بقلم/ أحمد زكريا
ahmedzf@yahoo.com
لقد أثار دخول تركيا على خط الأحداث عقب إشعال إسرائيل للموقف في غزة بغاراتها الوحشية، الكثير من علامات الاستفهام، فقد كان مفهوماً أن زيارة “إيهود أولمرت” لتركيا قبيل بدء العمليات، جاءت من باب الترضية الإسرائيلية المسبقة لتركيا، وتثبيتاً لوضعية العلاقات المتميزة بين الطرفين، والتي لن تتأثر سلباً بما ستقدم عليه إسرائيل، لاحقاً، كما كان مفهوماً الغرض من زيارة “تسيبي ليفني” للقاهرة قبيل بدء الحملة العسكرية الإسرائيلية بيومين
ahmedzf@yahoo.com
لقد أثار دخول تركيا على خط الأحداث عقب إشعال إسرائيل للموقف في غزة بغاراتها الوحشية، الكثير من علامات الاستفهام، فقد كان مفهوماً أن زيارة “إيهود أولمرت” لتركيا قبيل بدء العمليات، جاءت من باب الترضية الإسرائيلية المسبقة لتركيا، وتثبيتاً لوضعية العلاقات المتميزة بين الطرفين، والتي لن تتأثر سلباً بما ستقدم عليه إسرائيل، لاحقاً، كما كان مفهوماً الغرض من زيارة “تسيبي ليفني” للقاهرة قبيل بدء الحملة العسكرية الإسرائيلية بيومين
من زاوية إطلاقها لرسائل الإنذار والتهديد الإسرائيلية، من القاهرة قلب العروبة، وهي تقف بجانب وزير خارجية مصر، دون أن يبدي الأخير استهجانه للهجة الوعيد، أو حتى اندهاشه لإطلاق ضيفته لها من القاهرة، تلك الرسائل الموجهة بالأساس إلى “حماس”، وقوى المقاومة الفلسطينية، والعربية، وللخط السياسي المقاوم، والمتبلور لدى جمهور الشارع العربي بشكلٍ عام، وبما يحمله ذلك الإطلاق، لتلك الرسالة الإسرائيلية الواضحة، والقوية، والإستفزازية، من معاني، لعل من أبرزها أن إسرائيل أصبحت القوة السياسية الرئيسية في المنطقة، وأن زيارة ليفني إنما جاءت لضمان ولاء أو (تفهم) الموقف المصري إزاء ما ستقدم عليه إسرائيل من خطوات عنيفة ضد فلسطينيي غزة بعد أقل من يومين من تلك الزيارة، ولكن ما كان ملتبساً ويثير علامات الاستفهام، هو دخول تركيا بعد تفجر الأحداث كوسيطٍ بين الطرفين المتصادمين على رقعة غزة الجغرافية والسياسية، الطرف الذي تمثل مصالحه وتحظى بتأييده ودعمه إسرائيل (إسرائيل نفسها، وحليفتها أمريكا، ودول “الاعتدال” العربي)، والطرف الذي تمثل مصالحه وتحظى بتأييده حماس (قوى المقاومة الفلسطينية، والعربية، وجمهور الشارع الفلسطيني، والعربي، المعادي لخط التسوية السلمية المبتسرة مع إسرائيل).
من المعلوم أن السياسة الرسمية التركية ومنذ منتصف القرن العشرين وحتى الآن، وعلى مدار ما يزيد عن خمسة وخمسين عاماً، لا تتوافق مع مصالح الشعوب العربية من عدة جوانب:
1- الخلاف المستعر لعقود بين سوريا وتركيا بخصوص الحدود والمياه والنزاع على لواء الإسكندرونة (حطاي)، والذي لم يتم تنحيته مؤقتاً باتفاق الطرفين سوى في السنوات الثلاث الأخيرة فقط.
2- كانت تركيا من أوائل دول العالم التي اعترفت بالدولة الإسرائيلية 28/3/1949، وقبل أن تجف الدماء العربية النازفة في حرب 1948.
3- انضمام تركيا عام 1952 لحلف الأطلسي وفتح 26 منشأة عسكرية أمريكية على الأراضي التركية، والذي جاء كرد فعل لتغير الأوضاع في مصر، عقب حركة الضباط الأحرار، في العام نفسه.
4- انضمام تركيا 1955 لـ”حلف بغداد” المعادي لنزعة الاستقلال المتنامية لدى الشعوب العربية في ذلك التاريخ.
5- اتفاق صيانة الطائرات العسكرية التركية في ورش جيش الدفاع الإسرائيلي 1956، والذي تلته تركيا بتأييدها للعدوان الثلاثي على مصر، والذي لعبت فيه إسرائيل دوراً رئيسياً.
6- تصويت تركيا في الأمم المتحدة ضد استقلال الجزائر 1957، في تناقض مع مصالح ورغبات الشعب العربي، وطموحات شعوب المنطقة في التحرر.
7- وفرت تركيا للقوات الأمريكية كل نواحي الدعم والمساندة إبان التدخل الأمريكي في لبنان 1958 متحدية مشاعر الغضب الجماهيري العربية وقتها، ما حول تركيا إلى قاعدة رئيسية لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية في العالم، ومنطقة الشرق الأوسط، على وجه الخصوص.
