أيُّ دورٍ للمثقّف في الشّأن العام؟ «هوامشٌ وإضافات»

بدرخان علي

(تنويه واستدراك من البداية: اعتذرُ من القرّاء الأفاضل أشدّه على الإكثار من ضمير المتكلّم في هذه المُداخلة.

وإليهم يعودُ التقدير و منهم السَمَاح).
حلقة أولى
-I-
عن الكتابة السياسيّة الكرديّة ولُغة التفكير-

وددتُ لو أنّ الأخ الكاتب “هوشنك أوسي” لم يفهم ما ذهبتُ إليه في مقالي” أفكارٌ أوليّة في المسألة الكرديّة في سوريا وأزمة الحركة السياسيّة” بمثابة ردٍ شخصيّ عليه.
ولهذا السبب أعزو عجزَ الزميل الناقد، في ردّه على مقالي، عن تتبّع المقال كنصٍ متكامل ورؤية سياسية واحدة متناسقة، كما أزعم، لا فقراتٍ متناثرة رأى فيها الأخ هوشنك، من غير وجه حقّ، أنها مليئة بالتناقضات.
 والمقال لم يكن ردّاً على ما كتبه هو، قبلاً، إلا في عدّة نقاط محدّدة.

ويعلمُ كثيرٌ من الأصدقاء والزملاء بآرائي تلك التي تعود لسنين منقضية وليست وليدة لحظة انفعالية أو مجرد رد فعل، وأظنها جيّدة التخمّر والتناسق في ذهني.

ومن حيث القناعة الشخصية والاستقامة الأدبية وابتغاء الجدوى، لكل ذلك أرفض الكتابة والكلام في أيّ شأن أكون حديثَ العَهد به أو لمجرد الرّد والسّجال الظرفيّ العابر.

وفي الواقع كنتُ بصدد كتابة مقال لمجلة “الحوار” لملفّها القادم- قيد الإعداد- بخصوص الحركة الكردية في سوريا بعد انقضاء خمسين عاماً على انطلاقتها التنظيمية ومرور خمسة عشر عاماً على صدور مجلة “الحوار” بنفس الوقت.

وجاءت مقالات الكاتب هوشنك، التي أغرق بها المواقع الالكترونية حول الموضوع ذاته (وكان بإمكانه تخصيص عدّة مقالات أو محاور وتكثيف “أفكاره” دون افتعال وانفعال وصخب وضجيج ودعاية وإعلان)، جاءت مقالاته تلك لتحفّزني على بعض الإضافات والتلميح لوجهته الخاطئة في النقد دون التصريح بالاسم، ومن دون إساءاتٍ شخصيّة بالتأكيد، وهو قد ردّ الكلام بأحسنِ منه، فله مني كثير الامتنان، رغم بعض اللكَمَات الخفيفة هنا وهناك التي لن تُفسد للودّ قضيّة.
 وأذكر أنيّ ساجلتُ أصدقاء آخرين لي حول الموضوع ذاته وبحدّة أكبر على صفحات جريدة “الوحدة” الحزبية قبل أكثر من سبع سنوات حين ذهب رفاق مقرّبون جداً، في مسعى الشطب على الحركة الكردية في سوريا نتيجة الأوضاع الدافعة على اليأس والإحباط.

وكان عنوان مقالي آنذاك على ما أذكر: أنصفوا حركتنا الكردية حركتكم.

وللأسف لا أملكُ الآن أية نسخة عن المقال لأعرضها ثانية كي يتبين مدى اقتناعي العميق بما قلته وأقوله فيما يخص وضع الحركة الكردية وحذري الشديد تجاه دعوات القيام عليها، إن كان ذلك ممكناً.

وذلك ليس افتتاناً وهُياماً بأية أسماء أو شعارات أو تعلّقاً بالأشياء “القديمة والبالية” بل من منظور أزعَمهُ بالِغَ الواقعيّة والعقلانيّة السياسيّة.


 و مع انحدار المقال السياسيّ الكرديّ إلى دركٍ مخيف من السطحيّة والتّوتر والعنف والعنف المضاد (الرمزي حتى الآن)، أي وصول السياسة إلى دون الدرجة صفر تماماً، وهو ما انفكّ يترنحٌ حول الدرجة ذاتها بشكل عام، ارتأيتُ أن أدفع مداخلتي تلك للنشر في المواقع قبل صدور العدد المعنيّ بالملف المذكور، كمساهمةٍ متواضعة في انتشال الحديث من الدرك الذي تموضع فيه.

