ارتكزت التعددية بمعناها الواسع أو بالأحرى بمعناها المعرفي، على الفكرة القائلة بأن لا أحداً يملك الحقيقة كلها، وبتالي ليس من حق أحد مصادرة أراء وأفكار الآخرين وإن بدت غير صحيحة من وجهة نظر ما.
وهذه المسألة هي تعبير عن نقل الأساس المعرفي إلى مستوى الفرد كما أوضح ديكارت.
مما أفضى إلى إيجاد أسس معرفية مختلفة باختلاف الوضعيات المشخصة للأفراد.
فالتعدد إذاً واقع فعلي، حتى داخل المجتمع الواحد، المنقسم عمودياً إلى فئات وطبقات، تتمايز من حيث الملكية، والنفوذ، والإيديولوجيات،هذا بالإضافة إلى الانقسامات الأفقية الإثنية واللغوية، والمرتبطة بالتقسيم الاجتماعي للعمل، بين التجارة والصناعة والزراعة وكذلك الانقسام بين العمل الذهني والعمل العضلي وبين الرجل والمرأة ….إلخ…
يأتي مبدأ التعددية ليعطي مشروعية لهذه التنوعات والتباينات ويعبر عنها بصيغ مختلفة، منها التيارات الثقافية والحركات الاجتماعية والأحزاب السياسية وصيغ التعاون النقابي والجمعيات والاتحادات المختلفة.
من هذا المنطلق يفضي مبدأ التعددية إلى أهمية بناء التحالفات، بغية استقطاب الرأي العام، خصوصاً على المستوى السياسي .
وقد بنيت التجربة الديمقراطي الليبرالية، أهمية ومعنى وجود المعارضة، ودور وسائل الإعلام، وحرية التعبير، باعتبارها وسائل رقابة اجتماعية، على سبل ممارسة السلطة ومدى التزامها وتطبيقها للقوانين السائدة، بل وإمكانية محاسبتها طبقا للدستور.
وبهذا المعنى تكون المعارضة صاحبة سلطة أيضاً، وإن كانت ممارستها لهذه السلطة متوقفة على شروط وظروف خاصة مما يمنع من احتكار السلطة وتمركزها.
ولا يكتمل دور التعددية إلا من خلال تطبيق مبدأ التداول السلمي للسلطة، هذه المبدأ الذي يشكل أحد الأسس التي يرتكز عليها النظام الديمقراطي الليبرالي،وهي بدون شك من نتائج الحوارات السياسية الهادفة والمنصبة لصالح مكونات المجتمع بشكل عام.
حيث إن الحوار السياسي وسيلة من وسائل إدارة المنازعات والخلافات المجتمعية واعتماد الحوار كوسيلة شرعية، دليل على نضج ورقي المجتمع، والحوار هو عملية تفاعل وتبادل للرأي بين القوى السياسية المختلفة التي تكون الجسد السياسي لأي نظام، وهي صفة من صفات المجتمعات المتقدمة والمتطورة سياسيا، ولكن الحوار حتى يصبح وسيلة ملزمة وحقاً من حقوق المجتمع لا بد من توافر شروط ومقومات سياسية ومجتمعية مقبولة من ذلك إقرار مبدأ التعددية السياسية في إطار نظام سياسي يسمح بتداول وتناوب السلطة السياسية من خلال آلية الانتخابات الدورية.
ويستلزم الحوار أيضا توافر ثقافة القبول بالرأي الآخر المختلف في ظل احترام رأي الأغلبية وإقرار مبدأ التسامح ونبذ العنف كوسيلة لإدارة الخلاف، ومن خلال إقرار قيم معينة مثل الاعتراف بالتنوع في ظل مبدأ التوحد السياسي وعدم نفي الآخر.
وعليه فالحوار هدف مطلوب كغاية وكوسيلة وهو حق للجميع لضمان أمن المجتمع ونسيجه الاجتماعي والسياسي من التفكك والانهيار هذا يعني عدم استئثار فرداً وجماعة أو تنظيم أو حتى السلطة ذاتها في التفرد بالرأي وفرضه على الآخرين أو عدم الاستعداد للدخول في حوار في إطار من مبادئ الشرعية السياسية الواحدة وهنا يعتبر الحوار أحد مكونات هذه الشرعية.
إن تداول السلطة أو دورانها كما يقال يوسّع القاعدة الاجتماعية المعنية باتخاذ القرار والمشاركة في صنعه، عبر الهيئات البرلمانية، وعلى مستوى المجالس المحلية في المدن والمصانع المنتخبة مباشرة، والتي تشارك الإدارة في الإشراف على سير العمل وتقديم الخدمات للمواطنين.
يتأسس على حق المواطنة الذي يشمل الجميع، مجموعة من الحقوق و الواجبات التي تنظمها القانون، ومنها حق الملكية وحق الحياة وحق العمل والمساواة أمام القانون بالإضافة إلى حق الانتخاب والترشيح،ويترتب عليه أيضاً حرية الرأي والتعبير بأشكاله المختلفة وحرية المعتقد والضمير حسب ما ورد في معظم الدساتير الديمقراطية، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
ومن هنا نستطيع أن نقر بأن يشكل التسليم بمبدأ المعارضة وقبول الآخر المختلف ركناً من أركان النظام الديمقراطي الليبرالي، ففي الوقت الذي تقبل به السلطة التنفيذية الخضوع للتصويت الشعبي دورياً، لا بد أن تسلم بمبدأ المنافسة المكشوفة.
إن وجود فرقاء متعارضين يستطيع كل منهم أن يطمح إلى ممارسة السلطة، سلمياً وقانونياً، هو مقياس الديمقراطية الليبرالية وأحد الضمانات الضرورية لاستمرارها.
وأخيراً وليس آخراً متى صار الحوار قيمة سياسية عليا ومبدأ مجتمعياً مقراً ومعترفاً به عندها يمكن الاطمئنان إلى تسوية وإدارة الحوارات بطريقة سلمية غير عنيفة.