ملامح النظام العالمي الجديد

افتتاحية نشرة يكيتي *

بدأت تتضح رويداً رويدا ملامح النظام العالمي الجديد، الذي لابد وأن يتلاءم ويتناغم مع العولمة وتمظهراتها، حيث أن أهم مظهر من مظاهر العولمة هو عدم الاعتراف بالحدود بين العالم ودوله لا، بل إن العولمة تعني وحدة العالم وتكامله، وهو ما يستدعي إعادة صياغة العالم من جديد بما يتناسب وهذه الوحدة وهذا التكامل.

يبدو أن أولى تجليات هذه الصياغة الجديدة تظهر من خلال توسيع السلطات العالمية في مقابل سلطات الدول داخلياً ومحلياً عبر إعادة بناء المؤسسات الدولية: التشريعية، القضائية، التنفيذية، وتمكينها من ممارسة سلطاتها فوق الدولية.

 

كان لإعادة الاعتبار إلى القضاء الدولي في العقدين الأخيرين عقب سقوط الاتحاد السوفيتي أثره البالغ في عودة الثقة إلى المستضعفين في الأرض الذين هدرت حقوقهم، وأزهقت أرواحهم واستبيحت أموالهم وأعراضهم من قبل وحوش بشرية استبدّت بالأوطان والشعوب، وأحالتها إلى جهنم وقودها الناس والحجارة، واستحالوا زبانية ينفثون فيها نيران حقدهم وجشعهم وكل ما أوتوا من وحشية، أحاطوا الناس بجهنمهم سادّين كل منفذ للخلاص، لم يبق أمام معذبي الأرض سوى الموت والخنوع.
صدر القرار 985 عن مجلس الأمن الدولي، القاضي بمنع تحليق الطيران العراقي شمال خط العرض 36، ومن ثم جعل كردستان العراق منطقة آمنة إثر المجازر والقبور الجماعية التي نفذها نظام صدّام البائد، والهجرة المليونية لشعب كردستان.

فقد ساهم هذا القرار في إعادة الاستقرار والسلام إلى ربوع كردستان العراق، وشكل سابقة دولية هامة وضعت العالم المتحضر امام مهمة إعادة النظر بالنظام العالمي الذي ساد إبان الحرب الباردة.

تتالت فيما بعد التدخلات الدولية في مناطق عديدة من العالم (رواندا، صربيا، دارفور…) مع إحالة مرتكبي الجرائم بحق البشرية إلى محاكم دولية (سلوبودان ميلوزوفيتش، كارادجيتش، ومحاكمة دكتاتور العراق صدام حسين امام محكمة الجنايات العراقية، وتنفيذ حكم الإعدام الذي صدر بحقه على الجرائم التي ارتكبها بحق الشعب العراقي).

