مصطفى إسماعيل
العدوُّ هو العدو, مهما حدثْنَ بناه الاقتصادية والسياسية وعمرانه, ومهما تقادم الزمن, ومهما بلغ الشقاء القومي لشعوب الظل العالمي الزبى, ما لم يستطع فصم العُرى مع جده الطوطم القبلي, وذكريات ماضيه المتخم بدماء الشعوب التي نكَّلَ بها, وما لم يستطع العيش بين دفتي عصرٍ ديمقراطي, يلفظُ كلَّ مُريدٍ للعنف والإقصاء وسياسات القهر.
العدوُّ هو العدو, مهما حدثْنَ بناه الاقتصادية والسياسية وعمرانه, ومهما تقادم الزمن, ومهما بلغ الشقاء القومي لشعوب الظل العالمي الزبى, ما لم يستطع فصم العُرى مع جده الطوطم القبلي, وذكريات ماضيه المتخم بدماء الشعوب التي نكَّلَ بها, وما لم يستطع العيش بين دفتي عصرٍ ديمقراطي, يلفظُ كلَّ مُريدٍ للعنف والإقصاء وسياسات القهر.
يا لبؤس تركيا اليوم, التي تتقاسمها جنرالاتُ البطشِ, وساسةُ الاعتقاد الفاشي, والإعلام العسكريتاري, الذي يقوِّضُ العقلَ, وينظم أرتالَ الغريزة والهياج الأيديولوجي الشعبوي, الكامن في أزقة اسطنبول وبضع كبريات المدن التركية الأخرى.
تُذكِّرُنا تركيا اليوم, في أزمتها مع حزب العمال الكوردستاني والعراق وإقليم كوردستان العراق بمآزق دولٍ أخرى, أطلقت الهوى الكولونيالي من عقاله, وتحايلتْ على كساد وعقم سياساتها الداخلية, بفتوحٍ خارجَ الحدود, والتصعيدُ التركيُّ اليوم, هو طبعة جديدة أو إعادة إنتاجٍ لـ “اللحظة الكولونيالية” ولكن بطبعةٍ تركية, تهدفُ إلى سلبِ ورقة “جوكر” إقليمية, في لهاثها البحثي عن دورٍ إقليمي افتقدته ومخالب تحوَّلتْ إلى أظافر لا تخدش.
تركيا الرسمية, تركيا الجنرالات, وتركيا الإعلام العسكريتاري اليوم, تنجحُ في إحلال التكسير المجتمعي وخلط السياسي بالإيديولوجي, في مقاربتها للشأن الكوردي الداخلي, والشأن الكوردي المجاور في جنوبه, وهي تعلمُ أنْ لا يمكن لدولةٍ الخروج من رحم العفونة, إذا ما حوَّلت القضايا الكبرى في داخلها إلى دريئةٍ لبنادق الإنكشارية الجديدة, وكان يمكنُ لها تفادي ذلك, عبرَ البحثِ عن حلولٍ ذات جدوى لهمِّها الحضاري, كان يمكنُ للتنمية الوطنية والديمقراطية الكاملة والاعتراف بوجود الآخر المختلف وحريته في رسم آفاق هويته أنْ تكونَ مفاتيحاً لتركيا متوغلة في العصر أكثرْ, لا تركيا تتحينُ الفرصَ للتسللِ إلى سريرٍ حرام عليها في الجوار, ولا مراءَ في أنَّ تركيا ملزمة اليوم, بالبحث عن إجابات على أسئلةٍ لا تحصى, منها على سبيل المثال لا الحصر: لماذا تحولت تركيا إلى دولة قزمة على خارطة العالم اليوم؟.
ولماذا ترسب تركيا في مادة “القضية الكوردية”, ولا تر البديلَ سوى في محاولة قتل المادة بدلاً عن الإتيان بحلولٍ لها ليست مستحيلة؟.
ولماذا تركب تركيا موجة الاتجاه المعاكس اليوم؟.
هلْ ما نشهدهُ من تعاطٍ أمريكي بارد مع تركيا, فيما يخصُّ الأزمة الحالية بين تركيا وحزب العمال الكوردستاني, وأبعدَ منه مع حكومة إقليم كوردستان العراق الفيدرالي وبالتالي العراق, هو رسالةٌ مُنبئةٌ بتصدع الشراكة الإستراتيجية التي كانت قائمةً قبلُ بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية؟.
