الخراب جواباً على سؤالٍ طرحته.

هوشنك أوسي

بطلب من أحد الأصداء في هيئة تحرير موقع “ثروة” الالكتروني، كتبت في 10/12/2004، دراسة نقديَّة، حول واقع الحركة الحزبيَّة الكرديَّة في سورية، تحت عنوان :الحركة السياسيَّة الكرديَّة في سورية..

إلى أين”.

ونشرت الدراسة، مع بعض التعديلات التي كانت برسم المحرر، في الموقع المذكور.

كما نشرت بعض المواقع الكرديَّة هذه الدراسة بنسختها الأصليَّة، وقتها.

ومنها موقع “عفرين نت”.

ارتأيت أنه من الأهميَّة بمكان، إعادة نشر هذه الدراسة، كونها تشتمل على أسئلة، لا زالت تطرح.

فضلاً عن كون الدراسة، تنطوي على بعض الأفكار والآراء التي لم يكن قد سبق تناولها وقتئذ، ويتمُّ تناولها حاليَّاً.

الحركة السياسية الكردية في سوريا: إلى أين؟

على الرغم من سيل المقالات والدراسات والأبحاث التي تناولت نشأة النظام السوري وطبيعته، من حيث بناه الفكرية ومنطلقاته النظرية ومقوماته التاريخية، وآليات عمله، وماهيته الذهنية، والظروف والمناخات التي خلقته، والتي خلقها، بدوره، في كافة المجالات: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية والقانونية…إلخ، إلا أنَّ هذا النظام، والنظم التي على شاكلته، لا يزال بحاجة إلى الكثير من التدقيق والتمحيص والمراجعة، للإحاطة به وتسليط الضوء على مفرزاته وتبعاته ونتائجه والآثار العميقة التي خلّفها في بنى المجتمع والدولة في سوريا على مدى عقود.

والأهم من كل ذلك؛ هو البحث الجاد في كيفية التغيير وآلياته النظرية والعملية، والتي تشكل المعارضة السياسية والاجتماعية والثقافة المدنية السلمية أهم دعائمه وأبرز ركائزه.

ولا بدَّ، هنا، من معرفة أنماط وأشكال المعارضة ومستويات وعيها وأنساق تفكيرها وخطابها النظري وممارساتها العملية ومدى حضورها وفاعليتها في المجتمع وتأثيرها على الحراك السياسي والثقافي والاجتماعي، واستجابتها لنبض الشارع وعكسها وترجمتها لمزاجه العام.

ولن يكون ذلك إلا بإعادة النظر في تجاربها ومراجعتها نقدياً وتسليط  الضوء على نقاط الخلل ومواطن الضعف الكامنة فيها.
ولعل الجزء الأكثر حضوراً وفاعليةً ومظلمةً في المعارضة السورية هي الحركة السياسية الكردية في سوريا، فبعد تجربة تمتد قرابة نصف قرن من النشاط والنضال السياسي السلمي –السري والعلني- لهذه الحركة، أعتقد أنه قد حان الوقت لتضع النخب السياسية والثقافية الكردية، داخل الحركة وخارجها، هذه التجربة تحت المجهر.

وذلك من خلال إجراء مراجعة نقدية جادة ومتأنِّية لها، بغية الكشف عن مكامن الخطأ فيها لتصحيحه، وتقويم المعوجّ فيها، وصولاً إلى ترتيب البيت الداخلي الكردي سياسياً وثقافياً، والارتقاء بالنضال السياسي الديمقراطي الكردي وتفعيله وطنياً وإقليمياً ودولياً، لتشكيل رأي عام محلي ووطني وعالمي يفهم ويتفهم مطالب الكورد السوريين وطبيعة حقوقهم ومظالمهم السياسية والثقافية والاجتماعية…إلخ، فيكون هذا الرأي مسانداً للكورد وضاغطاً على النظام داخلياً وخارجياً، لحثّه على الاعتراف بحقوق الكورد وإزالة الظلم والغبن عنهم.
والجدير ذكره، هنا، أن أحداث انتفاضة 12 آذار العفوية وضعت الحركة السياسية الكوردية قيد المساءلة الشعبية كوردياً وعربياً، وربما الأسئلة الأكثر إلحاحاً هي: ما حجم الإنجازات السياسية والاجتماعية والثقافية التي حققتها وطنياً وقومياً، بعد هذه المدة الطويلة نسبياً على نشأتها؟ وما حجم المعطى الثقافي الذي أفرزته هذه الحركة؟ وهل خلقت رجال فكر وثقافة رفدوا الثقافتين الكوردية والعربية السورية بنتاجاتهم ورؤاهم؟ هل كان الخطاب السياسي لفصائل هذه الحركة، وعلى اختلاف تلاوينها وأسمائها ومشاربها الفكرية، واقعياً وعقلانياً، ويتماشى ومعطيات الواقع الوطني والإقليمي والدولي؟ وربما السؤال الأهم هو: لماذا لم تحرك الحركة الكوردية ساكناً حتى الآن، على طريق تحريك الملفّ الكوردي من أجل تدويل القضية الكوردية، وصولاً لحلّها في سوريا، باعتبارها قضية وطنية ديمقراطية حيوية وعاجلة الحلّ بامتياز؟ وهل يتطلب الموضوع نصف قرن آخر حتى ينال الكورد حقوقهم في سوريا بقدرة قادر؟
ضمن هذا الفضاء المعلوماتي المفتوح، والتحولات والمتغيرات الإقليمية والعالمية المتسارعة، علاوةً على أن التقلبات والانقلابات الفكرية والعلمية التي خلقت قفزات ونقلات نوعية هائلة في المنظومات القيمية السائدة، كان لها مضاعفات وتبعات سياسية اقتصادية واجتماعية وثقافية كبرى، أثّرت على إعادة النظر في حركة التاريخ، وصياغة حاضر ومستقبل العالم.

ضمن هذا الفضاء العولمي واستحقاقاته على صعيد الحضور والمواكبة والإصلاح والانفتاح …إلخ، ما هو موقع الحركة السياسية الكوردية السورية؟ وإلى متى ستبقى هذه الحركة ممنوعة من الصرف سياسياً وثقافياً في المجالات الوطنية والإقليمية والعالمية؟ ومتى ستصبح هذه الحركة رقماً واحداً موحداً صعباً وفاعلاً ومؤثراً، لا يمكن تخطيه أو تجاهله في المعادلة السياسية الوطنية السورية؟ بدلاً من أن تكون اثنا عشر رقماً هشاً هامشياً قابلاً للانشطار والتكاثر كالخلايا السرطانية، وكل رقم منها، يعتبر نفسه الرقم واحد الأوحد دون منازع؟!.
لا شكّ أن تجربة الحركة السياسية الكوردية، بشكلٍ أو بآخر، باتت قيد المناقشة وتتصدر صفحات الإعلام الكوردي المرئي والمقروء التقليدي والإلكتروني على منحنيات شبكة المعلومات العالمية “الانترنت”.

وأخذت هذه المراجعات عناوين هامة ومانشيتات عريضة ذات طابع نقدي وموزعة على منحنيين رئيسيين.
الأول، يدعو إلى الدخول في حالة صِدامية عنيفة مع النظام السوري، وذلك برفع مستوى وتيرة النضال، تزامناً مع رفع سقف المطالب وتغيير نبرة الخطاب السياسي الكوردي، بجعلها أكثر راديكالية، بالتعويل، بشكل غير مباشر، على المتغيرات الإقليمية المتسارعة والقوى الكبرى الفاعلة والمؤثرة فيها.
والثاني، يدعو إلى الهدوء وضبط النفس والتروي والتريث، وبالتالي، إلى التغاضي عن مظاهر الاستبداد السياسي والثقافي والاقتصادي بحق الكورد السوريين، وعدم الوقوف في وجه هذا الاستبداد بشكل عملي، والدخول في مغازلة النظام بشكل غير مباشر، والتطبيل والتزمير لبعض الإشارات الصادرة من النظام، وتضخيمها وتفخيمها والتعويل على هذه الإشارات الباهتة، وتدعو إلى التخفيف من إيقاع النضال، الخفيف أصلاً، بحجة العقلانية والواقعية والليبرالية …إلخ، وبالتالي، فقد سقط أصحاب هذا المنحى في فخ تمييع الخطاب السياسي الكوردي، وتحجيم النضال الديمقراطي الكوردي السوري، وجعله رهين الانتظار ولسان حاله السياسي الاستجداء والتوسّل والتسوّل على أبواب الدوائر الأمنية ومؤسساتها.

