بدرخان علي (*)
اكتفى الإعلام إبّان تجدّد “الأزمة” التركيّة ـ الكرديّة الرّاهنة، بتحليلاتٍ سريعة ومقتَضَبة لم تتطرق إلى جذورِ المشكلة الكرديّة بحدّ ذاتها في الجمهوريّة التركيّة المُعاصِرة إلا عَرَضاً.
وعبارة “الأزمة” التي تصدّرت الإعلام، ودارت على الألسُن، لوصف مُجريات الأحداث بين تركيّا وأكراد”ها” أو أكراد العراق توحي بما هو عابر وطارئ على علاقاتٍ تاريخيّة مَتينةٍ وراسخةٍ… ولا شيء آخر.
معلومٌ أنّ الانطلاق من تحليلِ الظواهر الاجتماعيّة والسياسيّة والتاريخيّة وفقَ منطق “الأزمَة” نفسها، قد يفوّت على المرءِ مُلاحَظة العناصر الأساسيّة (=الموضوعيّة)، في الظّاهرة المعنيّة وعدم القُدرة على النّفاذَ إلى عُمقها.أعني هنا الصّراع التاريخيّ الكرديّ في تركيّا (والمنطقة كلّها) لانتزاع الاعتراف بالهويّة القوميّة، قد تكون الدولةُ القوميّة المستقلّة، إحدى تجليّاتها، وقد لا تكون.
كما قد تكون حُلماً وشعاراً في الهواء الطَلْق…..أو، بحسب تعبيرٍ بليغ لسليم بركات، مجرد رغبة لدى الكرديّ في أن يبقى كردياً (!) في الدول التي تراقب رغبته هذه “عن كثب”.
يَخلُصُ القارئُ لمقالات وكتبٍ، هنا وهناك، إلى أحكامٍ نهائيّة عن طبائع الأكراد العنيفة وشرورهم وأصولهم “الغامضة” (ينفق كثيرون حبراً ووقتاً في سبيل “إثبات” ذلك) وخَطَرهم، حيثما كانوا، وعلى جميع الشّعوب والدول التي تقتسمُ الكُرد هواءً وروحاً، شريطةً أن يَركُن القارئ إلى تلك الأحكام دونَ مُساءَلةٍ تاريخيّةٍ وسياسيّة، أو مُعايَنة الواقعِ على ما هو عليه، وذاكرةٍ مثقوبة من كافة الجهات، ومن الضروريّ، قَبْلاً وأساساً، أن يكون قليل الحساسيّة الأخلاقيّة تجاه قضايا الشعوب والقوميّات و مبادئ الحريّة والمُساواة والعَدَالة.
وفي سياق الكلامِ المُتهَافت على “غموض” أصول الأكراد وسلالاتهم، (الذي رُفع إلى مستوى نظريّةٍ متكاملةٍ صالحةٍ لكلّ مكان و زمان يسكن فيه الكرديّ) بخلاف الشعوب الأخرى ذات الأصل الجليّ والنقيّ، من الأزل إلى الأبد،يقال بـ “طبائع متأصّلة”، في شعوبٍ دون غيرها.
وغالباً ما تُسنَد وتُدعَم هذه “النظريّة” بالإشارة إلى خاصيّة “جبليّة” للأكراد أو “ريفيّة” مقاوِمَة للتمدّن والحضارة والتنظيم.
وبالتالي نزوع الأكراد للقيام على دول7-7-هم7-7- الحديثة والخروج عليها بحكم ضعف التّطور الاجتماعيّ وميلٍ غرائزيّ بدائيّ، لرفض الانتظام في أنظمة اجتماعيّة وسياسيّة حديثة.
وهنا تحديداً جيءَ بمفاهيم ومصطلحات من الحقل العلميّ ـ السوسيولوجيّ ـ لتَخدم أغراضَ السياسة.لكنّ غَلَبَة التوظيف السياسوي المؤدلج الفاقع لتلك المفاهيم، عطفاً على نزعة استعلائيّة ناظرة بإزدراء شديد للـ “الجبليين والريفيين” والطبقات الدنيا والمُعْدَمين والمهجريّن، كما في اتّكاء بعضٍ على ثنائية المدينة ـ الريف أو المركز ـ الأطراف، المفهومة في سياقها العلميّ والتاريخيّ لتتخذ صورة كاريكاتوريّة، جعلَ منها زيفاً إيديولوجياً خالصاً وحُكمَ قيمة، وحسب، بلا جدوى تحليليّة أو قيمة مفاهيميّة، وقد طوّرها، ودفع بها إلى حدودٍ قصويّة تفسّر له كل ما يحيط بالحالة الكرديّة من غموضٍ والتباساتٍ و7-7-ألغاز7-7-، وبالطبع سياساتٍ ومجريّات يوميّة.
ففي تُركيا ـ مدارُ الكلام هنا ـ خيضت أكبر وأطول حرب/ماديّاً ورمزيّاً/ في سبيل تشويه صورة الكرد هناك، واستئصالهم بلا رحمةٍ لكونهم عالة على صورة الحضارة التركيّة البَهيّة وعُمقها الزمنيّ البالغ أربعة آلاف عام… لا أكثر…..
ولا أقل!