وواضح لو أعاد الأخ الكاتب قراءة مقالي أني أشير إلى اتجاهات وتيارات في الهدم من داخل الحركة أيضاً من غير المقتنعين بالسياسة (ولو كان “قادة”) أو السّاسة المتقلبين والمتلهفين للظهور على شاشات الانترنت (ميدان المزايدات الكردية وغايتها) كيفما اتفق.

دون أن يغيب عن بالنا ذاك الطراز الرفيع من المثقفين الذين يقدّمون النصائح تلو الأخرى، بمشقّة كبيرة وتنازل وتواضع ودون مقابل، والحقّ يُقال.

وسأتعرض لجوانب في هذا الشأن في مداخلتي هذه لأدللّ على مسؤولية “النخب” جميعاً عن أزمتنا العميقة.

واقترح على القارئ الكريم العودة إلى مداخلتي الفائتة ونقد السيد أوسي لها قبل الشروع في قراءة مداخلتي الجديدة هذه لاستكمال الصورة في ذهنه.
 وبسبب عدم تناول الصديق الناقد أوسي للنصّ كوحدة متكاملة نراه يوجه إلينا سؤالاً في غاية الإحراج عن أزمة الحركة الكردية من بداية ردّه:” وهل هي أزمة حوار؟ أم أزمة خطاب؟ أزمة قيادة؟ أم أزمة تنظيم؟ أم أزمة مجتمع؟ أم أزمة وعي؟.

أم كل ذاك، مجتمعاً؟ أم ماذا؟” وذلك لأني لم أحدّد طابع الأزمة في عنوان المقال!.

وكأن مقالتي تدور عن شيء آخر غير تحليل أزمة الحركة نفسها؟ (بالإضافة لأزمة نقدها وشَطَط النقاد) وأدّعي، في هذا السياق، أني خرجت بتصور مركّب لأبعاد الأزمة ولم اكتفي بالمقولات الجاهزة التي تُقال بهذا الخصوص.

وعملتُ على ردّ أزمة الأحزاب إلى سياق أزمة أعرض وأشمل من مشكلة قيادة وأفراد وإراداتهم وشجاعتهم أو خوفهم.

فهذا التّساؤل من الأخ الناقد لا يوجه إليّ.

ويُستَحسن أن يحتفظ الأخ السائل بالسؤال لنفسه فهو، ونحن أيضاً، بأمسّ الحاجة إليه.

علّه يفيد أمته وشعبه عندما يَفرغُ من النظر إلى الأزمة على أنها نتاج إرادات سيئة وجبانة وحسب.

وكفى الله المثقفينَ الكرد عناءَ التفكير والتواضع والانسجام مع النفس.

وسؤاله ذاك إن دلّ على شيء فهو يدّل على قراءة غير جيّدة للنص كما قُلت (والقراءة الجيّدة أفضل بكثير من الكتابة السيئة وأكثر “إمتاعاً ومؤانسة” كذلك).

وحبذا لو عاد الأخ الناقد إلى المقال من دون حزازاتٍ شخصيّة.

أما تساؤله الآخر:” هل ملفُّ معاناة الشعب الكردي في سورية، ينطبق عليه وصف؛ المسألة، أم المشكلة، أم القضيَّة!؟” فسؤالٌ وجيه ومفيد.

لكنه بدوره أخطأ الوجهة في طرحه.

إذ سبق لي أن توقفت عند المفاهيم تلك في مقالٍ سابق، أحسبُ أن الأخ هوشنك مطّلعٌ عليه مادام متابعاً لكتاباتي، القليلة المتواضعة، مشكوراً.

وكنت قد أثرتُ الموضوع في حينه لطرحه للنقاش السياسيّ والإيديولوجيّ.

لكن لا.

فـ”الأوساط” السياسية والثقافية الكردية لديها الكثير من القصص والحكايا و”السوالف” ما تضيّع وقتها به ، والوقتُ من ذهب يا صديقي.
و المقال المومأ إليه جاء بعنوان: “في إحداثيّات المشكلة الكرديّة في سوريا” وهو منشور في ملحق نوافذ الأسبوعي (المستقبل اللبنانية) بتاريخ 18 تشرين الثاني2007 ومن المفيد نقل ما يتعلق بتساؤل الكاتب أوسي:
 (…خطاب يقولُ بوجود شأنٍ كرديّ أو حقوقٍ كرديّة أو مشكلةٍ كرديّة، أو قضيّةٍ كرديّة، أو مسألةٍ كرديّة في سوريّا!.