هذا التصدُّع الواضح اليوم, والذي لا تؤثرُ عليه كلمات الرئيس الأمريكي “بوش” في المؤتمر الصحفي مع رأس الوزارة التركية “رجب طيب أردوغان”, ألا يعودُ إلى أنَّ تركيا فقدتْ أهميتها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتغلغل الولايات المتحدة واسع النطاق في الكثير من دول آسيا الوسطى ذات الجذور التركية, ونفوذها العسكري والسياسي في الشرق الأوسط, وليس مهماً بعد الآن الالتفات إلى الحليف الإستراتيجي السابق المُدّلل تركيا؟.
أم أن التصدعَ الحاصل يعود إلى أقنومٍ آخر, وهو المرتبط بالسياسة الخارجية التركية, المصوغة على أسسٍ جديدة من قبل حزب العدالة والتنمية الإسلامي, والذي وضعَ حجر الأساس الحقيقي لجملةِ تقارباتٍ مع دولٍ لم تكن في السابق تروقُ كثيراً لساسة أنقرة؟.
وهذه الانعطافة في السياسة الخارجية التركية اتضحت في الكثير من النقاط, فتركيا تعاملت بمنطق “لا ناقة لي ولا جمل” مع عملية الولايات المتحدة الأمريكية في تحرير العراق, وتتضحُ خيوطُ هذه السياسة الجديدة أكثر في افتقاد علاقتها بإسرائيل إلى الدفء الذي كان, ومحاولتها مد الجسور مع بلدان المشرق بالتزامن مع محاولاتها في نيل العضوية الأوربية الكاملة.
إنَّ التعامل التركي مع القضية الكوردية على طريقة النعامة إذ تدسُّ رأسها في رمال الأوهام لن يفيدَ تركيا, وسيفاقمُ الوضعَ أكثر فأكثر, ولعلَّ قراءة تركية رسمية وإن عابرة لمجمل سياساتها حيال الكورد, منذ تأسيس الجمهورية وإلى الآن, سيثبتُ فشلَ تلكم السياسات في دفن الهوية الكوردية وبالتالي القضية الكوردية, بلْ على العكس أثمرتْ تلكمُ السياسات التي توزَّعت بين الإنكار والصهر القومي في تبلور القضية وبروزها ووصولها إلى مرحلة متقدمة, فالدساتير التركية الأربعة أعوام 1921 و1924 و1961 و1982 ومسودة الدستور المُعدِّ مؤخراً من قبل حزب العدالة والتنمية تسكتُ عن الكورد وقضيتهم, ولم يعترفْ بوجود الكورد الوفدُ التركي المفاوضُ في “لوزان” عام 1923, كما أنَّ تركيا وابتداءً من عام 1924 فرضت حظراً شاملاً على اللغة الكوردية واللباس الكوردي أيضاً, ولا ننسَ مخطط تهجير ونفي ملايين الكورد إلى مناطق غرب تركيا الذي بُدأ العملُ به بشكلٍ سافرٍ في 1934, فهلْ أفلحتْ كلُّ تلكمُ السياسات والمخططات في تصفية الهوية الكوردية ونسف وجود الكورد التاريخي على أرضهم؟.
ثوراتٌ وانتفاضاتٌ كوردية كثيرة أثبتتْ عقمَ سياسات التتريك ولا جدواها وفشلها, منها : ثورة الشيخ سعيد بيران 1925 , وانتفاضة آغري بقيادة الجنرال إحسان نوري باشا 1930, وثورة سيد رضا 1937.
تركيا, الساعيةُ إلى دخول الفضاء الأوربي, هل يخدمها بشيء استمرارها في طمس القضية الكوردية ومعاداتها لكلِّ تمثّلٍ كوردي آخر في جوارها, ألا تعلمُ تركيا أنها بذلك تشنُّ حرباً على ” معايير كوبنهاغن “, المشجعة على احترام حقوق الإنسان وحقوق الأقليات والتعددية السياسية وتطبيق مبدأ دولة الحق والقانون والمواطنة؟.
أ ليسَ من قبيل التناقض الصارخ في السياسة التركية مطالبتها بامتيازاتٍ لقرى تركمانية في كوردستان العراق وبفيدرالية في شمال قبرص لأقلية تركية, فيما تسكتُ بالمطلق عن أيِّ اعترافٍ بالهوّية الكوردية والوجود الكوردي التاريخي في كوردستان (شرق تركيا)؟.
لماذا لا تريدُ تركيا اليوم فهمَ أنَّ في المنطقة لحظةً أمريكية تتبلورُ رويداً..
