«إعلان دمشق»، إلى أين؟

ياسين الحاج صالح  

في مطلع كانون الأول (ديسمبر) الجاري، وبعد عامين وشهرين تقريبا على تأسيسه، التأم المجلس الوطني لإعلان دمشق، الجسم الأساسي للمعارضة السورية، وانتخب رئاسة للمجلس وأمانة عامة جديدة.

وعلى الأثر تحركت تفاعلات أزمة حادة في ثلاثة اتجاهات، سياسية وإيديولوجية وأمنية.

اتصل أولها بعدم تمكن قياديين في «الاتحاد الاشتراكي الديموقراطي العربي»، وهو تنظيم ناصري، من الفوز بأي من مقاعد الأمانة السبعة عشر، فكان أن جمد الحزب مشاركته في أنشطة الإعلان.

ثانيها، حملة تصريحات وتعليقات تكاد تضاهي في تواترها وانفعالها تلك التي رافقت ولادة إعلان دمشق ذاته، تضع نتائج الانتخاب ككل في سياق صراع سياسي وإيديولوجي بين تيارين، واحد ليبرالي وآخر ليس له اسم محدد، لكنه ضد ليبرالي.

وثالث التفاعلات حملة اعتقالات واستدعاءات قامت بها السلطات لعشرات من أعضاء المجلس، بلغت ذروتها في اليوم العالمي لحقوق الإنسان في 10 كانون الأول الجاري.

أفرج عن معظم المعتقلين بعد وقت قصير، يوم واحد أو أقل، لكن لا يزال بعضهم موقوفين (كتب المقال الأربعاء، 12/12).
كان إعلان دمشق تشكل في لحظة سياسية وسيكولوجية سورية خاصة جدا.

بدا في خريف 2005 أن النظام مضعضع وقد يتهاوى، وأن وجود ائتلاف واسع لقوى منظمة من شأنه أن يحد من مخاطر أي فراغ سياسي محتمل، ويجنب البلاد الأسوأ مما كانت دلائله المقلقة تنبسط في الجار الشرقي.

غير أن جملة الديناميات الإقليمية والدولية التي كانت بثّت هذا الانطباع عند قطاعات واسعة من المراقبين، داخل سورية وخارجها، وحتى في أوساط النظام نفسه، اتخذت بالتدريج اتجاها مختلفا بعد أشهر.

ولعل الاتجاه هذا تكرس نهائيا وبات غير معكوس في مؤتمر أنابولس الأخير، الذي قد تكون أهم دلالاته إعادة تطبيع النظام السوري ضمن المنظومة الإقليمية.
ما كانت مناسبته لحظة خاصة جدا لم يلبث أن أخذ يتباعد مع فواتها.

ومع انحسار الفاعلية عاد العامل الإيديولوجي المفرّق إلى تحديد خيارات الفاعلين السياسيين، بعد أن كان تقدم العامل السياسي الموحّد في لحظة نمو تلك الفاعلية.

وهذا عنصر في السياق الذي أفضى إلى تعليق الناصريين نشاطهم في الإعلان.

وخلافا لما أفادت به تصريحات منفعلة إثر انتخاب الأمانة العامة للمجلس، ثمة ثلاثة تيارات أو أربعة، أو حتى خمسة داخل ائتلاف إعلان دمشق، وليس تيارين فحسب.

ثمة ديموقراطيون يتمحور تفكيرهم السياسي حول مفهوم «المصلحة الوطنية السورية»، دون أن يكون لهم عنوان إيديولوجي محدد (حزب الشعب الديموقراطي وحزب العمال الثوري ومثقفون وناشطون مستقلون…).

وهناك تيار إسلامي ديموقراطي، تتمايز فيه هو ذاته تنويعتان: واحدة شبه إخوانية، وأخرى أقرب إلى نموذج حزب العدالة والتنمية التركي.

وثمة تيار ليبرالي فعلا، ويمكن التمييز فيه هو ذاته بين شيوعيين سابقين أضحوا ليبراليين بالطريقة ذاتها التي كانوا فيها شيوعيين، أعني بطريقة معتقدية وخلاصية، وبين ليبراليين مثل رياض سيف أقرب إلى حساسية وتفكير شرائح من الطبقة الوسطى المدينية، المستقلة، والمنتجة.

هذا فضلا عن التيار القومي الذي يتقارب معه في المواقف تيار شيوعي.

ولعل إرادة إعادة بناء الهوية الذاتية في وقت تمايز و«فرز»، بناء «نحن» في مواجهة «هم»، هي ما أملت على مطلقي التصريحات الكلام على تيارين، وليس مطابقة واقع الحال.
على أنه ليس من شأن خسارة أطراف وفوز أطراف، ولا نقد تبسيطية التعليقات على انعقاد المجلس الوطني لإعلان دمشق ونتائج انتخاب أمانته العامة، أن تحجب اشتراك الجميع في أزمة سياسية وفكرية لا جدال فيها، ولا حل إيديولوجيا لها.

في جذر هذه الأزمة استيلاء النظام السياسي على المجال العام بطرق عدوانية كما ذكرت موجة الاعتقالات الأخيرة.

الأثر الأهم لهذا الاستيلاء عزل التنظيمات السياسية والتيارات الإيديولوجية عن القوى الاجتماعية، وكذلك عزل الطبقات والشرائح الاجتماعية عن الحياة السياسية، ما ينزع صفتها العامة ويردها مراتب دخل فحسب.

ومن جهة أخرى ثمة الفراغ الفكري الذي يطبع عمل حركة المعارضة، والذي جعل العودة إلى عتاد فكري متقادم وغير منقود، قومي عربي وشيوعي، يبدو تقدما.
ولم تكن «السياسوية» المفرطة لعمل المعارضة الديموقراطية خلال السنوات السبع أو الثماني الأخيرة غير مظهر لهذه الأزمة وقناع يخفيها في آن معا.

