقوط آلاف الضحايا من العُزّل أطفالا و نساء و شيوخا, و في لحظة زمنية ضارية, لتكون هيروشيما كوردستان, و علما على وحشية النظام العراقي المقبور ..

ليأتي الرد الجماعي في أكبر انتفاضة تاريخية, بعد إخراجه من الكويت في ربيع/ 1990/ و في الأيام الآذارية نفسها, وقائع مضيئة في صفحات السفر الآذاري و تراجيدياه الدامية و المتواصلة..

حتى يشرق شمس  الرابع عشر منه يوم أبصر فيه النور البارزاني الخالد, منذ قرن وست من السنين ذلك النسر الكردستاني المتألق , نوراً امتدّ مخلدا صفحة من هذا السفر ..

حتى إذا أطل يوم الحادي و العشرين منه كان ذكرىً و ألما , و أملا بالانعتاق و الثورة على كل المظالم , و شعلة متوهجة مع تورّد حنايا الوديان و السهول و عناق الأبطال وهم يصنعون ملاحم البطولة في “ديرسم و مهاباد و بيطاس و هندرين”  تعبيرا عن الثورة الكردستانية إباءً و رفضا للمهانة و الذل , و دعوة إلى أن يكون لهذه الأمة مكانها اللائق في الوجود كأعرق أمة, امتدّ دورها الحضاري لآلاف السنين, في عناق مع الحياة و الحرية, و الإخاء بين الشعوب, و هو ما مثّله قادة الكورد و أبطالهم الميامين,  ليتجسد في أروع صورة في نهج البارزاني الخالد, الذي التزمناه بما يحمل من معاني السلم و الإخاء و العدل و الدعوة إلى القيم الحضارية و المدنية الرفيعة ..
و يأتي نوروز في هذا العام , و نحن ندخل إلى بوّابته بأمل الانفراج , و الخروج من حالة الحصار الاقتصادي والأمني, والاضطهاد والتمييز, ومزيد من القوانين الاستثنائية, والتدابير المؤدية إلى سد منافذ الرزق وأبوابه في وجه شعب عريق في سوريا, آمن بالحياة, وعقد الآمال على وطنيته وإخلاصه العميق ..

..

وتضحياته الجسام في ظل شراكة تاريخية مع أطياف الشعب السوري, في دفاع عادل ومشروع عن هويته الوطنية, ووجوده الدستوري الراسخ, في الوقت الذي يعاني أشقاؤه في كل جزء من العنت و الاضطهاد و التجاهل في كل من أيران و تركيا , ما لا يعهد مثله في المنطقة والعالم , على الرغم من ارتباطه العميق بقضاياه المصيرية مع شعوب المنطقة فرسا و عربا و تركا ..

و ما يعيشه هذا الشعب و يشهده من تجربته الديمقراطية في كردستان العراق, و إسهامه العميق في إنجاح النظام الديمقراطي الفيدرالي , و إنعاش العملية السياسية على الرغم من التحديات الأمنية الكبرى ..


ما يعيشه هذا الشعب المناضل و المقدام يتعرض بين فترة و أخرى لهزات تطال التشكيك في مواد الدستور و الدعوة إلى إعادة النظر في مواده من القوى و الأطراف المشاركة في صنع العملية السياسية, وازدياد ملحوظ في وتيرة المماطلة و تأجيل تنفيذ مواد الدستور و اتفاقاته و بخاصة المادة 140 , مما يشكل مخاوف ارتدادية و بخاصة في دعوة الدولة المركزية إلى تشكيل مجالس الإسناد , التي لا حاجة لها في الإقليم أسوة بمجالس الصحوة في الأنبار..


إن التحرر و الانعتاق بحاجة إلى تغيير فعلي و جذري في نمط العقلية الإقصائية , و منطق الإلغاء و التنكر , و هو ما ينبغي أن يسود علاقة الشعب الكوردي – في كل جزء – بالشعوب المجاورة , وضرورة ترسيخ الإخاء و العدل و السلم , و الخروج من منطق ازدواجية المعايير..

ليكون العدل جامعا و المساواة ضرورة حياتية لإنجاح مسعى التواصل والوئام و التحاور الحضاري ..

بعيدا عن منطق الكراهية و الاستئثار والعنصرية و قوانينها الناظمة و ارتدادها على الحق المشروع لهذا الشعب ..

على أمل أن يكون نوروز رمزا للأمن و الازدهار  و السلام ..
عاشت نوروز رمزا و أملا ..
و المجد و الخلود لشهدائنا الأبرار ..
المكتب السياسي
 للبارتي الديمقراطي الكوردي – سوريا 
———-

* الجريدة المركزية للبارتي الديمقراطي الكوردي – سوريا – العدد (335)

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…