قد لا يكون لأصحاب هذا المنحى حضورهم اللافت في أروقة الإعلام الكوردي، إلا أنهم يؤثرون في شريحة لا بأس بها من المهتمين بالشأن الكوردي.
المنحنيان الآنفا الذكر يتزاحمان، بشكل عملي، في المسلك السياسي والإعلامي للأحزاب الكوردية السورية، وتعاطيها مع أحداث 12 آذار في الآونة الأخيرة.

فمن الأحزاب من اشتطت به (راديكاليته) إلى حدّ الهروب إلى “القمة”، وأخرى، أخذتها (عقلانيتها) المفرطة إلى حد الميوعة السياسية.

وأعتقد أن كلا الطرفين قدّما خدمات جمّة للشوفينية العربية الحاكمة والمعارضة في سوريا، وأعطتها مبررات ومسوغات سياساتها المريضة، وغذّت أنماط وآليات تفكيرها وعملها السلبي إزاء الحالة الكوردية وقضاياها وإشكالياتها العالقة.

وبالتالي، فقد تقاسمت معظم أحزاب الحركة السياسية الكوردية مع النظام الحاكم معاناة الشارع الكوردي، الذي ينوء تحت أعباء استبداد النظام منذ أربعة عقود.

ولعلّ أهم مظاهر مراوحة الحركة السياسية الكوردية في مكانها، وعجزها عن تغيير الواقع الكوردي السوري المأساوي قيد أنملة، هو تشظيها وتشرذمها وتفتتها غير المبرر، وغير المعقول.

وإن دلَّ ذلك على شيء فإنما يدلُّ على سيطرة الذهنية العشائرية على أدائها السياسي والتنظيمي والجماهيري …إلخ.

وسأحاول في هذا المقال، تسليط بعض الضوء على بعض النقاط والمحاور التي أراها هامة، وإثارة بعض الأسئلة التي تؤرّق الشارع الكوردي، لعليّ أنجح في إماطة اللثام عن بعض الحقائق والوقائع التي يتم تجنب التطرق إليها، والعمل على القفز فوقها بقصد أو بدونه.

الخطاب السياسي الكوردي في سوريا
قبل الخوض في هذا المضمار، لنحاول، أولاً، ضبط مفهوم الخطاب، للتعرُّف على ماهيته، وما ينطوي على مضامين وأبعاد وأشكال …إلخ.
الخطاب هو نص، أو رسالة محررة أو شفوية موجهة من مرسل إلى مستقبل، الهدف منها خلق حالة تواصلية بينهما، تهيئ الأجواء والمناخات المناسبة للتحاور والتداول حول بعض المسائل والإشكالات العالقة بين الطرفين بغية حلَّها وإزالتها، بصرف النظر عن طبيعة وماهية المرسل والمستقبل: أشخاص، أحزاب، هيئات، شرائح اجتماعية، طبقات، دول، شعوب …إلخ.
يحاول المرسل، عبر خطابه، تقديم فكرة أو وجهة نظر معينة، واضحة، إزاء وضع معين أو حالة معينة، على أن تكون هذه الفكرة أو وجهة النظر، هي خلاصة تحليل وتشخيص معمّق لهذه الحالة وطرحها على المُستقبِل، للمشاركة في حلّ، أو وضع حلول ناجعة لقضايا ومسائل هذه الحالة التي يكون المُستقبِل طرفاً في وجودها وبقائها دون حلّ.

ويبقى تفاعل وانسجام المُستقبِل مع الخطاب الموجَّه له متوقفاً على طبيعة الخطاب: عنفي أو لاعنفي، واقعي أو طوباوي، فضلاً عن صياغته ومدى وضوحه وتجاوبه مع مصالح الطرفين المُرسِل والمُستقبِل، بحيث يضمن مصلحة الطرفين.

فالخطاب هو الحاضنة اللغوية لجملة من الرؤى والآراء والمطالب التي يطرحها المُرسل على المُستقبِل بصرف النظر عن ماهية تفاعل الأخير سلباً أو إيجاباً معه.

وكل خطاب، سواء كان سياسياً أم ثقافياً أم فنياً، لا بدَّ أن يستند إلى منظومة قيمية وأخلاقية وفكرية تؤدلج طبيعته وتحدد مساره وأهدافه، كالخطاب الديني السلفي أو التجديدي، والخطاب العلماني: القومي أو الماركسي أو الليبرالي أو الراديكالي …إلخ.
تعرّض الخطاب السياسي الكوردي في سوريا –موضوع مادتنا- لتعرجات ومنعطفات حادة وهامة، شكّلت علامات فارقة في تاريخ الحركة السياسية الكوردية السورية.

فغني عن البيان، القول: إنَّ معظم مؤسسي الحركة الكوردية في سوريا، كانوا من كورد تركيا، كالراحل نور الدين ظاظا، والراحل عثمان صبري، والراحل الشيخ محمد عيسى …إلخ.

ومعظم هؤلاء، عاصروا وشاركوا في الانتفاضات الكوردية في كوردستان تركيا، كانتفاضة الشيخ سعيد بيران عام 1925، وانتفاضة آغري (1924-1930) بقيادة الجنرال إحسان نوري باشا، وانتفاضة ديرسم بقيادة سيّد رضا عام 1938، ناهيكم عن مشاركتهم في تأسيس بعض الجمعيات الثقافية والسياسية الداعمة لهذه الثورات، ومن أبرزها جمعيتي “آزادي” و”خويبون”، وهذا ما يفسّر الزخم الثوري الحاضر بقوة في الشعار الذي تبناه أول تشكيل سياسي كوردي في سوريا عام 1957، وهو شعار “تحرير وتوحيد كوردستان”.

فما لم يستطع الكورد تحقيقه في تركيا، أرادوا إنجازه من سوريا، ولكن هذا الحزب الفتي (الحزب الديمقراطي الكوردي في سوريا- البارتي) سرعان ما اصطدم، بشعاره الكبير، مع معطيات الواقع وحقائقه، بدخوله في المحك والامتحان العملي أوائل الستينيات من القرن المنصرم، على خلفية حملة الاعتقالات الواسعة التي طالت الغالبية العظمى من قيادته، الذين تمت محاكمتهم وسجنهم.

حيث تبنّى الدكتور نور الدين ظاظا وجهة النظر القائلة: إن التنظيم، لم يكن سوى جمعية ثقافية، وليس حزباً سياسياً.

على العكس من عثمان صبري، الذي أصرّ على الهوية السياسية للحزب وشعاره وأهدافه.

وبذلك بدأ الشرخ، أو الصدع الأول والحادّ في بنية التنظيم وخطابه باكراً.

ولقد تعمّق هذا الصدع، تحت تأثير الصدع الذي حدث في الحزب الديمقراطي الكوردستاني في العراق، على خلفية الخلاف الناشب بين الزعيم الراحل الملا مصطفى البارزاني والمكتب السياسي بقيادة إبراهيم أحمد وصهره جلال الطالباني.

واستمرت هذه الشروخ حتى وصلت الحركة إلى ما هي عليه حالياً.
وإذا أجرينا قراءة موجزة وسريعة للبرامج والنظم الداخلية وأهداف الأحزاب الكوردية وشعاراتها، نجدها متشابهة، بل ومتطابقة إلى حدٍّ كبير.

فكل الأحزاب الكوردية مجمعة على تبني «الحقوق القومية والسياسية والثقافية» للكورد في سوريا.

وثمّة مفارقة كبيرة بين ما تردده الفصائل الكوردية مراراً وتكراراً حول كونها أحزاباً وطنية سورية، ولا تدعو إلى الانفصال، وتطالب، في الآن نفسه، بالحقوق القومية للكورد (في) سوريا.
أولاً، حرف الجرّ (في) الموجود في أسماء غالبية الفصائل تجعل من الكورد ضيوفاً طارئين على سوريا، كأنهم جالية، فهم، بالتالي، ليسوا شركاء أصلاء في التكوين السكاني والثقافي والاجتماعي التاريخي لسوريا.
ثانياً، الحقوق القومية لشعب معين تتضمن، قبل كل شيء، حق تقرير المصير في الاستقلال أو الحكم الذاتي …إلخ، وهذا حق مشروع، ومنصوص عنه في كافة المواثيق والشرائع الدولية، ولكن المشكلة تكمن في ما تروِّج له الحركة الكوردية من نبذها للانفصال وتمسكها بالوحدة الوطنية ..إلخ.