8- إبان الحرب العراقية الإيرانية سبتمبر 1980 – أغسطس 1988، تلك الحرب التي استنزفت طاقات شعوب البلدين بلا طائل، وقعت تركيا اتفاقاً سرياً مع إسرائيل، تم بموجبه تزويد إيران (الخميني – الإسلامية) بالأسلحة الإسرائيلية عبر تركيا، مقابل هجرة اليهود الإيرانيين لإسرائيل عبر تركيا، أيضاً.
9- إبان العدوان الإسرائيلي على لبنان 4/6/1982 تعاونت تركيا وإسرائيل في مواجهة ما أسمياه بالإرهاب، فتعاونت أجهزة مخابرات الطرفين في برامج استخباراتية مشتركة أدى فيها كلٌ منهما الخدمات للآخر، فاستفادت تركيا بموجبها من المعلومات التي حصلت عليها من إسرائيل، حول الحركات الكوردية، والأرمنية، والتركية المعارضة للنظام التركي، والناشطة آنذاك، في الساحة اللبنانية، متوافقة ومتحالفةً مع حركة التحرر الوطني الفلسطيني والجبهة الوطنية التقدمية اللبنانية، في مقابل ما قدمته تركيا لإسرائيل من معلومات استخباراتية مماثلة عن النشاط الفدائي الفلسطيني.
10- تم الإعلان في مارس 1996 عن اتفاق شراكة وحلف عسكري إسرائيلي – تركي، تناول كل نواحي العلاقات العسكرية، وعلى كافة المستويات بين الطرفين، من صفقات سلاح إسرائيلية إلى تركيا، إلى صيانة معدات وطائرات عسكرية وخلافه، إلى تبادل خبرات ومعلومات وتعاون على المستوى الاستخباراتي العسكري، والتقني العسكري، وما إلى ذلك من مختلف المجالات العسكرية، والتي ضخت للاقتصاد الإسرائيلي ما يزيد عن عشرين مليار دولار، خلال الخمس سنوات التالية للاتفاق المذكور.
11- في مقابل التعاون التركي مع إسرائيل على خلفية اتفاق الشراكة العسكرية، وبغية التقارب وتوثيق العلاقات الإسرائيلية مع تركيا، قدمت إسرائيل خدمتها الأساسية للحكم التركي، بضلوعها بالتخطيط والترتيب والتنفيذ لمؤامرة اعتقال القائد والزعيم الكوردي “عبد الله أوجلان”، بتدبير مؤامرة طويلة انتهت باختطافه من نيروبي في 15 فبراير/ شباط 1999، وتسليمه لتركيا، حيث نفذت تلك المؤامرة المخابرات الإسرائيلية الموساد بالتعاون مع المخابرات المركزية الأمريكية، ومشاركة العديد من الأجهزة الاستخباراتية، والجهات الأمنية والدبلوماسية العربية، والأوروبية، الصديقة لإسرائيل.
12- الدور النشط الذي لعبته تركيا على مدار أكثر من سنتين للتقريب بين سوريا وإسرائيل، بإدارة مباحثات ومفاوضات سرية بين الطرفين، بهدف استدراج الحكم السوري لجوقة دول “الاعتدال” العربي، الخاضعة للإرادة السياسية الإسرائيلية، والتي ترتبط معها باتفاقيات سلام، وتطبيع، وتمثيل دبلوماسي، وتجاري، وعلاقات اقتصادية، وخلافه، متجاوزةً بذلك كافة الحقوق الفلسطينية، والعربية، في أرض فلسطين المغتصبة إسرائيلياً.
مما يزيد علامات الاستفهام هو تغافل الحكم التركي، ذا التوجه الشكلي الإسلامي، لكل التجاوزات والمجازر التي ارتكبتها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني طوال سنوات الانتفاضة الثمانية والتي امتدت منذ 28 سبتمبر/ أيلول 2000، وحتى الآن، والتي راح ضحيتها الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني بين شهيد وجريح، فضلاً عن غض الطرف التركي عن العدوان الوحشي الإسرائيلي الأسود على الشعب اللبناني يوليو – أغسطس 2006.
وبعد، وعبر الاستعراض السابق للموقف التركي من القضايا العربية، والذي يفصخ بجلاء عن التوجه السياسي التركي الثابت بل والمتصاعد المتعاون مع إسرائيل، يثور سؤال حول محددات الموقف التركي المتشدد ضد اسرائيل حيال الأزمة الأخيرة، فقد اعتبر “رجب طيب أردوغان” أن الاعتداء الإسرائيلي الجاري على غزة يمثل “إهانة للدولة التركية”، ليس لارتكاب إسرائيل لجرائم حرب ضد الشعب الفلسطيني، وليس لأنه مصادرة إسرائيلية لحرية اختيار الشعب الفلسطيني لقيادته السياسية، وخطه السياسي المقاوم والمستقل، وإنما لأن إيهود أولمرت (غـَـفـَّـلَ) أردوغان، بعد أن قطع له وعداً خلال زيارته الأخيرة لتركيا، ستة أيام قبل بدء الضربة الإسرائيلية لقطاع غزة، بالتعاطي مع رؤية “أردوغان” المقترحة بدخول تركيا كوسيط بين حماس وإسرائيل، ودراستها مع مجلس الوزراء الإسرائيلي.
