كوباني والنعوش الآتية من بعيد (مرة أخرى)

نشرة يكيتي *



لا يكاد يمر شهر إلا وتستقبل منطقة كوباني جثمان أحد أبنائها العاملين خارجها، أو جثامين عدة شبان في مقتبل العمر، حصدتهم حوادث العمل أو الطرق في ديار الغربة التي أجبرهم الفقر وانعدام فرص العمل في البلاد إلى اللجوء إليها.

هؤلاء الفتية ما كانوا إلا زهوراً ملونة تفتحت براعمها بالكاد، تشتتوا في جهات الأرض الأربعة، داخل سوريا وخارجها، طلباً للرزق وفي سبيل تحسين أوضاعهم المعاشية وأوضاع ذويهم المزرية، وكانت تدور في مخيلاتهم الفتية أحلام وردية، في جعل منطقتهم جنة غنّاء.

من المعروف أن شباب المنطقة المتشردين في ديار الغربة يعملون بغالبيتهم في مهن شاقة أو شاقة وخطيرة في آن واحد، كصبّ البلوك أو العمل على الحفارات الارتوازية أو في أعمال البناء بجميع اختصاصاتها، كالحدادة أو النجارة وصب البيتون…الخ.

ومن المعروف أيضاً أنهم لم يختاروا هذا النمط من العيش بإرادتهم، إنما فرضته عليهم الممارسات العنصرية المبرمجة التي يطبقها النظام يومياً تجاه أبناء الشعب الكردي بهدف تجويعه وإجباره على ترك مناطق سكناه الأصلية، ليتم تغيير ديموغرافيتها فيما بعد وعلى مراحل.

إن منطقة كوباني غنية جداً بمواردها الاقتصادية، وتأتي في مقدمتها:

1- أراضيها الواسعة، سهولاً وجبالاً، والصالحة للزراعة 100%.

صحيح أن السكان كانوا وما يزالون يزرعون تقليدياً في سهولهم مختلف أنواع الحبوب والبقول بعلاً، والقطن والذرة والسمسم سقياً، وقد أدخلوا مؤخراً زراعة الكمون، وصحيح أنهم يبذلون حالياً قصارى جهودهم لزرع أراضيهم الصخرية بمختلف أنواع الكروم، والزيتون بالدرجة الأولى، إلى الفستق الحلبي والعنب بالدرجة الثانية، إلى التين واللوز بنسب قليلة، إلا أن حلمهم الأكبر هو أن تساعدهم رياح التغيير الديمقراطي المقبلة، في إيصال مياه نهر فرات العظيم إلى حقولهم التي تعاني مع أصحابها من الجفاف والعطش، وخاصة بعد نضوب المياه فيها (سهل سروج الخصيب مثالاً).

2- مياه نهر فرات العظيم المخزونة في بحيرتي الأسد وتشرين الضخمتين، والتي تستفيد منها مناطق سورية بعيدة، بينما يعاني أهل المنطقة وأراضيهم من العطش الشديد، فكأنهم كما قال الشاعر:

كالعير تجري في الصحراء عطشى        والماء على ظهرها محمول

3- الأيدي الزراعية الماهرة لرجالٍ ونساءٍ ورثوا عن آبائهم وأجدادهم خبرات السنين الطوال، والتي لا ينفك يكبلها تضافر قوى الطبيعة مع البرامج العنصرية.

– لنعد قليلاً إلى مأساة شبابنا في ديار الغربة، وإلى مآسي ذويهم، ولنعد إلى طرح ذات السؤال الدائم والملّح: لماذا تشتت هؤلاء الفتية في طول الدنيا وعرضها؟!

– لِنَسْمُ قليلاً على جراحنا المثخنة وندخل شيئاً من السرور على أنفسنا، باستهزائنا من الواقع المزري:

– لو طبقنا المثل المعروف “رب ضارة نافعة” على شبابنا العاملين خارج بلادهم لتبين لنا مدى استفادتهم من غربتهم.

– لقد أضحى هؤلاء الشباب، بفضل اختلاطهم بكثير من الشعوب في آسيا وإفريقيا وأوربا، خبراء في الجغرافيا والمسالك والممالك، وطباع الشعوب وعاداتهم ومآكلهم ومشاربهم وهمومهم، ونقلوا جزءاً من هذه المعارف والخبرات إلينا، كما أصبحوا سفراء لشعبهم الكردي، عرّفوا الشعوب التي اتصلوا بها بشعبنا وقضاياه المتشعبة.