وبالتالي فهي أمام خيارين، لا ثالث لهما: إما الإصرار على الحقوق القومية –بما فيها حق الانفصال- بشكل واضح في الخطاب السياسي والإعلامي، انسجاماً مع برامجها وأهدافها وشعاراتها؛ أو التخلي عن المطالبة بالحقوق القومية للكورد في برامجها، ليتجاوب خطابها السياسي مع معطيات الواقع الوطني السوري والقومي الكوردي.
وبما أن عبارة “الحقوق القومية” شعار فضفاض وضبابي قابل للتأويل وخاضع لتفسيرات متعددة، ومختلفة، في حين أن الخطاب السياسي يتعامل مع معطيات الواقع بدقة ووضوح تام، سعياً لتعديل الواقع وتغييره، فمن المستحيل أن يقتنع الآخر العربي (النظام أو المعارضة) بصدق نوايا الحركة الكوردية التي تنبذ الانفصال، وهي ما زالت مستمرة في المطالبة بالحقوق القومية في آن.

خصوصاً، إذا كان هذا الآخر، لا يرغب في الاقتناع (أصلاً) بصدق نوايا الكورد السياسية.

أما الحقوق السياسية فهي تضم طيفاً واسعاً ومتشابكاً ومعقداً من الحقوق في جميع مناحي إدارات الدولة وسلطانها، ابتداءً بمجالس الإدارة المحلية، ومروراً بالسلطة التشريعية وحجم التمثيل النيابي، وانتهاءً بالسلطة التنفيذية وحجم المشاركة فيها…، ناهيكم عن نيابة رئاسة الدولة، اعتماداً على نظام المحاصصة المتبعة في الوزارات والشركات ومؤسسات الدولة …إلخ.

فما هو حجم، أو مساحة، الحقوق السياسية التي يطالب بها أحزابنا الكوردية من النظام الحاكم في سوريا؟.

لا أحد يعلم؛ حتى الأحزاب نفسها!!!
أما بالنسبة للحقوق الثقافية، فعلى الرغم من كونها أخف وطأً على أسماع الذات العربية السورية: الحاكمة أو المعارضة، وأكثر استساغةً لديها من الحقوق القومية والسياسية التي يتحفظ عليها، ويضع تحتها عشرات الخطوط الحمراء (والزرقاء)، أكثر العرب ديمقراطيةً وانفتاحاً وليبراليةً، فهي، كذلك، تشتمل على طيف واسع من الممارسات والتطبيقات ذات المنحى الثقافي والإعلامي والفردي والجماعي، ضمن أطر وهيكليات يحددها الدستور.

والجدير ذكره هنا، أن الحقوق الثقافية والمطالبة بها وممارستها تنطوي على أبعاد ودلالات سياسية قومية ووطنية، يمكنها أن تكشف حقيقة الهامش الديمقراطي في سوريا.

فالحقوق الثقافية، التي هي ثالث الأولويات التي ينبني عليها الخطاب الحزبي الكوردي السوري، كذلك يشوبها الغموض، ويفتح الباب أمام جملة من التفسيرات والتأويلات المتعددة، لكونها غير محددة الملامح، وغير مضبوطة ضمن إطار واضح من المطالب المذكورة بدقة.

فهل المقصود من الحقوق الثقافية جعل اللغة الكوردية اللغة الرسمية الثانية في البلاد؟ أم جعلها تدرّس في جميع مدارس ومعاهد وجامعات سوريا؟ أم أن يقتصر تدريسها على المناطق الكوردية فقط، بدعمٍ حكومي من وزارتي التربية والتعليم العالي؟ أم الاكتفاء بإقامة مدارس ومعاهد أهلية خاصة تقوم بهذه الوظيفة بعد منحها تراخيص قانونية؟ أم أن المقصود بالحقوق الثقافية –لدينا طبعاً- هو تأسيس وإقامة جمعيات وروابط ثقافية أو نوادي وصالونات أدبية تعنى بإحياء ونشر الثقافة الكوردية داخل وخارج سوريا؟.

فهل تطالب الأحزاب الكوردية بهذا كله، أم ببعض منها، أم ماذا؟
وهناك كمّ كبير من الأسئلة التي تطرح نفسها بإلحاح على الأحزاب الكوردية:
فمن يطالب بحق تقرير المصير للكورد السوريين، كحزب الاتحاد الشعبي الكوردي في سوريا مثلاً، (المقال مكتوب قبل تأسيس حزب آزادي، حاصل عملة الجمع بين الاتحاد الشعبي وحزب اليسار، جناح خيرالدين مراد)، هل باستطاعته تنظيم وإدارة دولة مستقلة؟ وما هو حجم الكفاءات السياسية والاقتصادية الموجودة لديه، لكي يكون مؤهلاً للقيام بذلك؟
وإذا افترضنا –وافتراض المحال ليس من المحال- حدوث انقلاب (كوني) في بنية العقل القوموي البعثي الحاكم والمعارض، وآمن بحق تقرير الكورد السوريين لمصيرهم بحرية واستقلالية، وقبل بانفصال جزء من سوريا، ليقيم عليها الكورد دولتهم –طبعاً بعد موافقة الدول الإقليمية والأسرة الدولية بذلك- وبالتالي، يتحقق للحزب المذكور ما يرمي ويصبو إليه، وتحت قيادة مؤسسه ومرشده الروحي الأستاذ صلاح بدر الدين (المستقيل) منه، والذي كان حتى الأمس القريب جداً، زعيماً ومناضلاً (كوردياً سورياً) على نفقة الدكتاتور البائد صدام حسين، وحالياً على نفقة البارزاني الابن، فهل هيّأ هذا الحزب، وزعيمه الملهم، مشروعاً متكاملاً ومخططات مدروسة بعناية لإدارة الدولة الكوردية المفترضة: كيف سيكون شكلها؟ ومن سيتولى إدارتها: السيد بدر الدين أم المنشق عليه الأستاذ فؤاد عليكو، الذي يدير حزب يكيتي الكوردي من خلف الكواليس، بعد وضع السيد عبد الباقي يوسف واجهة أو ديكوراً سياسياً في حركة مكشوفة، يراد بها الالتفاف على الواقع؟!.

وإذا ما فتح النظام السوري قلبه وذراعيه للكورد السوريين، وتفهم مطالبهم وحقوقهم الثقافية والسياسية كاملة – وهذا أيضاً من رابع وخامس وعاشر المستحيلات حالياً- التي من ضمنها أن يكون أحد نواب رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء من الكورد، كما في العراق حالياً، فضلاً عن المسائل الأخرى، التي تشتمل على كامل الحقوق؛ فبالله عليكم! مَنْ مِنْ رموز وزعماء وقيادات الأحزاب الكوردية الحالية مؤهل لتبوّأ المناصب الآنفة الذكر؟ في حين أنها غير قادرة على إدارة أحزابها المتواضعة، كماً وكيفاً، والإيفاء باستحقاقات النضال السياسي وتفعيله، فكيف لها أن تكون مهيئة للعب دور هام في صياغة المعادلة السياسية السورية وضبطها وصيانتها، ناهيكم عن صناعة القرار السياسي والاقتصادي في سوريا، ضمن مناخ ديمقراطي مفترض (يخلقه) البعث.
ثمّ إذا كانت الحركة السياسية الكوردية في سوريا حركة وطنية، وهي كذلك، فلماذا تتحسس من النشيد الوطني السوري في المناسبات والحفلات والأعياد القومية التي تشرف عليها، كعيد نوروز مثلاً؟ ولماذا لا ترفع العلم السوري في نشاطاتها الجماهيرية داخل سوريا وخارجها، وتمنح، بالتالي، للشوفينية العربية السورية المبررات الكافية للطعن في مصداقية وولاء الحركة السياسية الكوردية الوطني لسوريا؟
وماذا إذا وافق النظام السوري على منح الكورد حقوقهم الثقافية قائلاً: “تعالوا ومارسوا حقوقكم الثقافية، وسنقوم بسنّ التشريعات والقوانين التي تضمن لكم هذه الحقوق دستورياً، وسندعم المشاريع التي ترونها مناسبة”؛ فهل تمتلك الحركة الكوردية كفاءات وخبرات قادرة على الإعداد لهكذا مشاريع وإدراتها؟ وما حجم الدعم المادي والمعنوي الذي وفرته هذه الحركة لتنشيط الحياة الثقافية الكوردية السورية؟ ترى، كم من رموز وقيادات الحركة الكوردية، حالياً، يجيدون القراءة والكتابة باللغة الأم، بطلاقة؟
على ضوء ما تقدّم، يتضح أن الخطاب السياسي الكوردي السوري قائم على شعارات ضخمة وفضفاضة ومطاطية، مبهمة وغير واضحة الملامح.