فما هي محددات الموقف التركي حيال الأحداث الملتهبة في غزة حالياً؟
13- طموح تركيا إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، مع إدراكها بأن ذلك لن يتحقق إلا عبر البوابة الإسرائيلية، خاصةً بعد اتخاذ الاتحاد الأوروبي قراراً في 8/12/2008 بتعزيز علاقته مع إسرائيل، الأمر الذي دفع تركيا للعب دوراً، يخدم في محصلته النهائية، المصالح الإسرائيلية في الأزمة الأخيرة في غزة، وإن كان مغلفاً بالنوايا الطيبة بوقف العدوان الإسرائيلي على غزة، بدخول تركيا على خط الأحداث، فقد تلقـفـت تركيا زيارة “أحمد أبو الغيط” لأنقرة عقب بداية الحملة الإسرائيلية، بدهشة، حيث قدمت مصر لتركيا خدمةً غير متوقعة، بدفعها للمشاركة في إدارة الأحداث الجارية بالمنطقة، دون طلب من تركيا ذاتها، وكأن مصر قد تنازلت عن الدور المأمول منها عربياً كقيادة إقليمية، وقدمته لتركيا طواعيةً، وسرعان ما طورت تركيا دهشتها إلى فعلٍ مباشر، فسارع أردوغان بمباشرة جولته في المنطقة، حيث لم يحمل مبادرة تركية خاصة لحل الأزمة الأخيرة، وإنما حمل تصور دول الاعتدال العربية في المنطقة (المؤيدة للتهدئة مع إسرائيل وعقد اتفاقات المصالحة معها)، ذلك التصور الذي يحقق الأهداف الإسرائيلية في النهاية، حيث ارتكز هذا التصور على مقترحات وزير الخارجية المصري بـ(وقف “طرفي” الصراع لإطلاق النار، وعودة “الطرفين” للتهدئة، وفتح المعابر بين غزة وإسرائيل، مقابل رفع الحصار) إلا أن أردوغان طوَّر المقترح الثالث إلى (فتح جميع المعابر، بما فيها معبر رفح، مع عرض نزول قوات تركية لتنفيذ ذلك، إن لزم الأمر!) على أمل أن تقبل حماس ومصر بهذا التعديل، الذي يحل الخلاف بين الطرفين فيما يتعلق بهذه النقطة، وغالباً ستقبله إسرائيل، أيضاً، باعتبار العلاقة الحميمة بين تركيا وإسرائيل، وليكون هذا بديلاً عن نزول قوات دوليه تشرف على الوضع وتشغيل المعابر في غزة، وهو ما رفضته حماس مسبقاً وبحسم.
14- مثلت زيارة “أحمد أبو الغيط”، وزير الخارجية المصري، لتركيا إعلاناً بعدم قدرة الديبلوماسية المصرية على مواصلة وساطتها بين المقاومة المسلحة الفلسطينية، باعتبارها قوة تحررية، وقوة الاحتلال الإسرائيلية، بل وترشيحاً مصرياً لتركيا، وتزكيةً لها، لخلافة مصر للقيام بهذا الدور، خاصةً وأن السياسة التركية مرتبطة عضوياً بإسرائيل، وطموحات الطرفين في المنطقة، مشتركة الأهداف استراتيجياً، وتخدم التوجهات السياسية لدول “الاعتدال” العربية، وهو ما منح فرصة ذهبية لانطلاق المساعي الدبلوماسية التركية في المنطقة، لدى كافة الأطراف، سواء محور “الاعتدال” العربي، أو محور “الممانعة”، بما يضمن نشاطاً سياسياً تركياً في قلب المنطقة، وتوسيعاً لتواجدها السياسي الذي تطمح لتنميته فيها، في مواجهة نمو التواجد الإيراني، وتصاعد تأثيرها السياسي في العراق، وتحالفها مع الحكم السوري، ودعمها لقوى المقاومة اللبنانية، ذلك الآدء السياسي الذي بات يتضرر منه محور “الاعتدال” العربي على الملأ، وبلا مواربة، ويؤرق كلاً من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، فضلاً عن تركيا ذاتها.
15- مثلت زيارة أردوغان للمنطقة ابتداءً بدمشق، صمام أمان هام بالنسبة لتركيا، لمنع انهيار الوساطة التركية بين إسرائيل وسوريا، إثر الهجوم الإسرائيلي العنيف على “حماس” حليف سوريا، ووصول تلك الوساطة إلى نقطة اللا عودة، بسبب دعم سوريا لـ”حماس”، في الوقت الذي تحتفظ فيه تركيا بعلاقة مميزة مع إسرائيل، فقد بادر أردوغان بنفسه، مستبقاً بذلك الموقف السوري، بإعلان وقف وساطته في المفاوضات غير المباشرة بين دمشق وتل أبيب، كرد فعل للعدوان الإسرائيلي على غزة، معقباً على ذلك بزيارته لدمشق، كأول محطة له في المنطقة، الأمر الذي يضمن استمرار الصلة الوثيقة بين تركيا وسوريا، وفي الوقت نفسه، فإن العلاقات التركية الإسرائيلية لن تتأثر سلباً بتلك التصريحات التركية النارية، ليقين تل أبيب برسوخ علاقتها الاستراتيجية بأنقره، فضلاً عن أن الموقف التركي إنما ينطلق من قاعدة تحقيق مصالح دول “الاعتدال” في المنطقة، ولن يقطع أشواطاً في اتجاه محور “الممانعة”، لتحالف ذلك المحور مسبقاً مع إيران، وهو ما يناقض الطموحات التركية في المنطقة.