– عن طريقهم تعرفنا إلى شعب الأمازيغ في شمالي إفريقيا، هؤلاء الذين احتلت أراضيهم وقسمت لاحقاً، ويتعرضون الآن لمختلف أنواع التهميش والإلغاء.

على شعب دارفور، على شعوب وأديان جنوب السودان، على مالي وتشاد والنيجر والسنغال وإفريقيا الوسطى، ولا يدهشنا حمل بعضهم جنسية أحد هذه البلدان.

– بفضلهم عرفنا أن مياه بحيرة “وان” شديدة الملوحة، وأن مساحة بحيرة أورميا ضعف مساحة الأولى، وأن “بابا كركر” أضخم حقل نفطي في كردستان.

في كثير من الأحيان يحسدنا رجال الأمن –وهم حتماً من القادمين من خارج المنطقة- على الأموال التي يرسلها هؤلاء الفتية لذويهم، بعد أن كسبوها “بكد اليمين وعرق الجبين”، فيقولون مثلاً: “من أين تأتي إلى المنطقة كل هذه الأموال الطائلة التي تستخدم في الزراعة والتجارة والبناء”؟! وفي أحايين كثيرة يتعرض العمال العائدون إلى الوطن للاعتقال والمساءلة عما وأنى عملوا، وماذا كسبت أيديهم، مع الكثير من الضغط والابتزاز.

– ولكن، ورغم المضايقات الكثيرة التي يتعرض لها عمالنا على أيدي أجهزة الأمن عندما يعودون إلى الوطن، ورغم الإغراءات الجمة التي تقدم لهم في الخارج، فإنهم يؤوبون إلى ديارهم، ولو بعد حين، ليجدوا أن كثيراً من معالم منطقتهم قد تغيرت وتطورت بفضل الأموال التي كانوا يرسلونها، غير أن الغصة سرعان ما تنتابهم وذويهم من جديد عندما يحين موعد السفر ويبدأ دولاب الغربة بالدوران مرة أخرى!.

—-

* نشرة شهرية تصدرها اللجنة المركزية لحزب يكيتي الكردي في سوريا – العدد (154) شباط 2008

لقراءة مواد العدد انقر هنا  yekiti_154

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

أحمد خليف* بعد انتهاء حقبة بيت الأسد، تلوح في الأفق تحديات جديدة، حيث تواجه الإدارة السورية الجديدة انتقادات وأسئلة مشروعة من رجال الأعمال والمستثمرين السوريين، حول مدى التزامها بالشفافية في منح المشاريع والمناقصات، في وقت تنتظر فيه البلاد إعادة الإعمار والانطلاق نحو المستقبل. يبدو أن غياب الإعلان الرسمي عن بعض المناقصات والمشاريع، وتوجيهها بطرق غير واضحة، يُثير مخاوف…

أزاد خليل* على مدى عقود من حكم آل الأسد، عاشت سوريا غيابًا تامًا لعقد اجتماعي حقيقي يعبر عن إرادة شعبها، ويؤسس لنظام حكم ينسجم مع تنوعها الثقافي والعرقي والديني. كان النظام قائمًا على قبضة أمنية محكمة وممارسات استبدادية استباحت مؤسسات الدولة لخدمة مصالح ضيقة. واليوم، مع نهاية هذه المرحلة السوداء من تاريخ سوريا، تبرز الحاجة إلى التفكير في نظام…

د. محمود عباس أحيي الإخوة الكورد الذين يواجهون الأصوات العروبية والتركية عبر القنوات العربية المتعددة وفي الجلسات الحوارية، سواءً على صفحات التواصل الاجتماعي أو في الصالات الثقافية، ويُسكتون الأصوات التي تنكر الحقوق القومية للكورد من جهة، أو تلك التي تدّعي زورًا المطالبة بالمساواة والوطنية من جهة أخرى، متخفية خلف قناع النفاق. وأثمن قدرتهم على هدم ادعاءات المتلاعبين بالمفاهيم، التي تهدف…

إبراهيم اليوسف منذ بدايات تأسيس سوريا، غدا الكرد والعرب شركاء في الوطن، الدين، والثقافة، رغم أن الكرد من الشعوب العريقة التي يدين أبناؤها بديانات متعددة، آخرها الإسلام، وذلك بعد أن ابتلعت الخريطة الجديدة جزءاً من كردستان، بموجب مخطط سايكس بيكو، وأسسوا معًا نسيجًا اجتماعيًا غنيًا بالتنوع، كامتداد . في سوريا، لعب الكرد دورًا محوريًا في بناء الدولة الحديثة،…