وبالتالي، فالخطاب غير مضبوط بمطالب محددة وواضحة وواقعية، تتماشى وتنسجم مع واقع الحركة الكوردية ورصيدها العملي والعلمي والخبراتي الهزيل، مع الأسف الشديد.

وهذا ما يتيح للشوفينية، داخل النظام والمعارضة السورية على السواء، الاستخفاف بمعاناة الكورد السوريين والقفز على حقوقه ومطالبه الديمقراطية المشروعة، والتهرب، بالتالي، والتنصّل من أي دعم ديمقراطي يقدمونه لمطالب الكورد السوريين، ناهيكم عن القطاعات والشرائح الواسعة التي لم يستطع الخطاب السياسي الكوردي الوصول إليها، بحيث بقيت جاهلة تماماً بحقائق الحالة الكوردية، لتستمرّ بتبني الفكرة المشوهة التي بناها النظام حيال الكورد بشكل عام، والكورد السوريين على وجه الخصوص.

أو أن تخضع لذهنية النظام حيال الواقع الكوردي السوري ومفرزاته وقضاياه وإشكالاته، لتبقى بعيدة، كل البعد، عما يمارس بحقّ الكورد منذ عقود.

وهنا نصل إلى عدة نتائج، لعلّ أبرزها:
أولاً- ما تطالب به الحركة الكوردية السورية في خطابها السياسي من النظام السوري، لا ينسجم مع ما تمتلكه من كفاءات وخبرات تؤهلها لإدارة هذه المطالب، في حال تحققها.

وبالتالي، فهذه المطالب تتجاوز، بكثير، المقدرات الفكرية والسياسية والثقافية والعلمية لهذه الحركة.
ثانياً- لا يزال الخطاب السياسي للحركة الكوردية السورية أسير النزعة الطوباوية والارتجالية والانفعالية، البعيدة عن معطيات الواقع وتحدياته، وطنياً وإقليمياً.

هذه النزعة التي وسمت الحركة الكوردية، بشكل أو بآخر، منذ بداياتها وحتى الآن.
ثالثاً- لا يزال الوعي السياسي لدى الساسة الكورد السوريين، داخل الحركة وخارجها، والتوجه العام لأنساق وأنماط التفكير، كوردستانياً أكثر منه سورياً.

وبالتالي، يستشفُّ من خطاب الحركة الكوردية ونشاطها السياسي، أنها ترى عمقها الاستراتيجي في كوردستان وليس في سوريا.
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن، هنا، والمطروح على كافة الساسة والمهتمين بالشأن السياسي الكوردي السوري: ماذا لو تحقق لكورد العراق دولة مستقلة بمباركة إقليمية ودولية؟ هل ستدافع هذه الدولة الوليدة، ونظامها الحاكم، عن حقوق الكورد السوريين بكل الإمكانات المتاحة، مضحيةً بعلاقاتها مع النظام السوري في هذا السبيل، كما تفعل تركيا فيما يخصّ حقوق التركمان في العراق، أو وفق النهج الباكستاني في قضية كشمير؟
بل حتى، إن تمّ استقرار الوضع الحالي –الفيدرالي- لكورد العراق، فما هو حجم الدعم السياسي الذي سيقدمونه للكورد السوريين؟
وربما السؤال الأكثر إرباكاً وإحراجاً، لي ولغيري، هو: هل يبادلنا الكورد في تركيا وإيران، والعراق خاصةً، المشاعر نفسها، والانتماء الوجداني الكوردي نفسه؟ أعني؛ هل يشعر الكوردي العراقي والتركي والإيراني بالانتماء المشترك مع الكورد السوريين؟

الإنتاج الثقافي للحركة الكوردية السورية:
بعد مرور قرابة نصف قرن على انطلاقة الحركة الكوردية في سوريا، ما هو حجم الإرث الثقافي الذي خلّفته هذه الحركة؟
هل أنجبت رجال فكر؟ وما هي الأسماء الهامة في حقول الفن والفكر والإبداع، باستثناء الشاعر “جكرخوين”، الذي كان “جكرخويناً” قبل ولادة الحركة الكوردية؟
هل يمكن اعتبار اليوميات التي يعكف عليها الرعيل الأول (المؤسس)، والثاني، للحركة الكوردية، منتوجاً ثقافياً ذا عمق فكري؟ هل يعدّ فكراً سياسياً؟
أعتقد أن الإجابة على هذه الأسئلة لا يحتاج إلى الكثير من التعمق والتدقيق والتمحيص والمراجعة لمجمل نتاج رموز الحركة، لنصل إلى نتيجة مؤداها أنه لا يوجد فكر سياسي كوردي سوري، بكل المقاييس المعرفية والعلمية الأكاديمية.
ربما الاسم الأكثر حضوراً، من بين الساسة الكورد، على الساحتين الثقافية والإعلامية، هو الأستاذ صلاح بدر الدين، ولكن، على الرغم من جهوده الكبيرة في هذين المضمارين، فلا يمكن –في أحسن الأحوال- اعتباره مشروع مفكّر.
كتب الأستاذ بدر الدين في العولمة، ونقد الحركة الكوردية من الداخل، وها هو الأن، ينظّر في “البارزانيزم”، التي كان على خلاف وعداء شديدين معها إبان منتصف الستينيات والسبعينيات!!!.

كما أن حضوره الملفت، وشبه اليومي، على صفحات الإعلام الكوردي المقروء: التقليدي والإلكتروني، جعلت كتاباته ذات طابع صحفي- استهلاكي، وتفتقر، بالتالي، إلى العمق الفكري، البحثي، التحليلي والمنهجي.

فلم تخرج مقالاته، وكتاباته الأخيرة خاصةً، من إطار مقالات “الإكسبرس”، كالوجبات السريعة، المناسبة للاستهلاك اليومي.
ثمة نقطة هامة، وينبغي الإشارة إليها، أثناء المرور على إنتاج بدر الدين السياسي والثقافي، وهي أنه لم يستطع التخلص من عقدة (PKK)، والموقف العدائي الذي يقفه ضدّ هذه الحركة طوال هذه السنين!.

فالسيد بدر الدين لم يدّخر جهداً –كلما سنحت له الفرصة- في التعبير عن هذا الموقف العدائي لـ (PKK) والتهجم عليه.

كما لا يخفى على أحد دوره السلبي، أثناء الخلافات الناشبة بين PKK و PDK.

وعلى سبيل المثال، لا الحصر، عن مقالاته “الإكسبريسية”، والتي تنم عن عدائه الواضح لتجربة PKK، المقال الذي نشره في موقع www.efrin.net ، من أجل تهنئة المناضلتين “ليلى زانا” و “فلك ناس أوجا”، الأولى لخروجها من سجن الفاشية التركية، والثانية لنجاحها في الحصول على عضوية البرلمان الأوروبي للمرة الثانية، حيث يثني على الاثنتين، ويطالبهن بمراجعة حساباتهن مع الماضي.

والسيد بدر الدين يقصد، بذلك، علاقتهن مع PKK.

فما علاقة التهنئة والثناء مع مطالبته إياهن بإعادة النظر في ماضيهن المشرّف، الذي أسس للحاضر بطبيعة الحال، هذا الماضي، الذي لا تزال المناضلتان تصران على متابعته وإتمامه.

كما لا يمكن أن نعتبر نتاج كل من المناضلين الراحلين: الدكتور نور الدين ظاظا وعثمان صبري تأسيساً لمشروع فكري.