ولعل الأصل فيها هي ذاتها، أعني «السياسوية»، الطابع الاستئثاري والعدواني لممارسة السلطة، وما يدفع إليه من تثبت على مسألة السلطة من جهة، وسيكولوجية المعتقل السياسي التي تدفع نحو التثبت نفسه من جهة أخرى.

ومعلوم أن عددا غير قليل من قيادات حركة المعارضة معتقلون أو ملاحقون سابقون.
لا ريب أن تقلب مسار الإعلان يتصل كذلك بأزمة وتقلبات وضع أجنحة من الطبقة الوسطى السورية «تمثلها» قوى الإعلان وحساسيات ناشطيه وتوجهاتهم العامة.

وقد يمكن رصد توتر بين جناحين من ناشطي الطبقة هذه، «شريحة المهنيين» و«شريحة المالكين» التي كانت غريبة على العموم عن النشاط السياسي المعارض في البلد منذ مطلع العهد البعثي.

ولا يضم الجناح الأول أطباء ومهندسين ومحامين من أصول متواضعة عموما فقط، وإنما أولا معتقلين سياسيين سابقين.

وهؤلاء «شريحة» خاصة، تجمع بين «رأسمال رمزي» و«معرفة» وخبرة سياسية، أتاحت لهم لعب دور لافت، سياسي وثقافي، في السنوات المنقضية من هذا القرن.

بين 19 من أعضاء رئاسة المجلس وأمانته العامة (عضوان كرديان وعضو «أثوري» لم تعرف أسماؤهم) ثمة 9 معتقلين سابقين (وسبق لأكثر التسعة عشر أن مروا بمرحلة اعتقال قصيرة) و5 أطباء، و6 قياديين حزبيين، و3 كتّاب.

ويمثل رياض سيف الذي تتمايز خلفيته الاجتماعية والإيديولوجية والسياسية عن المتن المعارض في أوقات سابقة، المتن الذي كان مكونا من يساريين وقوميين عرب بصورة أساسية، تقاطعا بين شريحتي المعتقلين السابقين ورجال الأعمال.

فهو منحدر من الطبقة الوسطى المالكة والمنتجة، وقد كان عضوا في «مجلس الشعبـ«، أي البرلمان الرسمي، وهو لم يمر يوما بطور يساري أو قومي عربي.

بيد أن أي تحليل طبقي لا يمكن أن يفي بالحاجة في سورية.

فضعف التشكل الطبقي من جهة، وضعف التشكل أو نقص الاندماج الوطني من جهة أخرى، وما أشرنا إليه من عزل قسري بين الاجتماعي والسياسي، عوامل تجعل من الكلام على طبقة وسطى وشرائح متميزة لها أقرب إلى المجاز.

ولها فوق ذلك دور أكيد في تسهيل تأثر الفاعلين العامين بعوامل جهوية وأهلية.
هذا يدعو إلى وضع أزمة العمل المعارض في سياق إعادة بناء السياسة والفكر السياسي في سورية، وهذا ذاته في سياق البحث عن مخارج من الأزمة الوطنية والاجتماعية المزمنة في البلد.

فخروج النظام من أزمة حادة أقلقته وقلقلته لا يحمل أي تقدم على صعيد معالجة الأزمة المزمنة هذه.

أقصى ما يمكن أن يكونه هو فاتحة طور أشد تعقيدا من أطوارها.
—–

الحياة     – 16/12/07//

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين مؤتمر جامع في قامشلو على انقاض اتفاقيات أربيل ودهوك الثنائية لسنا وسطاء بين الطرفين ( الاتحاد الديموقراطي و المجلس الوطني الكردي ) وليس من شاننا اتفقوا او اختلفوا او تحاصصوا لانهم ببساطة لن يتخلوا عن مصالحهم الحزبية الضيقة ، بل نحن دعاة اجماع قومي ووطني كردي سوري عام حول قضايانا المصيرية ، والتوافق على المهام العاجلة التي…

شادي حاجي لا يخفى على أي متتبع للشأن السياسي أن هناك فرق كبير بين الحوار والتفاوض. فالحوار كما هو معروف هو أسلوب للوصول الى المكاشفة والمصارحة والتعريف بما لدى الطرفٍ الآخر وبالتالي فالحوارات لاتجري بهدف التوصّل إلى اتفاق مع «الآخر»، وليس فيه مكاسب أو تنازلات، بل هو تفاعل معرفي فيه عرض لرأي الذات وطلب لاستيضاح الرأي الآخر دون شرط القبول…

إبراهيم اليوسف باتت تطفو على السطح، في عالم يسوده الالتباس والخلط بين المفاهيم، من جديد، وعلى نحو متفاقم، مصطلحات تُستخدم بمرونة زائفة، ومن بينها تجليات “الشعبوية” أو انعكاساتها وتأثيراتها، التي تحولت إلى أداة خطابية تُمارَس بها السلطة على العقول، انطلاقاً من أصداء قضايا محقة وملحة، لا لتوجيهها نحو النهوض، بل لاستغلالها في تكريس رؤى سطحية قد…

شادي حاجي القضية الكردية في سوريا ليست قضية إدارية تتعلق بتدني مستوى الخدمات وبالفساد الإداري وإعادة توزيع الوظائف الادارية بين المركز وإدارات المناطق المحلية فإذا كان الأمر كذلك لقلنا مع من قال أن المشكلة إدارية والحل يجب أن يكون إدارياً وبالتالي حلها اللامركزية الادارية فالقضية الكردية أعقد من ذلك بكثير فهي قضية شعب يزيد تعداده على ثلاثة ملايين ونصف تقريباً…