والتوصيفاتُ هذه جميعها، تنطبق على الحالة الكردية، برأييّ، تبعاً لزاوية النّظَر ومستوى الرؤية، والقرب والبعد: فهي شأنٌ سياسيّ و اجتماعيّ وثقافيّ، وثمّة حقوقٌ مهضومة لجماعةٍ مخصوصةٍ من المواطنين ينتمون لإثنية ـ قومية بعينها (تضاف لحقوقهم المستلبة كسائر مواطنيهم السوريين) وهي أيضاً مشكلةٌ ومصدر قلق لاستقرار النّظام السياسيّ والاجتماعيّ للدولة السوريّة لا السّلطة فحسب، الذي لا يعترف بتعدديّة أثنيّة وقوميّة، ويقولُ بالمجتمعِ العربيّ القوميّ الواحد المتجانس، وكذلك قضيّة شائكة ذات شحنة عاطفيّة وشعوريّة للقائلين بها، وأخيراً هي مسألةٌ سياسيّة وتاريخيّة، مُعقّدة ومُركّبة على مستوى المنطقة برمّتها وعابرة للحدود، كونها تخصّ قوميّة بعينها تبحثُ عن تحقّقها في شكلٍ أو معادلٍ سياسيٍ ما، يتداخل فيها التاريخي والجغرافي والسياسي والإقليمي والدولي، والواقع بالرمز والذاكرة والحاضر بالماضي، وهنا عقدة “الحلّ النهائيّ” وأسّاس المسألة التاريخية بنظري، بل وأصعب مستويّات المُقاربة أيضاً، ولَنْ أتعرضَّ لها في هذه السّطور…).-انتهى الاقتباس-
 وقد أضيفُ، ها هنا، أن سياق الكلام يفرض على المرء الاستعانة بمفهومٍ دون آخر.

بالنسبة لمواضيع شتّى لا موضوعنا هذا لوحده.

و بشكلٍ عام ولأسباب تعبيرية محضة قد يكون الانتقال من تعبير لآخر في النصّ عينه أكثر جمالاً وبهاءً ونفاذاً للذهن والذائقة الأدبية تفادياً لتكرار الكلمة ذاتها، الأمر الذي يبعث على الملل وكسل القارئ وشروده ربّما، أقلّه بالنسبة إليّ.

وهذا شأنٌ لغويّ “اكتشفته” بانطباعٍ ذاتيّ ولم أعثر على رأيّ لعلماء البلاغة والبيان في ذلك، بعدُ.

فالأمر في جانب منه برسمِ البلاغة والحالُ هذه .

أما بعضُ السجالات الكردية-الكردية التي تُرجع إيراد أي تعبير ومصطلح سياسي (وأي رأي في أي شأن كان) لمجرد الخوف من النظام و التملّق له من جهة أو الشجاعة و الجرأة من جهة أخرى (أو إرضاءً ومسايرة للـ”العرب”!)، فهي غير جديرة بالمناقشة كثيراً هنا.
ثم من قالَ لك، لتقول لنا، أن” لكلٍّ من هذه الاصطلاحات في العلوم السياسيَّة، مدلولاتها ومضامينها”؟ ومتى كان بالأمر المهم والخطير أن نعود إلى كتب العلوم السياسية لنرى ضالتنا المنشودة فيها، أي اكتشاف مفاهيم بيئتنا و قياسها بمدى انطباقها أو عدم انطباقها على نموذج معياريّ دُرس في زمانٍ ومكانٍ ما مدّون في كتابٍ ما.

فالمثقف الحقيقيّ والباحث اليَقِظ يبتدع أسئلته السياسية والاجتماعية والثقافية بدلالة الواقع المتحرك والغني، لا بالنظريات الجاهزة – أياً كانت- فالنظرية رمادية اللون بينما شجرةُ الحياة دائمة الخضرة، على قولٍ معروف.

هذا إن أحسنّا فهمَ تلك النظريات في سياق صياغتها.

هذا إن كان ثمّة نظريات ثابتة في العلوم السياسية.

ويبقى للإطّلاع المكثّف على الكتب، والتجارب الأخرى، ضرورة وفائدة (ومتعة) جمّة لا جدال فيها و لا غنى عنها يكتشفها أي قارئ جيّد للنصوص مع مرور الزمن.