والحديث عن مأساة الكرد في تركيا لن يستقيم دون الوقوف مليّاً عند الثقافة السياسيّة التي أرساها مؤسّس الجمهورية التركيّة مصطفى كمال أتاتورك (18811938م) ( أتاتورك تعني “أب الأتراك” اللقب الذي أطلقه مصطفى كمال على نفسه وأُقِرّ من قبل المجلس الوطني!، واسمه الثاني كمال أطلقه مدرسُ الرياضيات في الكلية العسكريّة: ويعني الكَمَال! بحسب الرواية الرسميّة، والغازي نسبة لفتوحاته وانتصاراته) وبثّها في ثنايا المجتمع و فضاءاته، والتي باتت بمنزلة عقيدةٍ مطلقة و مقدّسة،انجرف إلى تخوم عبادتها الشعب والمجتمع طوعاً، واتخذت صورةً بالغة التّطرف من تقديس الزعماء الوطنييّن، هي أقصى ما تحتمله من تطرفٍ كديانة وضعيّة في دولةٍ حديثة…بتأثير من الدعاية المعادية للإمبرياليّة واستنهاض وتلهيب النزعة الوطنيّة ـ القوميّة ـ الدولتيّة ـ العسكرتاريّة من قبل الزعيم الروحيّ والسياسيّ والعسكريّ للجمهوريّة الديمقراطيّة ـ العلمانيّة.و من باب إضفاء القَدَاسة،ولأسباب أخرى ربّما، على “الرجل الميّت الذي يحكم تركيّا من قبره”، تُحاط أجزاء من سيرة الرجل،ومواد عنه، إلى يومنا هذا بسريّةٍ تامّة في أرشيف هيئة الأركان العامة وفي دوائر أخرى وتعتبر محظورة للباحثين الأتراك والأجانب.
“ينطبق هذا الحظر حتَّى على “النصّ الأصلي” الخاص بـ”خطبته الكبرى” (Nutuk)، التي وصف فيها أتاتورك في عام 1927 دوره في حرب التحرير في الفترة من عام 1919 حتَّى عام 1922″ (مصطفى كمال أتاتورك من تسالونيكي إلى أنقرة ـ كلاوس كرايزر) ،وكذلك مذكرات زوجته لطيفة هانم محفوظة في مؤسسة التاريخ التركيّ وممنوعة على التداول و الإطلاع عليها.
يجدر بالذكر أن سياسة الغازي مصطفى كمال التي أعلَنت نفسها، في البدء، وطنيّة تحرريّة ووعدت بوطنٍ مشتركٍ للأتراك والأكراد..
على حدٍ سواء واستَمَالَت الكثيرين من الزعماء الأكراد إلى جانبه في حربه الوطنيّة ضد “الأعداء المشتَركين”، سرعان ما انحطّت إلى مواقع شوفينيّة فيما بعد.
ولم يكن العرب أقلّ انخداعاً بإدعاءات أتاتورك نظراً “لعدم كشف مخططه العلماني..بل مهادنته الظاهرة للسلطان والإسلام، كل هذا أدى إلى رهانات سياسية في المشرق العربي ذهبت من تحريم علماء العراق للتصدي للأتراك في الموصل،إلى الرهان على قيادة مصطفى كمال في تشكيل جبهة عربية ـ تركية معادية للغرب الاستعماري إلى الرهان على تنصيبه زعيماً وإحياء منصب الخلافة وجعلها في تركيا إلى الاقتداء في الثورة الكمالية في بناء الدولة.( ينظر كتاب الدولة والخلافة في الخطاب العربي للمؤلف وجيه كوثراني).
لعل أصدق من عبّر عن هذا الدّهاء والمَكر السياسيين هو مصطفى كمال نفسه، إذ يقول في مذكراته: كانت مشكلة شكل الحكم في ذلك الحين صعبة وقبل أن اقترح وضع الحكومة المؤقتة، كان علي أن أحسب حساباً للمجلس القومي والشعور الذي يبدو من جماعتي وأنصاري، وكان علي أن أرضخ لآرائهم وأن أخفي أغراضي الحقيقية عنهم بحكم الضرورة وعندما صرح له بعض أتباعه بأنهم خدعوا، ذكر لهم “أنهم لو كانوا قد تنبهوا قليلاً لأمكنهم أن يلاحظوا فوراً بأن قرارات أيار كانت لا تعني شيئاً غير تأسيس الحكم الجمهوري”.
(المصدر السابق).
ومن المفارقة ،حقاً، أن يكون المَنهَل الفكريّ الرئيسيّ لكمال أتاتورك كتابات لمفكر كرديّ الأصل (ضياء كوك آلب) (من مدينة آمددياربكر توفي في1924 باستنبول) شكّلت المادة النظريّة لمزاعم الأتاتوركيّة في ضرورة تعميم ثقافةٍ قوميّة تركيّةٍ واحدة والولاء للدولة التركيّة وتتريك شعوب الجمهوريّة جميعاً وإحياء القومية التركيّة الشّاملة pan-turkism .
والقوميّة “تنشئة اجتماعيّة” وحسب عند كوك آلبالذي كان واعياً لأصوله الكردية، وما على الدولة القائمة كجهاز إيديولوجيّ وبيروقراطيّ إلا القيام بمهمتها في تحقيق التّجانس المجتمعيّ و تعميم ثقافة وطنيّة ـ قوميّة واحدة…
لكن الوقائع على الأرض كانت ، أبداً، أشد ضراوة و أكثر هولاً من الإنشاء والرمز.