لا شك أنهما يمتلكان رؤى فكرية متضادة، حيث أن الدكتور ظاظا كان ليبرالياً، وعثمان صبري راديكالياً، ولكن لا يمكن أن نجازف بالقول عنهما أنهما مفكران، بما تحمله الكلمة من استحقاق معرفي أو أكاديمي.


كما أننا لم نسمع، حتى الآن، أن الأستاذ عبد الحميد درويش قد أضاف للمكتبة الكوردية أو العربية مؤلفاً ذا صبغة فكرية، عدا عن مذكراته وكراسه عن الجزيرة السورية، والأمر نفسه ينطبق على كل من الأساتذة إسماعيل عمر وفؤاد عليكو وخير الدين مراد وجمال محمود ومحمد موسى ونصر الدين إبراهيم …إلخ
والسؤال الذي يطرح نفسه، بإلحاح، هو: لماذا أتت الأسماء الهامة في حقول الإبداع والفن والبحث النقدي، مثل: سليم بركات، بشار العيسى، أحمد الحسيني، إبراهيم محمود، محمد شيخو، إبراهيم اليوسف، طه خليل …إلخ، والذين كان لهم بصمتهم وتأثيرهم في الثقافتين العربية والكوردية، من خارج إطار الحركة السياسية الكوردية؟
أعتقد أن نتاج الأستاذ إبراهيم محمود –بغضّ النظر عن الاختلاف أو الاتفاق معه- من بحثٍ وتأليف وترجمة، يشكل بداية حقيقية، تؤهله ليكون مشروع مفكر وباحث مهم في النقد الأدبي والفكري.

كما يمكن اعتبار نتاجه متجاوزاً ومتخطياً لمجمل ما أنتجه أعلام ورموز الحركة السياسية الكوردية السورية، عمقاً وتأثيراً، على الثقافتين الكوردية والسورية، منذ تأسيس الحركة الكوردية السورية وحتى الآن.
وإذا ما أجرينا هذه المقاربات بين الأسماء، وأخضعناها لعملية تفاضلية، ثقافياً، وإذا ما كان الشاعر أحمد الحسيني يلقي بعضاً من أشعاره في غرفةٍ تجاور أخرى، يلقي فيها الأستاذ إسماعيل عمر، مثلاً، خطبة سياسية، فلمن سيتجه السواد الأعظم من الحاضرين؟
وإذا أقام الفنان بشار العيسى معرضاً فنياً، بالتزامن مع ندوة للأستاذ عبد الحميد درويش، فأين سنجد معظم الشباب الكورد؟
شخصياً، أفضل التحليق مع الكلمات الحسيني، وألوان العيسى، بدلاً من الاستماع إلى أسطوانة اعتدنا على سماعها منذ عقود.

وأعتقد أن هنالك الكثير ممن يشاطرونني هذا الموقف، مع احترامي للذين قد يفضلون الخيارات الأخرى.

وأعزو هذا الضمور الفظيع للمعطى الثقافي للحركة الكوردية السورية لعدة أسباب أهمها:
1- ثقافة الشقاق المتفشية فيها، والناجمة عن الذهنية العشائرية المسيطرة على آليات تفكيرها ومسلكها السياسي.
2- انعدام النقد السياسي للحركة الكوردية من داخلها وخارجها.

هذا النقد الكوردي- الكوردي، الذي من شأنه تقييم التجربة وتصحيح وتقويم مسارها النظري والعملي على الصعيدين القومي والوطني.
3- افتقار قطاعات واسعة من كوادرها القيادية المتقدمة إلى الوعي السياسي، المستند على أسس علمية ومعرفية تؤهلهم للقيام بأعمالهم ومهامهم.

وبالتالي، ولادة شخصيات قيادية مبدعة في الفكر والسياسة.
4- سيطرة طبقة سياسية تقليدية على الحركة الكوردية، تكبح وتصادر الرأي الآخر داخل الحركة.
5- ضعف الوعي السياسي على حساب تنامي الشعور القومي لدى شرائح واسعة من الشعب الكوردي في سوريا، وهذا بدوره، تتحمل مسؤوليته الحركة الكوردية مناصفةً مع النظام السوري.
الدور السلبي الذي لعبه النظام السوري في تدمير مكونات وبنى المجتمع والدولة في سوريا، وما أحدثته من إتلاف وتشويه في الفكر والسياسة والثقافة والاقتصاد …إلخ، في المجتمع الكوردي خصوصاً، والسوري عموماً، إلى درجةٍ أصبحت فيها المعارضة السياسية للنظام الحاكم –ومنها الحركة الكوردية- صورة مستنسخة ومصغرة للنظام.

وبالتالي، تحولها إلى صدى أو رد فعل عكسي للنظام.

فليس غريباً أو مستبعداً أن نعثر على الموروث البعثي في فكر وعمل الأحزاب الكوردية.

الحركة السياسية الكوردية السورية وثقافة الشقاق
إذا تتبعنا تجربة الحركة السياسية الكوردية السورية، وخصوصاً منذ سبعينيات القرن المنصرم وحتى الآن، نخلص إلى نتيجة مؤداها: أنَّ حالة الانشطار العشوائي والتشظي السياسي –إن صحَّ التعبير- التي تعاني منها الحركة الكوردية، إنما ناجمة عن عجزها عن إدارة أزماتها الداخلية، وبالتالي، فما حالة الشقاق المعششة حتى النخاع، إلا ترجمة لحلولها (المنطقية) لخلافاتها السياسية البسيطة، والشخصية عموماً.

وما يؤكد هذه النتيجة هو التشابه، بل التطابق، بين برامج ونظم وأهداف كافة الفصائل المشكلة للحركة الكوردية، فضلاً عن أسمائها وتوجهاتها العامة.
لقد اعتدنا أن يفسّر بعض رموز الحركة الكوردية السورية هذه الحالة الكارثية، بأنها نتيجة المناخات والأجواء الحرة التي تتميز بها الحركة، وكونها تعكس النَفَس الديمقراطي لها!!
كيف يمكن اعتبار التشرذم والشقاق والتآكل الداخلي من تجليات الديمقراطية، وعلى أنها حالة صحية: سياسياً وثقافياً، مع انعدام وجود أي نوع من التباين والاختلاف الفكري الجوهري بين السياسات والأهداف والبرامج التي تتبناها الأطراف المنشقة على بعضها؟!
لأن الاختلاف الشرعي والصحي سياسياً وفكرياً، والذي يعكس وجود حالة ديمقراطية، مشروط بوجود اعتراف كامل بين الأطراف، ببعضها بعضاً، لكي لا يتحول الاختلاف إلى خلاف، كما يحصل في الحركة السياسية الكوردية السورية.

والأكثر إثارةً للدهشة والاستغراب والأسف في آن، هو أنَّ كل حزب كوردي يدعو إلى وحدة الحركة الكوردية، ورصّ الصفوف، وحشد الطاقات، فور انشقاقه!!!
تضم الحركة الكوردية حزبين يساريين، وحزبين [بارتيين]، وحزبين تقدميين، وأربعة أحزاب وحدوية: الاتحاد الشعبي، الاتحاد الديمقراطي، حزب الوحدة- يكيتي، حزب يكيتي الكوردي.

يبلغ تعدادها 12 حزباً موزعة، بالتساوي، على تشكيلين سياسيين، حيث توجد أربعة أحزاب في التحالف الديمقراطي الكوردي في سوريا، وأربعة أخرى في الجبهة الديمقراطية الكوردية في سوريا، وأربعة أخرى خارج التشكيلين.
ثمانية أحزاب تحمل في مسمياتها كلمة “ديمقراطية”، وتشترك الأخرى، التي لا تحوي أسماءها هذه الكلمة، في مطالبة النظام بتحقيق الديمقراطية والعدالة والانفتاح والإصلاح والحوار والاعتراف بالآخر …إلخ.