ثم أية “علوم سياسية” تلك التي اهتمت بالمسألة والمشكلة والقضية؟ وفوق ذلك “مدلولاتها ومضامينها”؟ أم أن الأمر هو مجرد حشو الكلمات الكبيرة كيفما اتفق وإنشاءٌ وإطنابٌ لغوي؟
وعلى سيرة التناقضات التي استنتجها الأخ الكريم في مقالي.

فَحَسبي أن أشير إلى “تناقض” لاحظه في قولي: أن المجتمع الكردي منقوص ومتأخّر.

وأنه ليس بالعقيم من حيث قدرة إنجاب قائد “بطل وشجاع” (بين مزدوجتين بالطبع ودائماً).

أقول أن التخلّف الاجتماعيّ ليس حكمَ قيمة أطلقناه، بل إقراراً لمراحل ووقائع لها مسببات عديدة لا تعود لتخلّف الأكراد كشعب وبشر (وكذلك جميع شعوب الأرض).

ولا بالتأكيد لجينات (مورّثات) في خلايا الإنسان الكردي، كما ذهب جوناثان راندل، الصحافي الأمريكي صاحب الكتاب الشهير “أمة في شقاق” عن صداقة وودّ وطيبة خاطر، وتوقّع أن يكون لدى الأكراد جينات شقاق وانشقاق.
قُلتها، وغيري أيضاً، يقول: الشعوب المغبونة و المجتمعات المتأخّرة والمفكّكة والمهمّشة- كحالتنا- هي الأكثر احتفاءً بالبطولات والأبطال والشجعان (الحقيقيين منهم والوهميين).

بل نحنُ نتوهّم الجسارة والشجاعة في أشخاص تنقصهم “البطولة” حتى النهاية.

فأين لاحظتَ التناقض في هذا القول؟ أم هي المجتمعات المتقدمة والمندمجة والمكتملة هي التي تنتج “الأبطال” و”الشجعان” يا تُرى؟ (إلا في أمثلة طارئة نأتي لذكرها بعد قليل، ويمكن لفظها من المجتمع لأنها غير راسخة في الثقافة العامة)؟
وتوكيداً للفكرة هذه وبمزيد من المُصارحة، المُكلفة شعبويّاً، أضيفُ أن من حُسن حظّنا ، كرد سوريا، أننا لم نحظى بأي “بطل” يحمّلنا ما لا طاقة لنا به والحمدُ لله وللواقع العنيد من بعد.

طبعاً هذا ليس مصادفة.

إذ تندر المصادفات في التاريخ.

إننا نعود ثانية إلى مُمكنات العمل السياسيّ الكرديّ في سوريا، المختلف عن مثيله في الأقاليم الكردية الأخرى.

والحقّ يجب أن أبدي سعادتي الشخصية، ويشاركني كثيرون لم يجاهروا بعد بآرائهم علناً، بهذا “القدر” الجميل والسعيد المكتوب لنا.

أعني أن تكون سياستنا إصلاحيّة وسلميّة وتدرّجيّة، وبفظاظة أقول، وبأقل “الخسائر” الممكنة (لنسمّها تضحيات فلا تغير التسميات شيئاً من حقيقة الواقع) من غير شعور بالخجل أو الذنب والعار أو تأنيب الضمير “القومي”(أو غير القومي).

أعرف أن هناك من يتحرّق لخلق “واقعٍ ثوريّ”-لا قدّر الله- واستمرارَ الحرائق كأحداث آذار2004 وردة الفعل الشعبية الكردية الغاضبة والتهابَ الأوضاع أكثر فأكثر واختلاطَ الأوراق، لعلّه يحظى بزعامة ما على أكتاف وحساب قضية الكرد وحقوقهم العادلة أو كي يظهر على شاشات التلفزة وأشياء أخرى.

لقد بلغت الرّكاكة بالسياسيّ الكرديّ السوريّ مبلغاً أن تكون جلّ طموحاته الظهور على مواقع الانترنت والتلفزيونات.

مراسلة إحدى الوكالات في سوريا، متعاطفة مع قضايا الأكراد، اشتَكت و أبدَت انزعاجها من ملاحقة بعض القياديين الكرد لها ومطاردتهم لها لإدراج أسمائهم الكريمة، أو أسماء أحزابهم المُخيفة للنظام كثيراً، في خبر صحافي في زاوية ما من موقع الكتروني (محجوب أو غير محجوب) أو صحيفة ما.

و لمن لا يعلم فهذا له فائدة جمّة في “السياسة” التي تُصاغ  و”تُرسم” بأكملها توسّلاً لعطف “الشارع”.