والحقيقةُ الصارخة أن الجمهوريّة التركيّة، قامت منذ ميلادها الميمون، وتوليدها، من رحم “الرجل المريض” وقد وضعت نُصْبَ عينيها تشيّيد دولة قوميّة علمانيّة، عمادُها الأساسيّ إيديولوجيّة عرقيّة شديدة العداء تجاه الإثنيّات والقوميّات الأخرى، ناهضةً على خرافة النّقاء العرقيّ وزعم الأصالةِ والتميّز(السومريون والفينيقيون لا جدال في كونهم أتراك…)، تخالطها نزعةٌ إمبراطوريّة توسعيّة (لدول الجوار وخاصة العراقالميثاق القوميّ التركيّ) فضلاً عن واجب “عبادة الدولة”، ومؤسّسها، على جميع المواطنين تحرسها مواد دستوريّة، وإن كان على أنقاض شعبٍ ومجتمعٍ بأكمله، أو أبيدت قرىً وأقاليم برمّتها وسويّت، مع أهلها، بالأرض…..
وقد أفصح عن هذه الرغبات والسياسات على أكمل وجه، خلائف أتاتورك من بعده لا هو نفسه، ولم يكن ذلك بمعزل عمّا اجتاح العالم في “الأزمنة الحديثة” من موجة الإيديولوجيات العقائدية والوطنيّات العسكريّة واستنفار العصبيّات وصناعة الأعداء وتقديس الزعماء والعسكريين.
بيدَ أن أوهام الأتاتوركيّة في قدرة الدولة “الحديثة” على إجراء هندسةٍ اجتماعيّة شاملة ومُجانسة قوميّة بلا نتوءات، اقتداءً بنموذج الدولة ـ الأمة في الغرب، على ما تقتضيه صناعةُ الدولِ والقوميّات والأمُم الحديثة، ظلّت عصيّةً على التحقّق والترجمة عسكريّاً كان(بالحديد والنار) أم “مدنيّاً” ببثّ ثقافة قوميّة تركيّة، عنصريّة الطّابع والقوام، ومحاربة اللّغة والثقافة الكرديتين والحطّ من شأنهما ونُكرانهما من أصولها.
إلى جانب فشلها في تحقيق وحدةٍ اجتماعية متماسكة على المستوى الطائفيّ ، أيضاً، لاسيما الانقسام السنيّ ـ العلويّ الواسع، فضلاً عن التفاوتات الطبقيّة الحادّة.
إنها مدعاة للتّأمل والتّفكّر العميقين،ظاهرة الثقافة النمطيّة الصلبة التي طالما آمنت بها النخبُ السياسيّة والثقافيّة التركيّة جميعاً حيال الأكراد وانزلقت، تالياً، إلى دركِ القناعة التّامة بالمزاعم الأتاتوركيّة في أنّ الأكراد وقفوا حجر عثرة ضد مشروع دولة ديمقراطيّة علمانيّة، بحكم تخلّفهم وهمجيّتهم، وما على مشروع الجمهوريّة أن يمضي في طريقه إلى حتميّته التاريخانيّة التي لا تخطئ أبداً، ولو كان على جثث ملايين الكرد، فيما تغيّب حقيقة أن “كردستان مستعمرة دوليّة”، كما يصرخُ دائماً، بلاهوادةً، عالمُ الاجتماع التركيّ (المُنشقّ الفَريد عن الثقافة الكماليّة البغيضة لمدة ما يقارب القرن تقريباً) إسماعيل بيشكجي الذي، تَلَمّسَ المأساة الكرديّة عن كثب في كردستان الشماليّة، (بيشكجي يرفض نَسْبَ كردستان إلى أية دولة إقليمية: تركيا ـ العراق ـ إيران ـ سوريا….
)، وفضح خرافات النخب السياسيّة والثقافيّة التركيّة، ذوات اليمين أو اليسار، والعسكريّة بداهةً، في إمكانيّة تذويب الأكراد في بوتقة الجمهوريّة كمواطنين أتراك أنقياء وأتقياء صالحين.
ويذهب بيشكجي، منبّهاً العالَم كلّه في كتابٍ للأمم المتحدة يعود لعام 1981، إلى أن “كردستان اليوم مستعمرة دولية في الشرق الأوسط، حتى أن وضع الأمة الكردية أدنى بكثير من وضع المستعمرات”، ويفنّد مقولة “الوطن التركي ذو الأربعة آلاف عام: ألم يفد الأتراك إلى الشرق الأوسط والأناضول في عام 1071أي منذ حوالي 900 عام؟”
غيرَ أنّ عبادة الجمهوريّة التركيّة العظيمة لن تدوم إلى الأبد وما لا نهاية، فها هي نقاشاتٌ من داخل الأوساط الأكاديميّة والثقافيّة والأدبيّة التركيّة ذاتها تطرح على نفسها سؤالاً لطالما غُيّب في لجّة عبادة الجمهوريّة المقدّسة وبَانيها ومواثيقها: كيفيّة الانتقال من الأتاتوركيّة إلى الديمقراطيّة وإلى جمهوريّة ثانية؟!.