وأخيراً وليس آخراً توجيه مدعي عام محكمة الجنايات الدولية الاتهام إلى دكتاتور السودان وقاتل شعب دارفور عمر حسن البشير، والمطالبة بمحاكمته مع أكثر من مئة من أركانات نظامه الوحشي الذين ارتكبوا جرائم بحق البشرية في دارفور، ولابد أنه وأزلامه سيجرّون صاغرين للمثول أمام المحكمة الجنائية رغم رفضه، وعدم “اعترافه” بمحكمة الجنايات الدولية (هو لا يعترف بمحاكمه وقوانينه، فكل دكتاتور يظن نفسه فوق أي قانون)، ورغم تهافت العرب إلى مؤتمر طارئ لوزراء الخارجية، وتعهدهم بالبحث وبكل السبل، عن مخرج للدكتاتور، إنه سيمثل رغم أنفه، ولو بعد حين، على غرار أسلافه صدام وميلوزوفيتش وغيرهما.
إذا كان حكام المنطقة العربية الغارقون في الاستبداد يأملون بدفاعهم عن الطغاة من أمثال البشير وغيره من المستبدين، إفشال الجهود العالمية الطامحة لحماية الإنسان وحقوقه، ومن ثم إفشال المؤسسات القضائية الدولية (محكمة الجنايات نموذجاً) أملاً في الإبقاء على النظام العالمي القديم الذي مكّنهم من شعوبهم، وثبّتهم على كراسيهم، وأدامهم في حكمهم، عليهم أن يعودوا للتاريخ ليتعلموا أن كل الطغاة (من الحجاج إلى صدام ومن هتلر وستالين إلى سلوبودان) كان مآلهم إلى مزبلة التاريخ.
إذا كان الحكام يتهافتون للدفاع عن الدكتاتور خوفاً من أن يلقوا المصير ذاته، فإن ما يحز في القلب هو سوق تلك الجموع البشرية إلى الشوارع كالقطعان لتهتف بحياة الدكتاتور وتكيل الشتائم لمن استنفر من أجلهم ضد مستعبديهم وسالبي حرياتهم وممتهني كرامتهم؛ تلك الجموع التي باتت بسبب القهر المزمن عاجزة عن إدراك حقوقها الطبيعية، غير قادرة على التفريق بين حقها في السيادة وبين السيادة الخاصة بالاستبداد الذي أعلن نفسه بديلاً عن الشعب والوطن.
لم بعد العالم قادراً على الاستمرار في ظل الخلل الكبير في علاقة الحكام بالمحكومين، لم يعد قادراً على التعايش مع نظم للحكم أحالت المجتمعات البشرية إلى قطعان من الرعية، والأوطان إلى مسالخ، كما إن انعدام التوازن لم يعد يحقق مصالح الكبار أيضاً في عالم تداخلت فيه المصالح والأوطان والشعوب.

فلابد لهذا العالم من أن يعيد ترتيب ذاته، وينتظم من جديد بطريقة تعيد إليه توازنه، وتحفظ بقاءه وأنسيته.
——–
* نشرة شهرية تصدرها اللجنة المركزية لحزب يكيتي الكردي في سوريا – العدد 159 تموز 2008 م

 

لقراءة مواد العدد انقر هنا  yekiti_159

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

د. ولات محمد عندما قامت سلطات الجمهورية العربية المتحدة في الإقليم الشمالي (سوريا) عام 1960 باعتقال قيادات وكوادر الحزب الديمقراطي الكوردستاني (تأسس عام 1957 كأول حزب كوردي في سوريا بالتزامن مع صعود التيار القومي العربي آنذاك) قامت بمحاكمتهم بتهمة “السعي لاقتطاع أجزاء من سوريا وإقامة دولة كوردية”. وعلى الرغم من أن أي تنظيم كوردي سوري لم يرفع منذ…

كتب السيد وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني عبر حسابه الخاص على منصة X تدوينة باللغة الكردية ، جاء فيها : “يضيف الأكراد في سوريا جمالاً وتألقاً لتنوع الشعب السوري، لقد تعرض المجتمع الكردي في سوريا للظلم على يد نظام الأسد، سنعمل سوياً على بناء بلد يشعر فيه الجميع بالمساواة والعدالة”. نرحب بهذه الخطوة التي تعكس بوضوح رؤية سوريا دولة متعددة…

شكري بكر كلنا نعلم أنه كان ولا يزال جوهر الخلاف بين تركيا والنظام البائد في سوريا ، وكذلك مع النظام الراهن في دمشق المدار من قِبل قائد العمليات العسكرية أحمد الشرع هو ملف ال pyd الجناح السوري لحزب العمال الكوردستاني الذي يهيمن على مقاليد الإدارة في المناطق الكوردية في سوريا ، أعتقد أن على إدارة دونالد ترامب الجديدة في…

خالد حسو في هذه المرحلة التاريخية والمفصلية من تاريخ شعبنا والمنطقة عامة أتمنى أن نكون واعين مدركين لمسؤليتنا التاريخية في هذا الظرف بالذات ، علينا أن نمد الجسور فيما بيننا كفصائل وتيارات وأحزاب سياسية من الحركة الوطنية الكوردية والنخب الثقافية والإجتماعية ومنظمات حقوق الإنسان وفيما بيننا وبين شركاءنا العرب. أقول إنه وبالأساس كان إعلام النظام البائد والساقط وكافة الأنظمة المتعاقبة…