وما أدراكَ ما “الشارع”.
ومن دواعي السرور و السعادة والغبطة، الأخرى، أن هذا الجهد لاختراع “ثورة” ما لدينا، وكيفما اتفق، اصطدم ويصطدم على الدوام  لـ”حسن الحظ”، مجدّداً ودائماً، بالوقائع العنيدة والحقائق على الأرض.

سواء تلك الجهود “الحثيثة” لذاك السّائح، على مَرْمَى حَجرٍ منّا وبين أوربا وأمريكا (وبين “اليسار الثوري” و”الفكر” الماركسي من جهة والدعاية والإعلان “والمقاوَلة” من جهة أخرى) أو صاحبنا الذي ملّ من الضَجَر والغربة- وجمع الأموال “والمال والبنون زينةُ الحياة الدنيا”- في بلاد العم سام فوجد ضالته في “السياسة” علّه يقتل بها أوقات فراغه الطويلة (وأشياء أخرى نجهلها).

أم ذاك الذي لا يستقرّ على وجهة وتيار، غير مبدأيته الثابتة في المزايدة على الجميع، أو ذاك الذي يدعو لحماية دولية لأكراد سوريا تارة وينادي بإنهاء الاحتلال السوريّ لكردستان تارة أخرى، بعد أن شكل حكومة جبّارة لنا في المنفى، قد تقضي على البطالة المتفشية في القامشلي وعفرين، ولا نصيبَ لإخواننا العرب في ذلك، دون أن يشرّف محبيه ووزرائه الكثر بزيارة واحدة إلى الآن أو يرسل مندوباً عنه (والحقيقة أن الشعب الكردي ينتظره بفارغ الصبر كما ينتظر الشعب السوري كلّه قدوم السيد رفعت الأسد على أحرّ من الجمر.

فليأتي السيدان سويّة تجسيداً للوحدة الوطنية الديمقراطية أو برفقة السيد عبد الحليم خدام تجسيداً لـ”التعددية” الطائفية الجميلة في بلادنا السّعيدة بأبنائها وطوائفها وحكّامها) أو ذاك الذي…  أو ….أو  …..الخ.

وبين الفينة والأخرى نسمع بأسماء جديدة في هذا السباق “القومي” حامي الوطيس (ولا ناقةٌ لنا فيه ولا جمل) والذي يتجدد بصور متعددة كلّما خطر على بال واحدهم إتحافنا بنظرية سياسية جديدة أو كلما ألمّت بنّا واقعة ما، وما أكثرها في هذا الأيام العصيبة.
والمثقف الكردي قلّما تسترعي انتباهه قضايا تافهة من هذا النوع.

إذ هو مشغولٌ بنفسه أولاً وأخيراً كما هو متأخّر بأشواط في تلمّس مُشكلات واقعه وإضاءتها ولا يرقى حتّى إلا سوية معلّق صحافيّ عادي (ينتظر المثقف عندنا وقوع “الفاس بالراس” كي يبدي رأياً ما وبصياغات ضعيفة ومقولات عامة).

وشطرٌ من مثقفينا، هداهُم الله، إن تطرق للسياسة يرى من واجبه الثقافي الابتداء بمقارعة الحركة الكردية أولاً وبعدها سيتفرّغ للنظام (إن شاء الله)..

هذا هو مؤدّى الترابط المنطقي تماماً والخالي من أي تناقض (؟) والذي أشرت إليه- في مقالي السابق- بين شتم الحركة على النحو الذي توقفت عنده مراراً وضرب مرتكزات السياسة الكردية الواقعيّة عبر مواصلة الهواية الكتابية في تسفيه الحركة الكردية من جهة وبين تعبيد الطريق أمام خيارات سياسية مغامرة وارتجاليّة حتّى بمعزل عن الاستغلال المشار إليه أعلاه من جهة أخرى.

(أم نحنُ في تناقض هنا أيضاً؟)
أمّا عن الإتيان باسم “هتلر” وحشرِه في سياق رد الأخ هوشنك فلم أجد مسوّغاً له حتى الآن، فضلاً عن أنه استحضار سيءٌ ومغلوطٌ وفي غير مكانه تماماً.

لكنه يُردف كلامه عن هتلر بمعلومة خطيرة يوجهها إلي حصراً ، مشكوراً ، فلنُصغ جيداً: (هل تعلم أن محاربة ألمانيا لهتلر ولفكره، بعد الحرب العالميَّة الثانيَّة، وصلت لحدِّ منع إطلاق اسم هتلر على المواليد الألمان الجدد، ورفض تسجيلها في القيود المدنيَّة!؟ هكذا اجتازت ألمانيا، زعيمها السابق هتلر.