“الجمهورية الثانية تعني الانتقال من جمهورية كمالية إلى جمهورية ديموقراطية.
الكمالية، في التطبيق العملي، هي المبادئ الستة، وليست الديموقراطية بينها….
حوار مع محمد آلتان، ممثل تيار الجمهورية الثانية في تركيا: ترجمة عن التركية بكر صدقي.
موقع الأوان الالكتروني ـ 2007”.
والعلمانيّة التركيّة بدورها، كما ديمقراطيتها المثلومة، التي يرجع إليها “سرّ” التفوق التركيّ، لا تخلو من سماتٍ طائفيّة، ولا هي بمنأىً عن المثالب والتناقضات، فهناك فئة بعينها إليها وحدها، تعود إدارة دفّة القيادة والحكم و تحتكرها سمّاها أكاديمي تركي بـ طبقة “لاها سوموت” (هذه كلمة مبتكرة لباسكن أوران، تتشكل من الأحرف الأولى لـ “التركي المسلم السني الحنفي العلماني” ـ ترجمة بكر صدقي ـ موقع الأوان)) وهذه العلمانيّةبنتُ الحداثة والليبراليّة والتفكير العقلانيّ في شؤون الدولة والمجتمع ـ لم تكن في واقع تركيا سوى استبدال العصبيّة الدينيّة ـ المذهبيّة بأخرى قومية ـ عرقية.
ولم تفضي لإغناء وتعزيز المواطنة مفهوماً وممارسةً.
ناهيكَ عن مخاطبة الغرائز العرقيّة والشعبويّة البدائية تصل لحدّ الخرافة في تعظيم العرق التركيّ الطورانيّ وتمجيده وأسطورة الأمة التركيّة العظيمة والذئب الرماديّ.
ما الذي يتبقى ـ إذاً ـ من حداثة الدولة بعد حذف المواطنة والليبراليّة و الديمقراطيّة والعلمانيّة……غير الجيش العَرَمْرَم و الشعبويّة المُحَدثنَة………….
ومبادئ أتاتورك الستّة؟
….لكن مشروعيّة السؤال عن تماسك الجمهوريّة التركيّة واستقرارها، رغم كل الاختراقات والتناقضات التي تعتمِل في بُنيانها، ولجهة مقدرة نظامها السياسيّ المفتوح على امتصاص الاهتزازات الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وتعايش “سلميّ7-7- لتياراتٍ متناقضة في أوساط الطّبقة الحاكمة السياسيّة والعسكريّة، لم تؤدي إلى زعزعة كيان الدولة نفسها ونشوب نزاعات أهليّة مؤثرة ….على غرار محيطها العربيّ مثلاً وحراكاً مستمراً في المشهد السياسيّ وشفافية وصحافة حرة وقضاء مستقل نسبياً (لحسن حظ تركيا فإنها تُقارن دوماً مع الأنظمة العربيّة والإسلاميّة المجاورة أنظمة الفَسَاد والاستبداد المطلق والحروب الأهليّة ما يسبغ عليها صفات الديمقراطيّة والحداثة النسبيّة …)، بل وتطلّع تركيا الدائم للاضطلاع بدورٍ رائدٍ في المنطقة وهويّتها العلمانيّة والإسلاميّة، وآسيويّتها وأوربيّتها بآنٍ واحد، مشروعية تلك الأسئلة تبقى قائمة.
وإن كان من غير الموضوعيّة حجبُ النّظَر عن الدعم غير المحدود الذي تتلقاه تركيا من الغرب، عسكريّاً وسياسيّاً ومالياً، فيخالُ للمرء حيناً أن تركيا تتعيّش على قروض البنك الدوليّ، وترسانةٍ عسكريّة مدعومة أميركيّاً وأوربيّاً وإسرائيليّاً.
ولولا العناية المشدّدة لدول الغرب بتركيا الدولة، لكانَ الإعجاب بعلمانيّة تركيّا وديمقراطيتها وحداثتها بشكل مغاير تماماً.
واللافتُ للنظر،اعترافاتُ عُتاةِ الكمالييّن العسكرييّن (على رأسهم كنعان إيفرين)، هذه الأيام، بفَشل سياستهم الاستئصالية تجاه المُشكلة الكرديّة المُلتهبَة في تركيّا المُعاصرة قرناً من الزمان و”حلولهم” العسكرية، وإن لم تنبع هذه الاعترافات من شعور إنساني واعتراف بالجريمة، بل نتيجة فرض القضية الكرديّة نفسها على تركيّا ودول المنطقة تحت طائلةِ الانفجار وعقبة أمام تطورها واستقرارها والمزيد من التّصعيد.
….وإذا كان من المبكر الحديث الآن عن “مابعد” الكماليّة في تركيّا ومآلاتها،ودور البرجوازية الإسلامية الجديدة، ممثلة بحزب إسلامي يوصف بالاعتدال والديمقراطيّة، وحاجتها لعلاقاتٍ اقتصاديّة جديدة في المجالين الإقليمي والعالمي، وبما قد يقع على التضاد من المصالح الاقتصاديّة للمؤسسة العسكريّة، القويّة اقتصاديّاً لا عسكريّاً وحسب.