رويداً, وتحاولَ التقاطَ تلك اللحظة والتصرف على ضوءها, وهذه اللحظةُ الأمريكية تقوِّضُ اللحظتين : البريطانية والفرنسية, وتقومُ على أنقاضهما, عملاً بقانون “نفي النفي” الهيجلي؟.
إلى أيِّ مدى يخدمُ المبدأُ غير المُعلن لسياسة حزب العدالة والتنمية في الداخل التركي : “كلنا مسلمون..
كلنا أتراك” مستقبلَ تركيا؟.
وإلى أيِّ مدى هنالكَ ديمقراطيةٌ كاملةٌ – يتمُّ الحديثُ عن وجودها – في تركيا, إذا كانت هذه الديمقراطية تقوم على اللغة الواحدة والعنصر القومي الواحد, ومنتعشة على الأيديولوجيا الواحدة, مُتجاهلة بالمطلق حقوق القوميات الأخرى, عبرَ إنكارها بالوسائل السياسية والعسكرية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية؟.
ولا ننكرُ هنا أنَّ تركيا دولة ديمقراطية, ففيها برلمانٌ منتخبٌ وتداولٌ سلميٌّ للسلطة وقانونُ أحزابٍ وإعلامٌ حرٌ, ولكنها ديمقراطية فقط للعنصر التركي, وهذه الديمقراطيةُ تستبعدُ أياً آخر من مجالها المفترض وامتيازاتها.
إلى أيِّ مدى تخدمُ الإيديولوجيا الكمالية راهنَ ومستقبلَ تركيا كدولةٍ تحاولُ الانتقالَ من وضعها كدولةٍ طرفٍ إلى دولةٍ مركزية في المنطقة, ألم تنتهِ مدَّةُ صلاحية الإيديولوجيا الكمالية التي كانت ابنة الظرف التاريخي؟ وواقع العصر الديمقراطي الحالي يرفضُ هذا الضربَ من الإيديولوجيات التطميسية, بخلاف ما يراه زعيمُ العمال الكوردستاني “أوجلان”, المعتقلُ في سجنٍ تركي منذ ما يقاربُ العقد.
لماذا لا يعمدُ حزب العدالة والتنمية الحاكم إلى حلّ القضية الكوردية سلمياً وديمقراطياً, ما دامَ يُدركُ أنَّ المؤسسة العسكرية التي تُعادي سياساته هي المستفيدُ الوحيدُ من أزمات الداخل التركي, وفي الصدارةِ منها بقاء حزب العمال الكوردستاني, الذي يوفرُ غطاءً غير مباشر وغيرَ مُعلن وربما غير مدرك لفساد واختلاسات المؤسسة العسكرية التركية وتحالفها السري مع منظمات مافيا واغتيالات, ويدركُ حزب العدالة والتنمية, أن انتصاب المؤسسة العسكرية على قدمين ثابتتين راسختين في الأرض, مردّهُ إلى وجود حزب العمال الكوردستاني وبقاء القضية الكوردية في تركيا دونما حل, أ ليسَ من مصلحة الحزب الحاكم الطموح إذن تجريدُ المؤسسة العسكرية من مخالبها وأظافرها حتى, عبرَ الاعتراف بالهوُّية الكوردية, واعتماد حل سياسي ديمقراطي للقضية الكوردية, وإجراء نوع من المصالحة الداخلية, التي تنهي عقوداً من العنف الذي لا يخدم الطرفين الكوردي والتركي؟.
ألا تتوجسُ حكومة العدالة والتنمية خيفةً من تصاعد موجة العداء الداخلي للكورد, وهجوم أنصار اليمين المتطرف على مؤسسات ومنازل الكورد في بعض المدن التركية, وامتدادُ موجة العداء إلى المدن الأوربية التي تقطنها جالياتٌ تركية وكوردية, وهوَ أمرٌ حدثَ على الأقل في حي “سينت جوس” البروكسلي وتجمعات أخرى في مدن أوربية أخرى, وهوَ أمرٌ مرشحٌ لأنْ يكونَ من مقدمات صراعٍ داخلي كوردي – تركي إذا ما غادرَ الكوردُ في تركيا حالةَ ضبط النفس؟.