الأمر الذي يضمن لتركيا إمكانية إعادة تفعيل وساطتها بين دمشق وتل أبيب مستقبلاً، وبسلاسة، ودون حساسية من جانب دمشق حيال أنقره، وذلك حين تهدأ الأمور، ويصبح الظرف السياسي مواتياً لإستكمال تلك المساعي.
16- عقب اندلاع الهجمة الإسرائيلية في 27/12/2008 على أهالي غزة، شهدت عدد من المدن الكوردية (باطمان وغيرها) الواقعة ضمن النطاق السياسي للدولة التركية، تظاهرات احتجاجية منددة بوحشية العدوان الاسرائيلي، تبعتها تظاهرات في استانبول وأنقرة، والعديد من المدن التركية، أكدت على نفس الموقف التضامني الشعبي مع جماهير غزة في محنتهم.
الأمر الذي لم يغفله أردوغان، فأطلق تصريحاته المنددة بالعدوان الإسرائيلي تلبيةً لمطالب الشارع التركي، ثم انطلق في جولته المكوكية في المنطقة العربية، مغازلاً مشاعر الناخب الكوردي والتركي، ومستجيباً لرغبته، باعتبار أردوغان “يهب” لوقف نزيف الدم الفلسطيني، ولوقف العدوان الإسرائيلي، آملاً في حشد الأصوات الانتخابية في الانتخابات البلدية القادمة في مارس/ آذار 2009 لصالح حزبه (حزب العدالة والتنمية)، والتي يزاحمه عليها عدوه الأول “حزب العمال الكوردستاني” المتحالف مع “حزب المجتمع الديمقراطي”، والذي يحظى تحالفهما بثقل كبير في المناطق الكوردية بشرق ووسط وجنوب تركيا، بل وفي بعض الدوائر الانتخابية في أنقره واستانبول نفسيهما، حيث يشكل هذا التحالف تهديداً حقيقياً لأردوغان، باكتساح تحالف الحزبين سالفي الذكر لمقاعد الانتخابات البلدية المشار إليها في تلك المناطق، علاوة على المنافسة الشرسة بين “حزب العدالة والتنمية” والأحزاب القومية التركية التقليدية، المدعومة من الجيش، والدوائر القضائية، في غرب تركيا، في تلك الانتخابات، التي باتت على الأبواب.
وأخيراً، فإن “فاقد الشيء لا يعطيه”، فقد أعلن “حزب العمال الكوردستاني” في 7/12/2008 تجميد عملياته العسكرية في المناطق الكوردية شرق تركيا، لمدة تسعة أيام، هي فترة عيد الأضحى، أسوةً بمبادرة مماثلة اتخذها الحزب نفسه في عيد الفطر الماضي، في محاولة منه لإتاحة فرصة لتنشيط الحلول السلمية للمشكلة الكوردية في تركيا، والتي لم يكف ذلك الحزب عن الدعوة لها منذ سنوات، لإنهاء المظالم التي يعانيها الأكراد من تعسف الحكومات التركية المتعاقبة بخصوص حقوقه القومية والثقافية والتاريخية، فما كان من الجيش التركي، وبدعم ومساندة غير محدودة من الحكومة التركية برئاسة “أردوغان – جول”، إلا أن واصل قصف المناطق الكوردية شرق ووسط تركيا، بالمدفعية والطيران (الإف 16، والكوبرا)، موقعاً خسائر فادحة بالمدنيين والقرويين الأكراد، فحطم مدارسهم، ومساجدهم، ودورهم، وقضى على مواشيهم وأغنامهم، وأشعل النار في غاباتهم، غير عابيءٍ بآلام هؤلاء البسطاء، ولا بحقوقهم الإنسانية، وبنفس النهج البربري الذي تمارسه إسرائيل ضد أهالي غزة في حملتها الأخيرة، واستمرت عمليات الجيش التركي دون توقف حتى الآن، وبتعاون وتنسيق مع قصفٍ مماثل من الجانب الإيراني، على نفس المناطق، بدعوى محاربة ما يطلق عليه الطرفان: إرهاب “حزب العمال الكوردستاني”، والحزب الكوردي المقرب منه في شرق كوردستان “حزب الحياة الحرة” (البيجاك)، مع تجاهل تام لإعلان قوات “حزب العمال” وقف عملياتها، ومن اللافت أن تتواجد بعثة عسكرية إسرائيلية في مدينة “باطمان” منذ أكثر من عامٍ مضى، تشارك بخبرتها العسكرية، في تنسيق هذه الحملة العسكرية التركية على المناطق الكوردية، التي يتواجد فيها “حزب العمال الكوردستاني” بدعوى التعاون مع الحكومة التركية ضد الإرهاب، مع إمداد إسرائيل لتركيا بطائرات (إف 16 وكوبرا وهيرون) والتعاون مع الجيش التركي، في تشغيل وتوجيه تلك الطائرات، لمهاجمة المناطق الكوردية، التي يشكل “حزب العمال الكوردستاني” القوة السياسية الأولى فيها، هذا الموقف يتماثل وبكل دقة مع ما تمارسه القوات الإسرائيلية مع أهالي قطاع غزة، وبالأساليب نفسها، والوحشية ذاتها، وتحت نفس الادعاءات، ولا عجب في هذا، فكلا النظامين (التركي والإسرائيلي) تحكمه نفس المعايير والتوجهات العنصرية المعادية لحقوق الشعوب، إلا أن المثير للدهشة، هو ما صرح به “رجب طيب أردوغان” في مؤتمرٍ صحفي، أعقب لقاءه بالقيادة المصرية، في شرم الشيخ، حيث قال: أن بلاده ستحاول وقف العدوان على غزة، من خلال عضويتها المؤقتة في مجلس الأمن، وجدد أردوغان دعوة بلاده إلى وقف فوري لإطلاق النار، في غزة، مؤكدا أن تركيا لن تقف مكتوفة الأيدي أمام أي مظالم تتم ممارستها في المنطقة.