ومعظم هذه الأحزاب –إن لم يكن كلها- لا تمتلك أي إرث ديمقراطي أو ثقافة ديمقراطية، يخولها توجيه النقد إلى النظام السوري، واتهامه بالشمولية أو الديكتاتورية أو الاستبداد، من باب أن «فاقد الشيء لا يعطيه».
ولو لم تأتِ انتفاضة آذار وتبعاتها، لبقيت أحزاب الجبهة الكوردية ترفض الاجتماع بأحزاب التحالف الكوردي، أو حتى التوقيع على بيان مشترك، ولبقي يسار خير الدين مراد يرفض الاعتراف بيسارية محمد موسى، مدعياً أنه يمثل اليسار الشرعي، متهماً الآخر باللاشرعية، والعكس صحيح.

ولبقي [بارتي] نذير مصطفى يهاجم [بارتي] نصر الدين إبراهيم، ويزاحمه على كسب صك شرعيته من الحزب الديمقراطي الكوردستاني العراقي، والعكس صحيح كذلك.

ولبقي [يكيتي] فؤاد عليكو يزداد [راديكاليةً] على حساب [إصلاحية] إسماعيل عمر، ولاستمرت كل الأحزاب في رفض حزب الاتحاد الديمقراطي، لكونه قادماً من خنادق PKK، متهمةً إياه باللاوطنية واللاسورية، ومرتبطاً مع الخارج، ويقصدون هنا مؤتمر الشعب الكوردستاني (Kongera Gel)، متناسين أن الاتحاد الشعبي كان حزباً سورياً على نفقة البعث العراقي البائد، وأن طرفا اليسار وطرفا التقدمي يتهافتون على موائد الاتحاد الوطني الكوردستاني العراقي، وأنَّ طرفا (البارتي) يعتبران الديمقراطي الكوردستاني العراقي مرجعيتهم الآيديولوجية والسياسية والنضالية، وأن الأحزاب الباقية تتأرجح بين الحزبين المذكورين، حسبما تقتضيه الظروف والمصالح.
ثمة نقطة هامة ينبغي الإشارة إليها، لكونها توحي بوجود إشكالية في أسماء بعض فصائل الحركة الكوردية السورية، مثل: (حزب “يكيتي” الكوردي في سوريا)، فمن المعروف أن كلمة “يكيتي” هل كلمة كوردية صرفة، وتعني “الوحدة” أو “الاتحاد” بالعربية، فهل استخدام الكلمة الكوردية في اسم الحزب للدلالة على كورديته؟ فلماذا، إذاً، تمّ إرفاقها بكلمة “الكوردي”؟ أزيادةً في تأكيد كوردية الحزب؟ وماذا لو كان اسم الحزب: “حزب يكيتي السوري”، فهل ستتبخر كوردية الحزب في هذه الحالة؟ أو لو كان الاسم هو (حزب الوحدة “أو الاتحاد” الكوردي السوري)، فهل سيقلل ذلك من كوردية الحزب؟ فما هو السرّ الكامن وراء الجرعة الكوردية الزائدة عن الحد المطلوب في انتقاء هذا الاسم من قبل القيمين على تأسيسه وإدارته؟! والأمر نفسه ينطبق على حزب الوحدة الديمقراطي الكوردي في سوريا (يكيتي).
أما بالنسبة لاسم الحزب الديمقراطي الكوردي في سوريا (البارتي)، فما الذي تضيفه كلمة “البارتي” التي تعني “الحزب”، إلى توجه الحزب وهويته القومية والوطنية؟ فلو وضعنا ترجمة كلمة “البارتي” في مكانها، لحصلنا على الاسم التالي: الحزب الديمقراطي الكوردي في سوريا (الحزب)، فلو حذفنا الكلمة الأخيرة، هل سيتغير شيء من هوية الحزب القومية والوطنية؟ فما السرّ الكامن وراء الإبقاء على هذه الكلمة اللاحقة، والتي ترافق اسم الحزب لمدة نصف قرن تقريباً؟ هل هو نوع من الفلكلور السياسي المتوارث والمعتمد، والذي لا يجوز تجاوزه؟ أم هو وشم سياسي للتمايز عن الأحزاب الأخرى، فلا يمكن إزالته؟ أم ماذا؟؟
ثمة نقاط ينبغي التطرّق إليها، ولو بإيجاز، لعل أبرزها هي إشكالية التأبيد والتوريث في قيادات الأحزاب، فمنذ أربعين عاماً، أو يزيد، والأستاذ عبد الحميد درويش هو الأمين العام للحزب الديمقراطي التقدمي في سوريا، وبحسب ما يتسرب من معلومات، فإن الأستاذ درويش بصدد تهيئة أخيه صلاح درويش لخلافته في قيادة الحزب، نظراً لعدم وجود أولاد ذكور، للزعيم التقدمي العتيد.

والأمر نفسه بالنسبة للأستاذ إسماعيل عمر، الذي كان لمدة طويلة سكرتيراً لحزبه، حيث أصبح أميناً عاماً بعد أن ترك منصب السكرتارية لـ(شيخ آلي).

أما بالنسبة لاستقالة الأستاذ صلاح بدر الدين من حزبه في الوقت بدل الضائع (المستقطع)، لكي يجنب حزبه فضيحة استمرار علاقاته مع نظام صدام حسين المخلوع، حتى قبل زواله بعدة أشهر، وهذا حسب ما ذكرته بعض المصادر التي رفضت الكشف عن اسمها في الاتحاد الوطني الكوردستاني، بخصوص طبيعة تلك العلاقات، المدعومة بالوثائق، التي تثبت حجم المبالغ المالية التي قبضها بدر الدين من الأمن الصدامي، بالأرقام والتواريخ، حيث وضع الاتحاد الوطني الكوردستاني هذه الوثائق أثناء مداهمة قواتها لمقرّ الأمن البعثي في الموصل، على طاولة السيد مسعود البارزاني، وإلا فلماذا تأخرت استقالة بدر الدين عن رئاسة حزبه كل هذه العقود المتتالية؟ أم أن النخوة والمروءة السياسية واتته فجأةً، لكي يترك المجال لغيره؟
أما ما يشاع، هنا وهناك، عن أن زيداً أو عمرواً، من قيادات الحركة الكوردية، قد قدّم استقالته، ولكن مؤتمر الحزب رفضها، مجدداً بيعته (للزعيم) بإجماع 99.99 صوتاً، فلا يعدو عن كونه مجرد افتراء على الواقع، وسيناريو مبتذل لمسرحية هزلية تبكي أكثر مما تضحك.
وربما كان من أهم تبعات انتفاضة 12 آذار في سوريا، معرفة عمق الهوّة التي تفصل الحركة الكوردية عن الشارع الكوردي ومزاجه العام، كاشفةً بذلك عن عجز هذه القيادات عن إدارة الأزمات الطارئة التي قد تلمّ بالكورد خصوصاً، وبسوريا على وجه العموم.

فقد اتضح، بما لا يترك مجالاً للشكّ، كيف تخطّى الشارع الكوردي انقسامات حركته السياسية، وتجاوز تقهقرها وركودها السياسي، بعفويته المضطربة، التي جرّت على الانتفاضة عواقب سلبية ووخيمة، من جراء العبث والطيش والانفلات الجماهيري، أفقدتها بعض مضامينها الوطنية، بالإضافة إلى هرولة الحركة السياسية وراء الشارع الجامح، مما قادها إلى التهافت على الدوائر الأمنية السورية، لتقدم صكوك براءتها من الحدث، للحصول على شهادات حسن السلوك الوطني، وما قرارها بجعل 21 آذار يوم حداد على شهداء الانتفاضة، وإلغاء احتفال نوروز، إلا كميناً سياسياً، اشتركت فيه الحركة الكوردية، بتخطيط وإيعاز الدوائر الأمنية، ليقع فيه من يرفض ذلك، وتحميله، بالتالي، مسؤولية أحداث 12 آذار، لتبقى الأحزاب التي خضعت لهذا القرار خارج دوائر الاتهام الأمني.

وبالتالي، فالقرار كان أمنياً، والأداة المنفذة كانت الحركة الكوردية، مع الأسف.

مما أدى إلى سقوط الاتحاد الديمقراطي في الفخ، وتمّ اعتباره خارج (الإجماع) القومي والوطني، في إيحاء عن مسؤوليته عن الأحداث، خصوصاً أن لمعظم كوارده خبرة تنظيمية قوية، بسبب مشاركتهم في ثورة حزب العمال الكوردستاني في تركيا.