ما “قد” يفضي إلى إحداث تغييرٍ ملحوظ في المشهد السياسيّ التركيّ وخرقٍ في الإيديوجية النّاظمة للتفكير السياسيّ التركيّ، الموصوف أعلاه، تجاه المسألة الكرديّة في تركيا ومثيلاتها… …يبقى هناك ما يلوحُ للمرء في الأفق ويدعوه إلى القول بأن الأتاتوركيّة هي إلى نخرٍ بطيء وتصدّعٍ من الداخل، لا محال، إن لم يكن لأيّ سبب فبفعل من عامل الزمن وحده…وفضله!
(*) كاتب كردي من سوريا
bedirxaneli@hotmail.com
كما قد تكون حُلماً وشعاراً في الهواء الطَلْق…..أو، بحسب تعبيرٍ بليغ لسليم بركات، مجرد رغبة لدى الكرديّ في أن يبقى كردياً (!) في الدول التي تراقب رغبته هذه “عن كثب”.
يَخلُصُ القارئُ لمقالات وكتبٍ، هنا وهناك، إلى أحكامٍ نهائيّة عن طبائع الأكراد العنيفة وشرورهم وأصولهم “الغامضة” (ينفق كثيرون حبراً ووقتاً في سبيل “إثبات” ذلك) وخَطَرهم، حيثما كانوا، وعلى جميع الشّعوب والدول التي تقتسمُ الكُرد هواءً وروحاً، شريطةً أن يَركُن القارئ إلى تلك الأحكام دونَ مُساءَلةٍ تاريخيّةٍ وسياسيّة، أو مُعايَنة الواقعِ على ما هو عليه، وذاكرةٍ مثقوبة من كافة الجهات، ومن الضروريّ، قَبْلاً وأساساً، أن يكون قليل الحساسيّة الأخلاقيّة تجاه قضايا الشعوب والقوميّات و مبادئ الحريّة والمُساواة والعَدَالة.
وفي سياق الكلامِ المُتهَافت على “غموض” أصول الأكراد وسلالاتهم، (الذي رُفع إلى مستوى نظريّةٍ متكاملةٍ صالحةٍ لكلّ مكان و زمان يسكن فيه الكرديّ) بخلاف الشعوب الأخرى ذات الأصل الجليّ والنقيّ، من الأزل إلى الأبد،يقال بـ “طبائع متأصّلة”، في شعوبٍ دون غيرها.
وغالباً ما تُسنَد وتُدعَم هذه “النظريّة” بالإشارة إلى خاصيّة “جبليّة” للأكراد أو “ريفيّة” مقاوِمَة للتمدّن والحضارة والتنظيم.
وبالتالي نزوع الأكراد للقيام على دول7-7-هم7-7- الحديثة والخروج عليها بحكم ضعف التّطور الاجتماعيّ وميلٍ غرائزيّ بدائيّ، لرفض الانتظام في أنظمة اجتماعيّة وسياسيّة حديثة.
وهنا تحديداً جيءَ بمفاهيم ومصطلحات من الحقل العلميّ ـ السوسيولوجيّ ـ لتَخدم أغراضَ السياسة.لكنّ غَلَبَة التوظيف السياسوي المؤدلج الفاقع لتلك المفاهيم، عطفاً على نزعة استعلائيّة ناظرة بإزدراء شديد للـ “الجبليين والريفيين” والطبقات الدنيا والمُعْدَمين والمهجريّن، كما في اتّكاء بعضٍ على ثنائية المدينة ـ الريف أو المركز ـ الأطراف، المفهومة في سياقها العلميّ والتاريخيّ لتتخذ صورة كاريكاتوريّة، جعلَ منها زيفاً إيديولوجياً خالصاً وحُكمَ قيمة، وحسب، بلا جدوى تحليليّة أو قيمة مفاهيميّة، وقد طوّرها، ودفع بها إلى حدودٍ قصويّة تفسّر له كل ما يحيط بالحالة الكرديّة من غموضٍ والتباساتٍ و7-7-ألغاز7-7-، وبالطبع سياساتٍ ومجريّات يوميّة.
ففي تُركيا ـ مدارُ الكلام هنا ـ خيضت أكبر وأطول حرب/ماديّاً ورمزيّاً/ في سبيل تشويه صورة الكرد هناك، واستئصالهم بلا رحمةٍ لكونهم عالة على صورة الحضارة التركيّة البَهيّة وعُمقها الزمنيّ البالغ أربعة آلاف عام… لا أكثر…..
ولا أقل!