ويثور هنا سؤال يؤرق ضمير كل حر ومنصف، ألا تقع كوردستان في “المنطقة”؟ ألا يمثل قصف الجيش التركي حالياً للقرويين الكورد وتحطيم حياتهم “مظالم”؟، ألا يجدر “بالطيب أردوغان” إيقاف المجازر التركية ضد الشعب الكوردي، قبل أن يحاول وقف مجازر أصدقائه الإسرائيليين بحق الشعب العربي في غزة؟ كي تكتسب مساعيه مصداقية حقيقية أمام شعوب المنطقة، فإن “فاقد الشيء لا يعطيه”! والازدواجية السياسية هي انتهازية لا تنطلي على أحد!
من المعلوم أن السياسة الرسمية التركية ومنذ منتصف القرن العشرين وحتى الآن، وعلى مدار ما يزيد عن خمسة وخمسين عاماً، لا تتوافق مع مصالح الشعوب العربية من عدة جوانب:
1- الخلاف المستعر لعقود بين سوريا وتركيا بخصوص الحدود والمياه والنزاع على لواء الإسكندرونة (حطاي)، والذي لم يتم تنحيته مؤقتاً باتفاق الطرفين سوى في السنوات الثلاث الأخيرة فقط.
2- كانت تركيا من أوائل دول العالم التي اعترفت بالدولة الإسرائيلية 28/3/1949، وقبل أن تجف الدماء العربية النازفة في حرب 1948.
3- انضمام تركيا عام 1952 لحلف الأطلسي وفتح 26 منشأة عسكرية أمريكية على الأراضي التركية، والذي جاء كرد فعل لتغير الأوضاع في مصر، عقب حركة الضباط الأحرار، في العام نفسه.
4- انضمام تركيا 1955 لـ”حلف بغداد” المعادي لنزعة الاستقلال المتنامية لدى الشعوب العربية في ذلك التاريخ.
5- اتفاق صيانة الطائرات العسكرية التركية في ورش جيش الدفاع الإسرائيلي 1956، والذي تلته تركيا بتأييدها للعدوان الثلاثي على مصر، والذي لعبت فيه إسرائيل دوراً رئيسياً.
6- تصويت تركيا في الأمم المتحدة ضد استقلال الجزائر 1957، في تناقض مع مصالح ورغبات الشعب العربي، وطموحات شعوب المنطقة في التحرر.
7- وفرت تركيا للقوات الأمريكية كل نواحي الدعم والمساندة إبان التدخل الأمريكي في لبنان 1958 متحدية مشاعر الغضب الجماهيري العربية وقتها، ما حول تركيا إلى قاعدة رئيسية لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية في العالم، ومنطقة الشرق الأوسط، على وجه الخصوص.
8- إبان الحرب العراقية الإيرانية سبتمبر 1980 – أغسطس 1988، تلك الحرب التي استنزفت طاقات شعوب البلدين بلا طائل، وقعت تركيا اتفاقاً سرياً مع إسرائيل، تم بموجبه تزويد إيران (الخميني – الإسلامية) بالأسلحة الإسرائيلية عبر تركيا، مقابل هجرة اليهود الإيرانيين لإسرائيل عبر تركيا، أيضاً.
9- إبان العدوان الإسرائيلي على لبنان 4/6/1982 تعاونت تركيا وإسرائيل في مواجهة ما أسمياه بالإرهاب، فتعاونت أجهزة مخابرات الطرفين في برامج استخباراتية مشتركة أدى فيها كلٌ منهما الخدمات للآخر، فاستفادت تركيا بموجبها من المعلومات التي حصلت عليها من إسرائيل، حول الحركات الكوردية، والأرمنية، والتركية المعارضة للنظام التركي، والناشطة آنذاك، في الساحة اللبنانية، متوافقة ومتحالفةً مع حركة التحرر الوطني الفلسطيني والجبهة الوطنية التقدمية اللبنانية، في مقابل ما قدمته تركيا لإسرائيل من معلومات استخباراتية مماثلة عن النشاط الفدائي الفلسطيني.