وكانَ لُزاماً على الحكومة التركية التي كبحت التغطية الإعلامية التركية فيما خصَّ الجنود الأتراك القتلى والأسرى بنتيجة غارةٍ لحزب العمال, وقيَّدتْ وسائل الإعلام إثرَ ذلك حرصاً منها على المشاعر التركية, أنْ تطلبَ منها أيضاً الحفاظَ على هواء تركيا خالياً من التحريض الإعلامي العنصري, وتكبحَ الأحقاد الصغيرة لجنرالات الزوايا الصحافية أيضاً, إذا كانَ يهمُّ الحكومةَ حقاً استقرارُ تركيا ووحدتها المطلوبة.
لماذا هذا الإصرارُ التركي الأعمى (السياسي والعسكري) على حشدِ هذا الكم الهائل من الجنود (يبلغ تعداده بحسب الإعلام التركي 150 ألفاً) والآليات العسكرية, إذا ما كان الهدفُ المُعلنُ هو استهداف مقاتلي العمال الكوردستاني في جبل قنديل؟.
ألا يشي ذلك بوجود نيِّةٍ مُبيَّتة في خلط الأوراق في كوردستان العراق الفيدرالي؟.
سيما وأنَّ المؤسسة العسكرية التركية, وهي التي خبِرت الحزب منذ 1984 وإلى الآن, تدركُ استحالة القضاء عليه بجيشٍ نظامي وبجبهةٍ قتالية نظامية, وهو الحزبُ الذي يعتمدُ تكتيكَ حرب العصابات ولم تفلحْ كلُّ المحاولات التركية السابقة في إنهاءه, ومن هذه المحاولات السابقة توَّغلُ تركيا في كوردستان العراق خمساً وعشرين مرةً منذ النصف الثاني من ثمانينيات القرن المنصرم, وسلسلةُ حواراتِ صحيفة “ملليت” التركية مع عشرين جنرالاً تركياً لعبوا دوراً هاماً في المؤسسة العسكرية التركية نشرت خلال الفترة الماضية, فيها إقرارٌ بفشل المؤسسة في إجهاض القضية الكوردية واقتلاع ورقة حزب العمال الكوردستاني, أم أن تركيا بكل هذا الحشد تريد إعادة العراق إلى حدوده في هدنة “مودرس” التي أخرجت السلطنة العثمانية من الحرب العالمية الأولى؟.
المطلوبُ من تركيا قبلَ أيَّّ تهديدٍ بعمل عسكري وأيَّ تحريضٍ على الآخر المختلف الداخلي وفي الجوار, أوربةُ سلوكياتها كدولةٍ تريدُ اجتيازَ غربال ” كوبنهاغن ” وإحداث قطيعةٍ مع إرثها الدموي, وعلى المؤسسة العسكرية إعادة انتشارها خارج السياسة والثقافة والمجتمع والتشرنق في الثكنات العسكرية, وعلى القوميين الأتراك وجنرالاتهم إخراجُ بيضهم من السلة الأتاتوركية المتخلفة, التي لمْ تنتج طيلة عقود سوى التأخر والقهقرى حتى تستطيع تركيا أخذ مكانها في النظام العالمي الجديد, مطلوبٌ منها أيضاً مصالحةُ الذات والتاريخ والداخل والبرِّ بالحقوق والحريات وتقاليد التمدن والقفز فوق ورقة الأخطار الأمنية, التي تبدو ورقة خريفية ساقطة, ولا مبرر للتستر بها, وإلا فإن تركيا ستبقى ممتطية صهوة موجة الاتجاه المعاكس في عالم اليوم.
تركيا الرسمية, تركيا الجنرالات, وتركيا الإعلام العسكريتاري اليوم, تنجحُ في إحلال التكسير المجتمعي وخلط السياسي بالإيديولوجي, في مقاربتها للشأن الكوردي الداخلي, والشأن الكوردي المجاور في جنوبه, وهي تعلمُ أنْ لا يمكن لدولةٍ الخروج من رحم العفونة, إذا ما حوَّلت القضايا الكبرى في داخلها إلى دريئةٍ لبنادق الإنكشارية الجديدة, وكان يمكنُ لها تفادي ذلك, عبرَ البحثِ عن حلولٍ ذات جدوى لهمِّها الحضاري, كان يمكنُ للتنمية الوطنية والديمقراطية الكاملة والاعتراف بوجود الآخر المختلف وحريته في رسم آفاق هويته أنْ تكونَ مفاتيحاً لتركيا متوغلة في العصر أكثرْ, لا تركيا تتحينُ الفرصَ للتسللِ إلى سريرٍ حرام عليها في الجوار, ولا مراءَ في أنَّ تركيا ملزمة اليوم, بالبحث عن إجابات على أسئلةٍ لا تحصى, منها على سبيل المثال لا الحصر: لماذا تحولت تركيا إلى دولة قزمة على خارطة العالم اليوم؟.