والحديث عن مأساة الكرد في تركيا لن يستقيم دون الوقوف مليّاً عند الثقافة السياسيّة التي أرساها مؤسّس الجمهورية التركيّة مصطفى كمال أتاتورك (18811938م) ( أتاتورك تعني “أب الأتراك” اللقب الذي أطلقه مصطفى كمال على نفسه وأُقِرّ من قبل المجلس الوطني!، واسمه الثاني كمال أطلقه مدرسُ الرياضيات في الكلية العسكريّة: ويعني الكَمَال! بحسب الرواية الرسميّة، والغازي نسبة لفتوحاته وانتصاراته) وبثّها في ثنايا المجتمع و فضاءاته، والتي باتت بمنزلة عقيدةٍ مطلقة و مقدّسة،انجرف إلى تخوم عبادتها الشعب والمجتمع طوعاً، واتخذت صورةً بالغة التّطرف من تقديس الزعماء الوطنييّن، هي أقصى ما تحتمله من تطرفٍ كديانة وضعيّة في دولةٍ حديثة…بتأثير من الدعاية المعادية للإمبرياليّة واستنهاض وتلهيب النزعة الوطنيّة ـ القوميّة ـ الدولتيّة ـ العسكرتاريّة من قبل الزعيم الروحيّ والسياسيّ والعسكريّ للجمهوريّة الديمقراطيّة ـ العلمانيّة.و من باب إضفاء القَدَاسة،ولأسباب أخرى ربّما، على “الرجل الميّت الذي يحكم تركيّا من قبره”، تُحاط أجزاء من سيرة الرجل،ومواد عنه، إلى يومنا هذا بسريّةٍ تامّة في أرشيف هيئة الأركان العامة وفي دوائر أخرى وتعتبر محظورة للباحثين الأتراك والأجانب.
“ينطبق هذا الحظر حتَّى على “النصّ الأصلي” الخاص بـ”خطبته الكبرى” (Nutuk)، التي وصف فيها أتاتورك في عام 1927 دوره في حرب التحرير في الفترة من عام 1919 حتَّى عام 1922″ (مصطفى كمال أتاتورك من تسالونيكي إلى أنقرة ـ كلاوس كرايزر) ،وكذلك مذكرات زوجته لطيفة هانم محفوظة في مؤسسة التاريخ التركيّ وممنوعة على التداول و الإطلاع عليها.
يجدر بالذكر أن سياسة الغازي مصطفى كمال التي أعلَنت نفسها، في البدء، وطنيّة تحرريّة ووعدت بوطنٍ مشتركٍ للأتراك والأكراد..
على حدٍ سواء واستَمَالَت الكثيرين من الزعماء الأكراد إلى جانبه في حربه الوطنيّة ضد “الأعداء المشتَركين”، سرعان ما انحطّت إلى مواقع شوفينيّة فيما بعد.
ولم يكن العرب أقلّ انخداعاً بإدعاءات أتاتورك نظراً “لعدم كشف مخططه العلماني..بل مهادنته الظاهرة للسلطان والإسلام، كل هذا أدى إلى رهانات سياسية في المشرق العربي ذهبت من تحريم علماء العراق للتصدي للأتراك في الموصل،إلى الرهان على قيادة مصطفى كمال في تشكيل جبهة عربية ـ تركية معادية للغرب الاستعماري إلى الرهان على تنصيبه زعيماً وإحياء منصب الخلافة وجعلها في تركيا إلى الاقتداء في الثورة الكمالية في بناء الدولة.( ينظر كتاب الدولة والخلافة في الخطاب العربي للمؤلف وجيه كوثراني).
لعل أصدق من عبّر عن هذا الدّهاء والمَكر السياسيين هو مصطفى كمال نفسه، إذ يقول في مذكراته: كانت مشكلة شكل الحكم في ذلك الحين صعبة وقبل أن اقترح وضع الحكومة المؤقتة، كان علي أن أحسب حساباً للمجلس القومي والشعور الذي يبدو من جماعتي وأنصاري، وكان علي أن أرضخ لآرائهم وأن أخفي أغراضي الحقيقية عنهم بحكم الضرورة وعندما صرح له بعض أتباعه بأنهم خدعوا، ذكر لهم “أنهم لو كانوا قد تنبهوا قليلاً لأمكنهم أن يلاحظوا فوراً بأن قرارات أيار كانت لا تعني شيئاً غير تأسيس الحكم الجمهوري”.
(المصدر السابق).
ومن المفارقة ،حقاً، أن يكون المَنهَل الفكريّ الرئيسيّ لكمال أتاتورك كتابات لمفكر كرديّ الأصل (ضياء كوك آلب) (من مدينة آمددياربكر توفي في1924 باستنبول) شكّلت المادة النظريّة لمزاعم الأتاتوركيّة في ضرورة تعميم ثقافةٍ قوميّة تركيّةٍ واحدة والولاء للدولة التركيّة وتتريك شعوب الجمهوريّة جميعاً وإحياء القومية التركيّة الشّاملة pan-turkism .
والقوميّة “تنشئة اجتماعيّة” وحسب عند كوك آلبالذي كان واعياً لأصوله الكردية، وما على الدولة القائمة كجهاز إيديولوجيّ وبيروقراطيّ إلا القيام بمهمتها في تحقيق التّجانس المجتمعيّ و تعميم ثقافة وطنيّة ـ قوميّة واحدة…
لكن الوقائع على الأرض كانت ، أبداً، أشد ضراوة و أكثر هولاً من الإنشاء والرمز.
والحقيقةُ الصارخة أن الجمهوريّة التركيّة، قامت منذ ميلادها الميمون، وتوليدها، من رحم “الرجل المريض” وقد وضعت نُصْبَ عينيها تشيّيد دولة قوميّة علمانيّة، عمادُها الأساسيّ إيديولوجيّة عرقيّة شديدة العداء تجاه الإثنيّات والقوميّات الأخرى، ناهضةً على خرافة النّقاء العرقيّ وزعم الأصالةِ والتميّز(السومريون والفينيقيون لا جدال في كونهم أتراك…)، تخالطها نزعةٌ إمبراطوريّة توسعيّة (لدول الجوار وخاصة العراقالميثاق القوميّ التركيّ) فضلاً عن واجب “عبادة الدولة”، ومؤسّسها، على جميع المواطنين تحرسها مواد دستوريّة، وإن كان على أنقاض شعبٍ ومجتمعٍ بأكمله، أو أبيدت قرىً وأقاليم برمّتها وسويّت، مع أهلها، بالأرض…..