10- تم الإعلان في مارس 1996 عن اتفاق شراكة وحلف عسكري إسرائيلي – تركي، تناول كل نواحي العلاقات العسكرية، وعلى كافة المستويات بين الطرفين، من صفقات سلاح إسرائيلية إلى تركيا، إلى صيانة معدات وطائرات عسكرية وخلافه، إلى تبادل خبرات ومعلومات وتعاون على المستوى الاستخباراتي العسكري، والتقني العسكري، وما إلى ذلك من مختلف المجالات العسكرية، والتي ضخت للاقتصاد الإسرائيلي ما يزيد عن عشرين مليار دولار، خلال الخمس سنوات التالية للاتفاق المذكور.
11- في مقابل التعاون التركي مع إسرائيل على خلفية اتفاق الشراكة العسكرية، وبغية التقارب وتوثيق العلاقات الإسرائيلية مع تركيا، قدمت إسرائيل خدمتها الأساسية للحكم التركي، بضلوعها بالتخطيط والترتيب والتنفيذ لمؤامرة اعتقال القائد والزعيم الكوردي “عبد الله أوجلان”، بتدبير مؤامرة طويلة انتهت باختطافه من نيروبي في 15 فبراير/ شباط 1999، وتسليمه لتركيا، حيث نفذت تلك المؤامرة المخابرات الإسرائيلية الموساد بالتعاون مع المخابرات المركزية الأمريكية، ومشاركة العديد من الأجهزة الاستخباراتية، والجهات الأمنية والدبلوماسية العربية، والأوروبية، الصديقة لإسرائيل.
12- الدور النشط الذي لعبته تركيا على مدار أكثر من سنتين للتقريب بين سوريا وإسرائيل، بإدارة مباحثات ومفاوضات سرية بين الطرفين، بهدف استدراج الحكم السوري لجوقة دول “الاعتدال” العربي، الخاضعة للإرادة السياسية الإسرائيلية، والتي ترتبط معها باتفاقيات سلام، وتطبيع، وتمثيل دبلوماسي، وتجاري، وعلاقات اقتصادية، وخلافه، متجاوزةً بذلك كافة الحقوق الفلسطينية، والعربية، في أرض فلسطين المغتصبة إسرائيلياً.
مما يزيد علامات الاستفهام هو تغافل الحكم التركي، ذا التوجه الشكلي الإسلامي، لكل التجاوزات والمجازر التي ارتكبتها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني طوال سنوات الانتفاضة الثمانية والتي امتدت منذ 28 سبتمبر/ أيلول 2000، وحتى الآن، والتي راح ضحيتها الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني بين شهيد وجريح، فضلاً عن غض الطرف التركي عن العدوان الوحشي الإسرائيلي الأسود على الشعب اللبناني يوليو – أغسطس 2006.
وبعد، وعبر الاستعراض السابق للموقف التركي من القضايا العربية، والذي يفصخ بجلاء عن التوجه السياسي التركي الثابت بل والمتصاعد المتعاون مع إسرائيل، يثور سؤال حول محددات الموقف التركي المتشدد ضد اسرائيل حيال الأزمة الأخيرة، فقد اعتبر “رجب طيب أردوغان” أن الاعتداء الإسرائيلي الجاري على غزة يمثل “إهانة للدولة التركية”، ليس لارتكاب إسرائيل لجرائم حرب ضد الشعب الفلسطيني، وليس لأنه مصادرة إسرائيلية لحرية اختيار الشعب الفلسطيني لقيادته السياسية، وخطه السياسي المقاوم والمستقل، وإنما لأن إيهود أولمرت (غـَـفـَّـلَ) أردوغان، بعد أن قطع له وعداً خلال زيارته الأخيرة لتركيا، ستة أيام قبل بدء الضربة الإسرائيلية لقطاع غزة، بالتعاطي مع رؤية “أردوغان” المقترحة بدخول تركيا كوسيط بين حماس وإسرائيل، ودراستها مع مجلس الوزراء الإسرائيلي.
فما هي محددات الموقف التركي حيال الأحداث الملتهبة في غزة حالياً؟
13- طموح تركيا إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، مع إدراكها بأن ذلك لن يتحقق إلا عبر البوابة الإسرائيلية، خاصةً بعد اتخاذ الاتحاد الأوروبي قراراً في 8/12/2008 بتعزيز علاقته مع إسرائيل، الأمر الذي دفع تركيا للعب دوراً، يخدم في محصلته النهائية، المصالح الإسرائيلية في الأزمة الأخيرة في غزة، وإن كان مغلفاً بالنوايا الطيبة بوقف العدوان الإسرائيلي على غزة، بدخول تركيا على خط الأحداث، فقد تلقـفـت تركيا زيارة “أحمد أبو الغيط” لأنقرة عقب بداية الحملة الإسرائيلية، بدهشة، حيث قدمت مصر لتركيا خدمةً غير متوقعة، بدفعها للمشاركة في إدارة الأحداث الجارية بالمنطقة، دون طلب من تركيا ذاتها، وكأن مصر قد تنازلت عن الدور المأمول منها عربياً كقيادة إقليمية، وقدمته لتركيا طواعيةً، وسرعان ما طورت تركيا دهشتها إلى فعلٍ مباشر، فسارع أردوغان بمباشرة جولته في المنطقة، حيث لم يحمل مبادرة تركية خاصة لحل الأزمة الأخيرة، وإنما حمل تصور دول الاعتدال العربية في المنطقة (المؤيدة للتهدئة مع إسرائيل وعقد اتفاقات المصالحة معها)، ذلك التصور الذي يحقق الأهداف الإسرائيلية في النهاية، حيث ارتكز هذا التصور على مقترحات وزير الخارجية المصري بـ(وقف “طرفي” الصراع لإطلاق النار، وعودة “الطرفين” للتهدئة، وفتح المعابر بين غزة وإسرائيل، مقابل رفع الحصار) إلا أن أردوغان طوَّر المقترح الثالث إلى (فتح جميع المعابر، بما فيها معبر رفح، مع عرض نزول قوات تركية لتنفيذ ذلك، إن لزم الأمر!) على أمل أن تقبل حماس ومصر بهذا التعديل، الذي يحل الخلاف بين الطرفين فيما يتعلق بهذه النقطة، وغالباً ستقبله إسرائيل، أيضاً، باعتبار العلاقة الحميمة بين تركيا وإسرائيل، وليكون هذا بديلاً عن نزول قوات دوليه تشرف على الوضع وتشغيل المعابر في غزة، وهو ما رفضته حماس مسبقاً وبحسم.