والسؤال؛ هل كانت ألمانيا ستصل إلى ما هي عليه الآن، لولا ما فعلته مع هتلر!؟.( للتوضيح فقط أبدي ملاحظات عابرة (بعد تساؤلي ثانية “شو جاب لجاب”) :أولاً ألمانيا هُزمت في حربٍ طاحنة ومدويّة كلّفت ملايين النفوس ودمار بلاد بأكملها في مواجهة قوى دولية كبيرة (لا بسبب إطلاق أسماء أو عدم إطلاقها قبل هزيمة النازية أو بعدها) وبعد هزيمة النازية في الحرب العالمية الثانية جرت عملية” تكنيس” شاملة للثقافة النازية (التي ساهم فيها فلاسفة ومثقفون بالمناسبة) تحت وطأة الدّمار الشامل الذي خلّفته النازية وحروبها في المجتمع أين منها إطلاق الأسماء.

وأعيدَ إعمارُ ألمانيا (وغيرها من الدول الخاسرة في الحرب) بمساعدة الدول المنتصرة من أول وجديد.

ثانياً:ظاهرة هتلر تستحق توقفاً أطول مما أشار إليه الأخ الناصح.

فيقول: هكذا اجتازت ألمانيا (كيف؟؟) وسؤاله التالي: هل كانت ألمانيا ستصل إلى ما هي عليه الآن لولا ما فعلته مع هتلر؟ ماذا فعلت ألمانيا بهتلر يا صديقي؟ فقط كفّر المجتمع عن جزء من ذَنْبه تجاه ذاته.

كان المجتمع الألماني بأكمله متورّطاً و منجرفاً إلى عبادة الزعيم “الفوهرر” ودولته المقدسة وإيديولوجيته النازية المتطرفة.

وكانت النسوة في ألمانيا يتغزّلْنَ بعيون هتلر الجميلة طوال فترة حكمه.

(مثلما يتغزّل، الكردُ والعربُ وغيرهم، رجالاً ونساءً – صغاراً وكباراً- بشوارب الرجال عموماً وأحياناً الزعماء والقادة.

والنسوة حين يتغزّلْنَ بشوارب الرجال، وما شابه، إنّما يضفينَ مُسحةً جنسانية “جندرية gender” خَجولة على الشجاعة والبطولة تعويضاً عن بعض الكبت والحرمان الجنسيّ لديهن وكذلك بسببٍ من عقدة النقص المزمنة تجاه “الرجل” في بيئتنا القاسية والظّالمة بحقهنّ حقيقة.

أما الرجل فهو يستند إلى ميراثٍ عميق من العنصرية الجنسية والنرجسية الفائقة و “عقدة النقص” والخوف تجاه الزعيم والقائد..

ولا تناقض بين النرجسية وعقدة النقص إن بدى كذلك.

إذ هي أعراض لمرضٍ واحد.

وعقدةُ النقص ما هي إلا نرجسيّةٌ جَرَيحة في الصميم.

والنرجسيّةُ بدورها عقدةُ نقص بليغة تجاه الآخرين (هل من تناقض؟).

وكم هي ظاهرة معيبة ومُهينة للمرأة كأنثى هذا التغزّل الكريه الباعث على القرف.

وللرجل كذلك هذا الافتنان العظيم بهرموناته الجنسية الغزيرة و”رجولته” التي لا تبعث على أيّ فخر.

فكم يجدر بنا حذفها من ثقافتنا الشعبية ولو كلّفتنا العملية هذه حذف العشرات من الأغاني الكردية -الجميلة منها وغير الجميلة- من ذاكرتنا المثقلة والمُرهقة بالخُرافات والنرجسيّات والأوهام وذلك إنصافاً للمرأة وتخفيفاً من سَطوة الفحولة والذّكورة الطاغيّة في حياتنا العامة).
ولو عرف الصديق هوشنك بأن الشمولية والنازية، والقضاء عليهما كذلك، تأتي في سياق، أوسع بقليل من إطلاق أسماء أو خلاف ذلك، لما توّرط في ذكر هذه المعلومة الخطيرة لنا، كأنه يفشي بسرٍ من “العلوم” السياسية.