ولماذا ترسب تركيا في مادة “القضية الكوردية”, ولا تر البديلَ سوى في محاولة قتل المادة بدلاً عن الإتيان بحلولٍ لها ليست مستحيلة؟.
ولماذا تركب تركيا موجة الاتجاه المعاكس اليوم؟.
هلْ ما نشهدهُ من تعاطٍ أمريكي بارد مع تركيا, فيما يخصُّ الأزمة الحالية بين تركيا وحزب العمال الكوردستاني, وأبعدَ منه مع حكومة إقليم كوردستان العراق الفيدرالي وبالتالي العراق, هو رسالةٌ مُنبئةٌ بتصدع الشراكة الإستراتيجية التي كانت قائمةً قبلُ بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية؟.
هذا التصدُّع الواضح اليوم, والذي لا تؤثرُ عليه كلمات الرئيس الأمريكي “بوش” في المؤتمر الصحفي مع رأس الوزارة التركية “رجب طيب أردوغان”, ألا يعودُ إلى أنَّ تركيا فقدتْ أهميتها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتغلغل الولايات المتحدة واسع النطاق في الكثير من دول آسيا الوسطى ذات الجذور التركية, ونفوذها العسكري والسياسي في الشرق الأوسط, وليس مهماً بعد الآن الالتفات إلى الحليف الإستراتيجي السابق المُدّلل تركيا؟.
أم أن التصدعَ الحاصل يعود إلى أقنومٍ آخر, وهو المرتبط بالسياسة الخارجية التركية, المصوغة على أسسٍ جديدة من قبل حزب العدالة والتنمية الإسلامي, والذي وضعَ حجر الأساس الحقيقي لجملةِ تقارباتٍ مع دولٍ لم تكن في السابق تروقُ كثيراً لساسة أنقرة؟.
وهذه الانعطافة في السياسة الخارجية التركية اتضحت في الكثير من النقاط, فتركيا تعاملت بمنطق “لا ناقة لي ولا جمل” مع عملية الولايات المتحدة الأمريكية في تحرير العراق, وتتضحُ خيوطُ هذه السياسة الجديدة أكثر في افتقاد علاقتها بإسرائيل إلى الدفء الذي كان, ومحاولتها مد الجسور مع بلدان المشرق بالتزامن مع محاولاتها في نيل العضوية الأوربية الكاملة.
إنَّ التعامل التركي مع القضية الكوردية على طريقة النعامة إذ تدسُّ رأسها في رمال الأوهام لن يفيدَ تركيا, وسيفاقمُ الوضعَ أكثر فأكثر, ولعلَّ قراءة تركية رسمية وإن عابرة لمجمل سياساتها حيال الكورد, منذ تأسيس الجمهورية وإلى الآن, سيثبتُ فشلَ تلكم السياسات في دفن الهوية الكوردية وبالتالي القضية الكوردية, بلْ على العكس أثمرتْ تلكمُ السياسات التي توزَّعت بين الإنكار والصهر القومي في تبلور القضية وبروزها ووصولها إلى مرحلة متقدمة, فالدساتير التركية الأربعة أعوام 1921 و1924 و1961 و1982 ومسودة الدستور المُعدِّ مؤخراً من قبل حزب العدالة والتنمية تسكتُ عن الكورد وقضيتهم, ولم يعترفْ بوجود الكورد الوفدُ التركي المفاوضُ في “لوزان” عام 1923, كما أنَّ تركيا وابتداءً من عام 1924 فرضت حظراً شاملاً على اللغة الكوردية واللباس الكوردي أيضاً, ولا ننسَ مخطط تهجير ونفي ملايين الكورد إلى مناطق غرب تركيا الذي بُدأ العملُ به بشكلٍ سافرٍ في 1934, فهلْ أفلحتْ كلُّ تلكمُ السياسات والمخططات في تصفية الهوية الكوردية ونسف وجود الكورد التاريخي على أرضهم؟.
ثوراتٌ وانتفاضاتٌ كوردية كثيرة أثبتتْ عقمَ سياسات التتريك ولا جدواها وفشلها, منها : ثورة الشيخ سعيد بيران 1925 , وانتفاضة آغري بقيادة الجنرال إحسان نوري باشا 1930, وثورة سيد رضا 1937.