14- مثلت زيارة “أحمد أبو الغيط”، وزير الخارجية المصري، لتركيا إعلاناً بعدم قدرة الديبلوماسية المصرية على مواصلة وساطتها بين المقاومة المسلحة الفلسطينية، باعتبارها قوة تحررية، وقوة الاحتلال الإسرائيلية، بل وترشيحاً مصرياً لتركيا، وتزكيةً لها، لخلافة مصر للقيام بهذا الدور، خاصةً وأن السياسة التركية مرتبطة عضوياً بإسرائيل، وطموحات الطرفين في المنطقة، مشتركة الأهداف استراتيجياً، وتخدم التوجهات السياسية لدول “الاعتدال” العربية، وهو ما منح فرصة ذهبية لانطلاق المساعي الدبلوماسية التركية في المنطقة، لدى كافة الأطراف، سواء محور “الاعتدال” العربي، أو محور “الممانعة”، بما يضمن نشاطاً سياسياً تركياً في قلب المنطقة، وتوسيعاً لتواجدها السياسي الذي تطمح لتنميته فيها، في مواجهة نمو التواجد الإيراني، وتصاعد تأثيرها السياسي في العراق، وتحالفها مع الحكم السوري، ودعمها لقوى المقاومة اللبنانية، ذلك الآدء السياسي الذي بات يتضرر منه محور “الاعتدال” العربي على الملأ، وبلا مواربة، ويؤرق كلاً من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، فضلاً عن تركيا ذاتها.
15- مثلت زيارة أردوغان للمنطقة ابتداءً بدمشق، صمام أمان هام بالنسبة لتركيا، لمنع انهيار الوساطة التركية بين إسرائيل وسوريا، إثر الهجوم الإسرائيلي العنيف على “حماس” حليف سوريا، ووصول تلك الوساطة إلى نقطة اللا عودة، بسبب دعم سوريا لـ”حماس”، في الوقت الذي تحتفظ فيه تركيا بعلاقة مميزة مع إسرائيل، فقد بادر أردوغان بنفسه، مستبقاً بذلك الموقف السوري، بإعلان وقف وساطته في المفاوضات غير المباشرة بين دمشق وتل أبيب، كرد فعل للعدوان الإسرائيلي على غزة، معقباً على ذلك بزيارته لدمشق، كأول محطة له في المنطقة، الأمر الذي يضمن استمرار الصلة الوثيقة بين تركيا وسوريا، وفي الوقت نفسه، فإن العلاقات التركية الإسرائيلية لن تتأثر سلباً بتلك التصريحات التركية النارية، ليقين تل أبيب برسوخ علاقتها الاستراتيجية بأنقره، فضلاً عن أن الموقف التركي إنما ينطلق من قاعدة تحقيق مصالح دول “الاعتدال” في المنطقة، ولن يقطع أشواطاً في اتجاه محور “الممانعة”، لتحالف ذلك المحور مسبقاً مع إيران، وهو ما يناقض الطموحات التركية في المنطقة.
الأمر الذي يضمن لتركيا إمكانية إعادة تفعيل وساطتها بين دمشق وتل أبيب مستقبلاً، وبسلاسة، ودون حساسية من جانب دمشق حيال أنقره، وذلك حين تهدأ الأمور، ويصبح الظرف السياسي مواتياً لإستكمال تلك المساعي.
16- عقب اندلاع الهجمة الإسرائيلية في 27/12/2008 على أهالي غزة، شهدت عدد من المدن الكوردية (باطمان وغيرها) الواقعة ضمن النطاق السياسي للدولة التركية، تظاهرات احتجاجية منددة بوحشية العدوان الاسرائيلي، تبعتها تظاهرات في استانبول وأنقرة، والعديد من المدن التركية، أكدت على نفس الموقف التضامني الشعبي مع جماهير غزة في محنتهم.