لعلّه سمع للتوّ بهذه المعلومة الهامة فأراد إفادتنا بها تعميماً للثقافة وهنا أيضاً يستحق الشكر الجزيل مع الخطأ الذي ارتكبه.
باختزالٍ شديد، يمكن القول أن ظاهرة “هتلر” كانت مزيجاً متطرفاً لعناصر جدّ متطرفة ومدفوعة لحدودها القصوى لكنْ غير معزولة عن السياق العريض للحداثة السياسية (عبادة الدولة-الأمة) وهي أتت كطرازٍ خطير من أنماط الحكم تبلور في أوربا بسبب التحوّلات التي عجّلت الطلب على الدولة فائقة المركزية والقوية عسكرياً واقتصادياً واقتضى ذلك، من بين ما اقتضى، تنسيق بُنى المجتمع كلّها لخدمة عبادة الدولة والأمة والزعيم (عَطْفاً على فكر عرقي شوفينيّ في حالات معينة).

الطراز هذا أنتج ما يسمى بالعلوم السياسية بالظاهرة الشمولية (التوتاليتارية).

(لي مداخلة قريبة بصدد الشمولية).

غير أن الصديق هوشنك أثارَ، من حيث لا يدري، ما يبدّد “التناقض” الذي لاحظه في مقالي أعلاه.

أعني دور الإحباط النفسي العام -وفي بيئاتنا خاصّة- في الالتجاء إلى زعيمٍ مخلّص قد يسبغ عليه بعضٌ منّا صفاتٍ خارقة.

هكذا جاء “هتلر” إلى سدّة الحكم بانتخابات نزيهة.

هذا الدافع النفسي-الاجتماعي الذي لخّصه إريك فروم-تحت عنوان عريض “الهروب من الحرية” توقف عنده الباحث السوري الجاد “جاد الكريم الجباعي” في قراءة مفيدة وشيّقة لكتاب فروم (فصلٌ ضمن كتاب الجباعي “المجتمع المدني هوية الاختلاف” يمكن العودة إليه).

ورغم أنه يستحيل انطباق المثال هذا على حالتنا الكردية، بأي شكل من الأشكال ومن أية زاوية انطلقنا، إلا أنه من واجبنا -كمثقفين وسياسيين- الكفّ عن إشاعة مناخات الإحباط و اليأس والعجز الدائم وما يترتب على ذلك من خياراتٍ سياسية خطيرة.

أما إذا كان الصديق هوشنك متيقّناً من أن الحركة الكردية دمّرت المجتمع الكرديّ في غفلةٍ من الكرد” ومثقفيهم الحريصين على شعبهم أيّما حرص”، كما فعلت النازيّة في الشعب الألمانيّ.

فعليه عدم التوقف عند النقد وحسب بل (ودائماً انسجاماً مع النفس) إلى المساهمة الفعليّة في تخليص الشعب الكردي من هذا الكابوس المرعب الجاثم على صدره منذ عقود.

المثقفون الحقيقيون لا يكتفون بالكتابة فقط.

لكن القارئ الجيّد والمتابع لأحوالنا الثقافيّة الرديئة سيكون متسامحاً وواقعيّاً ولن يسيء الظن مع الأخ هوشنك، على ما أرجّح.

فالمثقف الكردي كثيراً ما يورد كلاماً لا يعرف معناه وسياقه.

فقط هو الانبهار بالكلام الفاقع والكبير والإتيان بأمثلةٍ كيفما اتفق واستعراض ثقافة الأسماء والعناوين- وقتلاً للوقت الفارغ-.

وليس الأخ هوشنك وحيداً في هذا “المضمار” كي نحمّله وزر الواقعة الكبيرة بأكملها.

فمعظمنا أبناءُ بيئة فقيرة للغاية لجهة الثقافة والفكر والمنطق والسياسة ولغة التفكير التي لا تُقاس جدّيتها ونفاذُها بخلوّها من الأخطاء النحويّة والصرفيّة بل كونها مستوى من مستويات التفكير وأداة عقليّة تجريديّة محضة.
وهنا، تحديداً، لو فتحتُ باب التناقضات على جهة الزميل الناقد لكان ذلك في غير صالحه على الإطلاق وقد يعود الأمر عليه بنتائج وخيمة على صحته البدنيّة والنفسيّة، لا نريدها له.

وهو إنْ ألحّ علينا سنُحيله إلى تناقضٍ صارخ، ينسف كلّ موضوعيته وحرصه، في مقالاته التي كتبها بالتتابع وكيف انتقل سعادته، بسَلاسة ورَشََاقة، بين متناقضاته التي لا تعود لأسباب متّصلة بضعف التحليل السياسيّ أو فرط “الجرأة” النقدية أو الجهل  بـ”العلوم السياسية” أو عدم الاتّساق والانسجام مع النفس على الإطلاق.