وقد أفصح عن هذه الرغبات والسياسات على أكمل وجه، خلائف أتاتورك من بعده لا هو نفسه، ولم يكن ذلك بمعزل عمّا اجتاح العالم في “الأزمنة الحديثة” من موجة الإيديولوجيات العقائدية والوطنيّات العسكريّة واستنفار العصبيّات وصناعة الأعداء وتقديس الزعماء والعسكريين.
بيدَ أن أوهام الأتاتوركيّة في قدرة الدولة “الحديثة” على إجراء هندسةٍ اجتماعيّة شاملة ومُجانسة قوميّة بلا نتوءات، اقتداءً بنموذج الدولة ـ الأمة في الغرب، على ما تقتضيه صناعةُ الدولِ والقوميّات والأمُم الحديثة، ظلّت عصيّةً على التحقّق والترجمة عسكريّاً كان(بالحديد والنار) أم “مدنيّاً” ببثّ ثقافة قوميّة تركيّة، عنصريّة الطّابع والقوام، ومحاربة اللّغة والثقافة الكرديتين والحطّ من شأنهما ونُكرانهما من أصولها.
إلى جانب فشلها في تحقيق وحدةٍ اجتماعية متماسكة على المستوى الطائفيّ ، أيضاً، لاسيما الانقسام السنيّ ـ العلويّ الواسع، فضلاً عن التفاوتات الطبقيّة الحادّة.
إنها مدعاة للتّأمل والتّفكّر العميقين،ظاهرة الثقافة النمطيّة الصلبة التي طالما آمنت بها النخبُ السياسيّة والثقافيّة التركيّة جميعاً حيال الأكراد وانزلقت، تالياً، إلى دركِ القناعة التّامة بالمزاعم الأتاتوركيّة في أنّ الأكراد وقفوا حجر عثرة ضد مشروع دولة ديمقراطيّة علمانيّة، بحكم تخلّفهم وهمجيّتهم، وما على مشروع الجمهوريّة أن يمضي في طريقه إلى حتميّته التاريخانيّة التي لا تخطئ أبداً، ولو كان على جثث ملايين الكرد، فيما تغيّب حقيقة أن “كردستان مستعمرة دوليّة”، كما يصرخُ دائماً، بلاهوادةً، عالمُ الاجتماع التركيّ (المُنشقّ الفَريد عن الثقافة الكماليّة البغيضة لمدة ما يقارب القرن تقريباً) إسماعيل بيشكجي الذي، تَلَمّسَ المأساة الكرديّة عن كثب في كردستان الشماليّة، (بيشكجي يرفض نَسْبَ كردستان إلى أية دولة إقليمية: تركيا ـ العراق ـ إيران ـ سوريا….
)، وفضح خرافات النخب السياسيّة والثقافيّة التركيّة، ذوات اليمين أو اليسار، والعسكريّة بداهةً، في إمكانيّة تذويب الأكراد في بوتقة الجمهوريّة كمواطنين أتراك أنقياء وأتقياء صالحين.
ويذهب بيشكجي، منبّهاً العالَم كلّه في كتابٍ للأمم المتحدة يعود لعام 1981، إلى أن “كردستان اليوم مستعمرة دولية في الشرق الأوسط، حتى أن وضع الأمة الكردية أدنى بكثير من وضع المستعمرات”، ويفنّد مقولة “الوطن التركي ذو الأربعة آلاف عام: ألم يفد الأتراك إلى الشرق الأوسط والأناضول في عام 1071أي منذ حوالي 900 عام؟”
غيرَ أنّ عبادة الجمهوريّة التركيّة العظيمة لن تدوم إلى الأبد وما لا نهاية، فها هي نقاشاتٌ من داخل الأوساط الأكاديميّة والثقافيّة والأدبيّة التركيّة ذاتها تطرح على نفسها سؤالاً لطالما غُيّب في لجّة عبادة الجمهوريّة المقدّسة وبَانيها ومواثيقها: كيفيّة الانتقال من الأتاتوركيّة إلى الديمقراطيّة وإلى جمهوريّة ثانية؟!.
“الجمهورية الثانية تعني الانتقال من جمهورية كمالية إلى جمهورية ديموقراطية.
الكمالية، في التطبيق العملي، هي المبادئ الستة، وليست الديموقراطية بينها….
حوار مع محمد آلتان، ممثل تيار الجمهورية الثانية في تركيا: ترجمة عن التركية بكر صدقي.
موقع الأوان الالكتروني ـ 2007”.