الأمر الذي لم يغفله أردوغان، فأطلق تصريحاته المنددة بالعدوان الإسرائيلي تلبيةً لمطالب الشارع التركي، ثم انطلق في جولته المكوكية في المنطقة العربية، مغازلاً مشاعر الناخب الكوردي والتركي، ومستجيباً لرغبته، باعتبار أردوغان “يهب” لوقف نزيف الدم الفلسطيني، ولوقف العدوان الإسرائيلي، آملاً في حشد الأصوات الانتخابية في الانتخابات البلدية القادمة في مارس/ آذار 2009 لصالح حزبه (حزب العدالة والتنمية)، والتي يزاحمه عليها عدوه الأول “حزب العمال الكوردستاني” المتحالف مع “حزب المجتمع الديمقراطي”، والذي يحظى تحالفهما بثقل كبير في المناطق الكوردية بشرق ووسط وجنوب تركيا، بل وفي بعض الدوائر الانتخابية في أنقره واستانبول نفسيهما، حيث يشكل هذا التحالف تهديداً حقيقياً لأردوغان، باكتساح تحالف الحزبين سالفي الذكر لمقاعد الانتخابات البلدية المشار إليها في تلك المناطق، علاوة على المنافسة الشرسة بين “حزب العدالة والتنمية” والأحزاب القومية التركية التقليدية، المدعومة من الجيش، والدوائر القضائية، في غرب تركيا، في تلك الانتخابات، التي باتت على الأبواب.
وأخيراً، فإن “فاقد الشيء لا يعطيه”، فقد أعلن “حزب العمال الكوردستاني” في 7/12/2008 تجميد عملياته العسكرية في المناطق الكوردية شرق تركيا، لمدة تسعة أيام، هي فترة عيد الأضحى، أسوةً بمبادرة مماثلة اتخذها الحزب نفسه في عيد الفطر الماضي، في محاولة منه لإتاحة فرصة لتنشيط الحلول السلمية للمشكلة الكوردية في تركيا، والتي لم يكف ذلك الحزب عن الدعوة لها منذ سنوات، لإنهاء المظالم التي يعانيها الأكراد من تعسف الحكومات التركية المتعاقبة بخصوص حقوقه القومية والثقافية والتاريخية، فما كان من الجيش التركي، وبدعم ومساندة غير محدودة من الحكومة التركية برئاسة “أردوغان – جول”، إلا أن واصل قصف المناطق الكوردية شرق ووسط تركيا، بالمدفعية والطيران (الإف 16، والكوبرا)، موقعاً خسائر فادحة بالمدنيين والقرويين الأكراد، فحطم مدارسهم، ومساجدهم، ودورهم، وقضى على مواشيهم وأغنامهم، وأشعل النار في غاباتهم، غير عابيءٍ بآلام هؤلاء البسطاء، ولا بحقوقهم الإنسانية، وبنفس النهج البربري الذي تمارسه إسرائيل ضد أهالي غزة في حملتها الأخيرة، واستمرت عمليات الجيش التركي دون توقف حتى الآن، وبتعاون وتنسيق مع قصفٍ مماثل من الجانب الإيراني، على نفس المناطق، بدعوى محاربة ما يطلق عليه الطرفان: إرهاب “حزب العمال الكوردستاني”، والحزب الكوردي المقرب منه في شرق كوردستان “حزب الحياة الحرة” (البيجاك)، مع تجاهل تام لإعلان قوات “حزب العمال” وقف عملياتها، ومن اللافت أن تتواجد بعثة عسكرية إسرائيلية في مدينة “باطمان” منذ أكثر من عامٍ مضى، تشارك بخبرتها العسكرية، في تنسيق هذه الحملة العسكرية التركية على المناطق الكوردية، التي يتواجد فيها “حزب العمال الكوردستاني” بدعوى التعاون مع الحكومة التركية ضد الإرهاب، مع إمداد إسرائيل لتركيا بطائرات (إف 16 وكوبرا وهيرون) والتعاون مع الجيش التركي، في تشغيل وتوجيه تلك الطائرات، لمهاجمة المناطق الكوردية، التي يشكل “حزب العمال الكوردستاني” القوة السياسية الأولى فيها، هذا الموقف يتماثل وبكل دقة مع ما تمارسه القوات الإسرائيلية مع أهالي قطاع غزة، وبالأساليب نفسها، والوحشية ذاتها، وتحت نفس الادعاءات، ولا عجب في هذا، فكلا النظامين (التركي والإسرائيلي) تحكمه نفس المعايير والتوجهات العنصرية المعادية لحقوق الشعوب، إلا أن المثير للدهشة، هو ما صرح به “رجب طيب أردوغان” في مؤتمرٍ صحفي، أعقب لقاءه بالقيادة المصرية، في شرم الشيخ، حيث قال: أن بلاده ستحاول وقف العدوان على غزة، من خلال عضويتها المؤقتة في مجلس الأمن، وجدد أردوغان دعوة بلاده إلى وقف فوري لإطلاق النار، في غزة، مؤكدا أن تركيا لن تقف مكتوفة الأيدي أمام أي مظالم تتم ممارستها في المنطقة.
ويثور هنا سؤال يؤرق ضمير كل حر ومنصف، ألا تقع كوردستان في “المنطقة”؟ ألا يمثل قصف الجيش التركي حالياً للقرويين الكورد وتحطيم حياتهم “مظالم”؟، ألا يجدر “بالطيب أردوغان” إيقاف المجازر التركية ضد الشعب الكوردي، قبل أن يحاول وقف مجازر أصدقائه الإسرائيليين بحق الشعب العربي في غزة؟ كي تكتسب مساعيه مصداقية حقيقية أمام شعوب المنطقة، فإن “فاقد الشيء لا يعطيه”! والازدواجية السياسية هي انتهازية لا تنطلي على أحد!