إنّما بموقفٍ سياسيّ وإيديولوجيّ بالغ الوضوح والدّقة.

وليس صعباً على متابعٍ محايد أن يطرح عليه أسئلة في غاية الإحراج بهذا الخصوص.

لكننا نودّ الجدال والحوار على أرضية التخاصم السياسيّ ” العلنيّ والسلميّ” والدردشة الثقافية والمداولة السياسية والاحترام الشخصيّ المتبادل والخيارات السياسيّة الحرّة والمشتركات الإنسانية و”القومية” الكثيرة.
ولأني لا استسيغُ المضيّ في السجال على طريقة الأخ الكاتب لأعلّق على كل مقطع وكلمة وندخل القارئ في لعبةٍ مضللة وغير مفيدة كثيراً له (و لَنَا) فضلاً عن إهدار وقته الثمين بـ:قلتَ وقلتُ.

قصدي كذا وقصدك كذا.

أو أن نُوهم القارئ (وأنفسنا قبلهم) بأننا وضعنا كتباً مهمّة في المسألة الكردية أو العلوم السياسية.

ومن جهة ثانية لم أضع نفسي، ولن أفعل، في موقع تقديم المرافعة عن كل ما يجول ويدور في داخل الحركة من حركات استعراضية ركيكة وخطابات رديئة أو انشقاقات السياسيين عن بعضهم (وانشقاقهم عن السياسة وهو أخطرُ وأجدرُ بأن يستوقف المثقّفين.”هل نروّج للانشقاقات؟”).

والقارئ يستطيع العودة إلى المقالتين والحُكم من ثمّ على التناسق والتناقض وليس من الحكمة واحترام عقل القارئ في شيء تكرار ما كتبناه قبل قليل علّه يقتنع بوجهة نظر أحدنا.
نقطة أخيرة أثيرها هنا، لوجه الله و الثقافة العامة، واختتم بها الردّ المباشر على الناقد الكريم لأنتقل إلى محورٍ آخر استكمالاً لورقتي الأوليّة وتدوين “هوامش” أخرى على دفتر الأزمة (كِدنا نقول “هوامش على دفتر النكسة”).

ولا بد أن يتنبّه إليها أيّ قارئ جيّد.

وهي حشر الناقد أوسي لنصٍ طويلٍ منقول من مقالة متواضعة لكاتب عربيّ متواضع (دع الألقاب جانباً) منشورة حديثاً في جريدة الحياة.

أقول، أولاً ، هذا الاقتباس غير ذي فائدة كبيرة في دعم فكرة الرّد على مقالي.

وخارج السياق المطابق ثانياً.

وتجيء كحشرٍ وإقحام مُصطنَعَين.

وتبدو المادة الطويلة المنقولة كزائدةٍ عن النصّ وغير انسيابيّة في نسيج المادة المكتوبة ثالثاً .والحشر هذا يعود للانبهار بالمقولات الجميلة التي قلّما تكون مفيدة في بناء أدوات المقاربة وابتكار مداخل للولوج إلى التحليل السياسيّ والاجتماعيّ رابعاً.

والأهم هو جوهر الأفكار المنقولة وأخذها بحذرٍ دائم ، من أية جهة أتت، لا سيما إذا كانت مقولات تبشيريّة و وعظيّة وعموميّة ولا تعود بمردودية تحليليّة جدّية على وجهة المُقارَبَة وموضوع البحث، إلا إذا كان اقتباساً قصيراً يضفي جماليّةً ما على النص.

وأخيراً لو علم الأخ الفاضل -سامحه الله- برأيي المنشور قبل مدة قصيرة، في آخر كتاب أصدره صاحب المقالة المنقولة لما أرهَق نفسه كثيراً بإيصالها إليّ.

وأخيراً وليس آخراً، و مع جزيل الشكر على أتعابه معنا، لا يُعقل كلّما قرأ واحدنا نصّاً ما وأعُجب به (بصرف النظر عن سويّته وجدّته) أن يقذفَ به في وجه القرّاء في اليوم التالي أو بعد ساعاتٍ معدودات (بفضل تقنية “النسخ واللصق” الكمبيوترية الضّارة و المُسيئة غالباً) من خلال مقالةٍ مكتوبةٍ على عَجَل كما فعل الزميل أوسي في أمكنةٍ متعددة.

تُتبَع……
bedirxaneli@hotmail.com

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…