والعلمانيّة التركيّة بدورها، كما ديمقراطيتها المثلومة، التي يرجع إليها “سرّ” التفوق التركيّ، لا تخلو من سماتٍ طائفيّة، ولا هي بمنأىً عن المثالب والتناقضات، فهناك فئة بعينها إليها وحدها، تعود إدارة دفّة القيادة والحكم و تحتكرها سمّاها أكاديمي تركي بـ طبقة “لاها سوموت” (هذه كلمة مبتكرة لباسكن أوران، تتشكل من الأحرف الأولى لـ “التركي المسلم السني الحنفي العلماني” ـ ترجمة بكر صدقي ـ موقع الأوان)) وهذه العلمانيّةبنتُ الحداثة والليبراليّة والتفكير العقلانيّ في شؤون الدولة والمجتمع ـ لم تكن في واقع تركيا سوى استبدال العصبيّة الدينيّة ـ المذهبيّة بأخرى قومية ـ عرقية.
ولم تفضي لإغناء وتعزيز المواطنة مفهوماً وممارسةً.
ناهيكَ عن مخاطبة الغرائز العرقيّة والشعبويّة البدائية تصل لحدّ الخرافة في تعظيم العرق التركيّ الطورانيّ وتمجيده وأسطورة الأمة التركيّة العظيمة والذئب الرماديّ.
ما الذي يتبقى ـ إذاً ـ من حداثة الدولة بعد حذف المواطنة والليبراليّة و الديمقراطيّة والعلمانيّة……غير الجيش العَرَمْرَم و الشعبويّة المُحَدثنَة………….
ومبادئ أتاتورك الستّة؟
….لكن مشروعيّة السؤال عن تماسك الجمهوريّة التركيّة واستقرارها، رغم كل الاختراقات والتناقضات التي تعتمِل في بُنيانها، ولجهة مقدرة نظامها السياسيّ المفتوح على امتصاص الاهتزازات الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وتعايش “سلميّ7-7- لتياراتٍ متناقضة في أوساط الطّبقة الحاكمة السياسيّة والعسكريّة، لم تؤدي إلى زعزعة كيان الدولة نفسها ونشوب نزاعات أهليّة مؤثرة ….على غرار محيطها العربيّ مثلاً وحراكاً مستمراً في المشهد السياسيّ وشفافية وصحافة حرة وقضاء مستقل نسبياً (لحسن حظ تركيا فإنها تُقارن دوماً مع الأنظمة العربيّة والإسلاميّة المجاورة أنظمة الفَسَاد والاستبداد المطلق والحروب الأهليّة ما يسبغ عليها صفات الديمقراطيّة والحداثة النسبيّة …)، بل وتطلّع تركيا الدائم للاضطلاع بدورٍ رائدٍ في المنطقة وهويّتها العلمانيّة والإسلاميّة، وآسيويّتها وأوربيّتها بآنٍ واحد، مشروعية تلك الأسئلة تبقى قائمة.
وإن كان من غير الموضوعيّة حجبُ النّظَر عن الدعم غير المحدود الذي تتلقاه تركيا من الغرب، عسكريّاً وسياسيّاً ومالياً، فيخالُ للمرء حيناً أن تركيا تتعيّش على قروض البنك الدوليّ، وترسانةٍ عسكريّة مدعومة أميركيّاً وأوربيّاً وإسرائيليّاً.
ولولا العناية المشدّدة لدول الغرب بتركيا الدولة، لكانَ الإعجاب بعلمانيّة تركيّا وديمقراطيتها وحداثتها بشكل مغاير تماماً.
واللافتُ للنظر،اعترافاتُ عُتاةِ الكمالييّن العسكرييّن (على رأسهم كنعان إيفرين)، هذه الأيام، بفَشل سياستهم الاستئصالية تجاه المُشكلة الكرديّة المُلتهبَة في تركيّا المُعاصرة قرناً من الزمان و”حلولهم” العسكرية، وإن لم تنبع هذه الاعترافات من شعور إنساني واعتراف بالجريمة، بل نتيجة فرض القضية الكرديّة نفسها على تركيّا ودول المنطقة تحت طائلةِ الانفجار وعقبة أمام تطورها واستقرارها والمزيد من التّصعيد.
….وإذا كان من المبكر الحديث الآن عن “مابعد” الكماليّة في تركيّا ومآلاتها،ودور البرجوازية الإسلامية الجديدة، ممثلة بحزب إسلامي يوصف بالاعتدال والديمقراطيّة، وحاجتها لعلاقاتٍ اقتصاديّة جديدة في المجالين الإقليمي والعالمي، وبما قد يقع على التضاد من المصالح الاقتصاديّة للمؤسسة العسكريّة، القويّة اقتصاديّاً لا عسكريّاً وحسب.
ما “قد” يفضي إلى إحداث تغييرٍ ملحوظ في المشهد السياسيّ التركيّ وخرقٍ في الإيديوجية النّاظمة للتفكير السياسيّ التركيّ، الموصوف أعلاه، تجاه المسألة الكرديّة في تركيا ومثيلاتها… …يبقى هناك ما يلوحُ للمرء في الأفق ويدعوه إلى القول بأن الأتاتوركيّة هي إلى نخرٍ بطيء وتصدّعٍ من الداخل، لا محال، إن لم يكن لأيّ سبب فبفعل من عامل الزمن وحده…وفضله!
(*) كاتب كردي من سوريا
bedirxaneli@hotmail.com
المستقبل – الاحد 30 كانون الأول 2007 – العدد 2834 – نوافذ –