وما يؤكد اعتقادي هذا هو: لماذا لم تعلن الحركة الكوردية يوم 21 آذار عام 1988 يوم حداد على مجزرة حلبجة؟ أو سنة 1991 على خلفية الانتفاضة المليونية في كوردستان العراق، خصوصاً أن مرجعية الحركة الكوردية في سوريا: PDK, PUK، قد احتفلا بالعيد على الرغم من العملية الإرهابية التي استهدفتهما، صبيحة العيد في شباط 2004 في هولير (أربيل)، وراح ضحيتها أكثر من 200 شهيد!!!
ومن ناحية أخرى، لا بدَّ من الإشارة إلى انصياع الحركة الكوردية لتعليمات الأمن السوري، وذلك من خلال تذمر معظم فصائل الحركة الكوردية السورية من تغطية فضائية ROJ-tv لأحداث الانتفاضة، واعتبارها أداءً سلبياً، محرضاً على العنف، …إلخ، علماً أن معظم قيادات الحركة الكوردية السورية، من الدرجة الأولى والثانية والعاشرة، كانت تتهافت على المشاركة في برامجها الحية المعنية بتغطية الأحداث.

ولقد فتحت هذه القناة أبوابها أمامهم، ولم تبدِ أي تحفظ على أي تيار، ومن يمثله من المشاركين في برامجها، لتتخذ تلك القيادات من القناة منبراً لتصريحاتها وبياناتها وتحليلاتها وآرائها، التي أقل ما يمكن أن يُقال عنها بأنها كانت نارية.

والجدير ذكره، هنا، هو أن مشاركات ومساهمات قيادات الحركة الكوردية في برامج هذه الفضائية، تبلغ أضعاف مشاركات المقربين منها، وأعني حزب الاتحاد الديمقراطي.
بطبيعة الحال، لا يمكن الادّعاء أن أداء ROJ-tv كان حيادياً وموضوعياً ودقيقاً، بل كانت هناك بعض السلبيات في أداء القناة الإعلامي، مرده إغلاق النظام السوري للمنطقة في وجه الإعلاميين من جهة، وكون معظم مصادر الخبر والتحليل والتعليق كانت قيادات الحركة الكردية.

ولقد سرّبت بعض المصادر الموثوقة في الحركة الكردية أنَّ بعض الفصائل كانت مزمعة على إصدار بيان شجب وتنديد لأداء فضائية ROJ-tv، لكنها عدلت عن ذلك تخوفاً من الحرج أو الفضيحة، التي ربما يسببه لها البيان.

والجدير ذكره، هنا، هو أن هذا الرأي أو الموقف كان متزامناً ومتقاطعاً مع ما تقوله الأجهزة الأمنية للمعتقلين من مؤيدي الاتحاد الديمقراطي عن تذمرها من مسلك ROJ-Tv الإعلامي قبل أحداث 12 آذار وبعدها، فيا محاسن الصدف!!!

الحركة السياسية الكردية وضرورات الإصلاح
لعل موضوعة الإصلاح والتغيير هي الأكثر تداولاً في الأوساط السياسية الكردية السورية، والأكثر تناولاً على صفحات وجرائد ومجلات الحركة الكردية بحيث خصصت لها أعمدة وزوايا متعددة.

وما تزال هذه الموضوعة هي الشغل الشاغل للحركة الكردية على الصعيد النظري كنوع من التماشي والتماهي مع روح العصر واستحقاقاته، وكنوع من أكثر تقليعات الموضة السياسية رواجاً هذه الأيام.

والحقّ أن معظم رموز الحركة الكردية السورية ينبرون متبارين في التنظير عن الإصلاح وضروراته الحيوية والتاريخية والحضارية وتجلياته ونتائجه، وبالإضافة إلى ذكر مخاطر ومهالك العزوف عن القيام بعملية الإصلاح التي يتهرب منها النظام السوري، أو تبعات تأجيل الإصلاح محلياً وإقليمياً …إلخ.

وكأن بيَّ أن الحركة السياسية الكردية السورية قد أنجزت إصلاحاً جذرياً، أو قطعت شوطاً كبيراً في ذلك: سياسياً وفكرياً وإدارياً وإعلامياً، وقد سبقت النظام السوري في عملية الإصلاح، وباتت حركة معافاة سياسياً وإدارياً وذهنياً، حتى تعطي الدروس والمواعظ في هذا المضمار.
ويتبادر إلى ذهني هنا، عندما كان حزب العمال الكردستاني –في عزّ مدّه الثوري- يصف أحزاب الحركة الكردية السورية بأنها (إصلاحية) على اعتبار أن PKK كان يقود كفاحاً مسلحاً، ويمتلك قاعدة جماهيرية هائلة، ويتبنى مشاريع وأهدافاً كبرى.

وأعتقد أن هذا التوصيف، أي الإصلاحي، الذي نعتت به PKK أحزاب الحركة الكردية السورية، هو كبير عليها.

والذي يؤكد ذلك، هو أن هذه الحركة، ومنذ تأسيسها عام 1957 وحتى الآن، لم تخطُ أية خطوة جدية نحو الإصلاح والتغيير والتجديد على كافة الصعد، على العكس من ذلك.

فهي تسير من سيئ إلى أسوأ، ولسان حالها التخبط والمراوحة في المكان والدوران في حلقة مفرغة …إلخ.

لأنه لا يمكن اعتبار بعض النشاطات العملية الزهيدة والخجولة والمتأخرة (مظاهرات، اعتصامات)، والتي تبنتها بعض الأحزاب، ولم تجمع عليها الأحزاب كلها، نوعاً من الإصلاح السياسي، لأن هذه النشاطات هي من صلب أولويات واستحقاقات النضال السلمي الديمقراطي، الذي تتشدَّق به الحركة الكردية منذ نصف قرن.

كل ما في الأمر هو أن الحركة الكردية قد أخرجت بعض أهم وأنجع أساليب النشاط السلمي السياسي من بين ملفات النسيان، ومن غرفة الإنعاش بحذر وبتخوف شديد، لا على الشارع الكردي، بل على نفسها.

فحتى منظمات المجتمع المدني المدافعة عن حقوق الحيوان والبيئة، أو المناهضة للعولمة هي أكثر نشاطاً من أحزابنا الكردية ذات الرصيد الزهيد، غير المتناسب مع وتيرة خطابها السياسي المطالب بالحقوق القومية والسياسية والثقافية للكرد السوريين.
أعتقد أن حركتنا السياسية الكردية أمام استحقاقين يخلصانها من حالة ازدواجية الفعل السياسي بين النظرية والتطبيق:
الأول- تخفيض سقف أهدافها ومطالبها، المدرجة في برامجها، والمعبَّر عنها في خطابها السياسي إلى حدٍّ يتناسب وحجم نشاطاتها الجماهيرية المناسباتية المحدودة كماً ونوعاً.
الثاني- رفع مستوى ووتيرة النشاط الجماهيري العلني الديمقراطي، وتوسيع دائرتها وعدم اقتصارها على العاصمة، وإقامتها بشكل دوري مستمر، لكي يصبح نشاطها مساوياً وموازياً لخطابها السياسي، ولتشكل، بذلك، ثقلاً ووزناً سياسياً كردياً على الساحة السورية والعالمية.

وبالتالي، إحراج النظام السوري أمام الرأي العام العالمي وجعله يراجع حساباته إزاء الحالة الكردية، واعتبار الكرد مخاطباً رسمياً، وشريكاً يناصفها حل المسألة الكردية في سوريا.

طبعاً، لن يحدث ذلك إلا بعد أن يجري الطرفان: النظام السوري والحركة الكردية، ثورةً ذهنية تشمل كافة مؤسسات ومكونات الدولة والمجتمع السوري، وطي صفحة الماضي، والدخول في مرحلة دولة المؤسسات والقانون لكل أبنائها.
الجدير ذكره هنا، هو أن حزب العمال الكردستاني كان أول الحركات والنظم في الشرق الأوسط، التي قامت بعملية إصلاح داخلي على صعيد البرامج والأهداف، ودفعت فاتورة ذلك: سياسياً وجماهيرياً، وخاضت مخاضات داخلية كبيرة، وتعرضت لهجمات واتهامات ما أنزل الله بها من سلطان من قبل الحركة الكردية السورية، التي أسمت هذا التحول السياسي بـ[الخيانة، الاستسلام، الانهزامية …إلخ].
بصرف النظر عن طبيعة عملية الإصلاح التي أجراها PKK، وما شابها من أخطاء ونواقص، إلا أنها كانت سابقة سياسية كبيرة، وتحدياً للتقاليد السياسية الكردية المتوارثة.

حيث فتحت هذه التجربة الإصلاحية في شكلها، الثورية في مضمونها، آفاقاً واسعة أمام النشاط السياسي المدني، وأسست لثقافة ومؤسسات المجتمع المدني، وخصوصاً في تركيا، فتشكلت منظمات وروابط وجمعيات لحقوق الإنسان وللنشاط النسائي والشبيبة والطلبة والتضامن مع المعتقلين، مثل: أمهات السلام، حركة الوطنيين الأحرار، رابطة أُسر المعتقلين، رابطة التضامن مع المعتقلين، جمعية حقوق الإنسان …إلخ.

مجمل هذه المنظمات تنشط بشكل فاعل، وباتت تمتلك تراكماً وإرثاُ، يؤلفان ثقافة نضال منظمات المجتمع المدني.

من المفروض أن تطَّلع الحركة السياسية الكردية السورية عليها، والاستفادة منها.
على ضوء ما تقدم، نخلص إلى عدة نتائج هامة تحدد وتشخص الحالة المتأزمة التي تعانيها الحركة السياسية الكردية السورية:
1- ما تزال الحركة السياسية الكردية السورية رهينة الماضي، بحيث أن النسق التقليدي الانفعالي من التفكير والسلوك السياسي الكردي يسيطر على الخطاب السياسي والنشاط العملي المحدود، كمَّاً ونوعاً.
2- عدم امتلاك الحركة الكردية السورية ثقافة النشاط العلني أو خبرة الأداء السياسي المدني، التي يمكن أن تؤهلها للقيام بنشاطات واسعة النطاق ومتعددة الأشكال، بغية تشكيل جبهة جماهيرية واسعة فاعلة ومؤثرة، قادرة على الضغط على النظام داخل سوريا وخارجها، للإسراع في حلّ القضية الكردية.
3- تفشي الفساد الإداري والمحسوبية ضمن مؤسساتها وفصائلها إلى درجة أن تحديد المناصب وتوزيع المهام الحزبية: المكتب السياسي، اللجنة المركزية …إلخ، لا يتم وفق الكفاءة والأهلية السياسية والمعرفية ودرجة الاحتراف.
4- إهمالها الكبير لقضايا المرأة، فضلاً عن انعدام الحضور النسائي في الهيئات الإدارية العليا للحركة الكردية.

وإن دلَّ هذا على شيء، فإنما على الذهنية القبلية والعشائرية المؤثرة في الحياة الحزبية للحركة الكردية.

وبالتالي، فإن انعدام حضور المرأة في الحراك السياسي الكردي السوري، باستثناء حزب الاتحاد الديمقراطي، الذي يضم في صفوفه عدداً كبيراً من الكادر النسائي المحترف في هيئاته الإدارية كافة.
5- ضعف الاهتمام بقضايا الشباب، وعدم إقامة مؤسسات ترعى نشاطهم وتفعّل دورهم في الحراك السياسي الكردي السوري.
6- تفشّي الوثنية السياسية والولاءات الشخصية والحزبية العمياء على حساب الإجماع الوطني والقومي.

إلى جانب انتشار ذهنية الإقصاء وثقافة النفي والشقاق السياسي في الحركة الكردية.
7- افتقار الحركة الكردية لمراكز أبحاث استراتيجية –خارج سوريا على الأقل- تقوم بإجراء الدراسات والأبحاث الأكاديمية التي يمكن أن تساهم في مراجعة تجربة الحركة الكردية السورية، من أجل تقييمها وإماطة اللثام عن أخطائها.

فضلاً عن وضع الخطط والمشاريع الاستراتيجية لها، والتي من شأنها تنظيم وتفعيل أداءها السياسي والدبلوماسي، خاصةً خارج سوريا، بغية تشكيل رأي عام عالمي أو لوبي كردي ضمن المؤسسات السياسية الغربية الفاعلة، لتقوم بإدراج حل المسألة الكردية في سوريا على أجندات أعمالها السياسية، مثل وضع الملف الكردي على طاولة مفاوضات الشراكة الأوروبية السورية.

وبالتالي، الوصول إلى تدويل القضية الكردية في سوريا، وإخراجها من الأطر المحلية الضيقة.
مجمل هذه النقاط تؤكد وتحدد حجم المأزق السياسي والدبلوماسي والثقافي والإعلامي الداخلي والخارجي، الذي تعاني منه الحركة السياسية الكردية السورية حالياً.

وعلى ضوء ما تقدّم، تبرز أهمية الإصلاح وضروراته السياسية الحيوية والأخلاقية التي تلقي بظلالها على الحركة السياسية الكردية السورية.

في اعتقادي، تواجه هذه الحركة تحديات الإصلاح واستحقاقاته النظرية والعملية، وطنياً وقومياً، لكي تتخلص من حالة العطالة السياسية والثقافية والركود السياسي الذي تعانيه، والذي أدى بها –طوال هذه السنين- إلى ما هي عليه من تصدّع وترهّل وشيخوخة سياسية.

ولن يكون هذا الإصلاح ممكناً، إلا بعد أن تتنحّى الطبقة السياسية الكلاسيكية الجاثمة على قيادة الحركة الكردية السياسية جانباً، متيحة المجال والفرصة للكفاءات الشابة لقيادة الحركة، بفتح الباب أمام دماء جديدة، تكون قادرة على إنقاذ الحركة من حالة التخبط والارتباك والفوضى والعطالة، وصولاً لتشكيل إطار جامع محدد وموحد يجمع كل الطاقات البشرية الكردية المبعثرة على إثني عشر حزباً.

يكون بمثابة المرجعية السياسية الديمقراطية القومية والوطنية للكرد السوريين.
مما لا شكّ فيه أن تجربة الحركة السياسية الكردية السورية تحتوي على نقاط مضيئة ومحطات إيجابية.

لكن، من الأهمية بمكان التطرّق إلى الجوانب السلبية، لأنها الأكثر فساداً وإفساداً في جسد الحركة الكردية وفعلها السياسي.
ربما أكون قد أسهبت أو اختزلت في تشخيص ما تعانيه الحركة الكردية السورية من أزمات ومآزق، وبصرف النظر عن مدى نجاحي أو إخفاقي في الإحاطة والإلمام بكافة الجوانب المتعلقة بواقع الحركة الكردية وتجربتها، فضلاً عمّا يحمله هذا التشخيص من الخطأ والصواب، أعتقد أني طرحت بعض الرؤى والأسئلة التي من شأنها فتح محاور هامة للدرس والبحث والنقاش، بغية الحصول على تصور أشمل وأوضح وأكثر دقةً للمشهد السياسي الكردي السوري، للسير به نحو غدٍ أفضل، كي تصبح أفضل الأيام للحركة الكردية هي تلك التي لم تعشها بعد.
دمشق: 10/12/2004)
القارئ العزيز: هكذا كانت قراءتي للحركة الحزبيَّة وقتها.

والحال الكارثيَّة التي تعيش هذه الأحزاب في أيامنا، لهو خير جواب على السؤال، الذي عنونت به مقالي السالف “الحركة السياسيَّة الكرديَّة في سورية..

إلى أين؟”.

يعني، إن الحركة الحزبيَّة، وللأسف، سائرة قدماً، وبكلِّ فخر، نحو المزيد من السوء والخراب والتلف، بمعيَّة رموزها الأشاوس، ومثقفينا الأفاضل.

ويبدو أن أكثر الأيَّام خراباً وعطباً وتلفاً في الحياة السياسيَّة الكرديَّة السوريَّة، هي التي لم نرها بعد.
دمشق 28/5/2008

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية، وبالمشاركة مع أطفال العالم وجميع المدافعين عن حقوق الطفل وحقوق المرأة وحقوق الانسان، نحيي احتفال العالم بالذكرى السنوية الثلاثين لاتفاقية حقوق الطفل، التي تؤكد على الحقوق الأساسية للطفل في كل مكان وزمان. وقد نالت هذه الاتفاقية التصديق عليها في معظم أنحاء العالم، بعد أن أقرتها الجمعية…