تركيا, الساعيةُ إلى دخول الفضاء الأوربي, هل يخدمها بشيء استمرارها في طمس القضية الكوردية ومعاداتها لكلِّ تمثّلٍ كوردي آخر في جوارها, ألا تعلمُ تركيا أنها بذلك تشنُّ حرباً على ” معايير كوبنهاغن “, المشجعة على احترام حقوق الإنسان وحقوق الأقليات والتعددية السياسية وتطبيق مبدأ دولة الحق والقانون والمواطنة؟.
أ ليسَ من قبيل التناقض الصارخ في السياسة التركية مطالبتها بامتيازاتٍ لقرى تركمانية في كوردستان العراق وبفيدرالية في شمال قبرص لأقلية تركية, فيما تسكتُ بالمطلق عن أيِّ اعترافٍ بالهوّية الكوردية والوجود الكوردي التاريخي في كوردستان (شرق تركيا)؟.
لماذا لا تريدُ تركيا اليوم فهمَ أنَّ في المنطقة لحظةً أمريكية تتبلورُ رويداً..
رويداً, وتحاولَ التقاطَ تلك اللحظة والتصرف على ضوءها, وهذه اللحظةُ الأمريكية تقوِّضُ اللحظتين : البريطانية والفرنسية, وتقومُ على أنقاضهما, عملاً بقانون “نفي النفي” الهيجلي؟.
إلى أيِّ مدى يخدمُ المبدأُ غير المُعلن لسياسة حزب العدالة والتنمية في الداخل التركي : “كلنا مسلمون..
كلنا أتراك” مستقبلَ تركيا؟.
وإلى أيِّ مدى هنالكَ ديمقراطيةٌ كاملةٌ – يتمُّ الحديثُ عن وجودها – في تركيا, إذا كانت هذه الديمقراطية تقوم على اللغة الواحدة والعنصر القومي الواحد, ومنتعشة على الأيديولوجيا الواحدة, مُتجاهلة بالمطلق حقوق القوميات الأخرى, عبرَ إنكارها بالوسائل السياسية والعسكرية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية؟.
ولا ننكرُ هنا أنَّ تركيا دولة ديمقراطية, ففيها برلمانٌ منتخبٌ وتداولٌ سلميٌّ للسلطة وقانونُ أحزابٍ وإعلامٌ حرٌ, ولكنها ديمقراطية فقط للعنصر التركي, وهذه الديمقراطيةُ تستبعدُ أياً آخر من مجالها المفترض وامتيازاتها.
إلى أيِّ مدى تخدمُ الإيديولوجيا الكمالية راهنَ ومستقبلَ تركيا كدولةٍ تحاولُ الانتقالَ من وضعها كدولةٍ طرفٍ إلى دولةٍ مركزية في المنطقة, ألم تنتهِ مدَّةُ صلاحية الإيديولوجيا الكمالية التي كانت ابنة الظرف التاريخي؟ وواقع العصر الديمقراطي الحالي يرفضُ هذا الضربَ من الإيديولوجيات التطميسية, بخلاف ما يراه زعيمُ العمال الكوردستاني “أوجلان”, المعتقلُ في سجنٍ تركي منذ ما يقاربُ العقد.
لماذا لا يعمدُ حزب العدالة والتنمية الحاكم إلى حلّ القضية الكوردية سلمياً وديمقراطياً, ما دامَ يُدركُ أنَّ المؤسسة العسكرية التي تُعادي سياساته هي المستفيدُ الوحيدُ من أزمات الداخل التركي, وفي الصدارةِ منها بقاء حزب العمال الكوردستاني, الذي يوفرُ غطاءً غير مباشر وغيرَ مُعلن وربما غير مدرك لفساد واختلاسات المؤسسة العسكرية التركية وتحالفها السري مع منظمات مافيا واغتيالات, ويدركُ حزب العدالة والتنمية, أن انتصاب المؤسسة العسكرية على قدمين ثابتتين راسختين في الأرض, مردّهُ إلى وجود حزب العمال الكوردستاني وبقاء القضية الكوردية في تركيا دونما حل, أ ليسَ من مصلحة الحزب الحاكم الطموح إذن تجريدُ المؤسسة العسكرية من مخالبها وأظافرها حتى, عبرَ الاعتراف بالهوُّية الكوردية, واعتماد حل سياسي ديمقراطي للقضية الكوردية, وإجراء نوع من المصالحة الداخلية, التي تنهي عقوداً من العنف الذي لا يخدم الطرفين الكوردي والتركي؟.
ألا تتوجسُ حكومة العدالة والتنمية خيفةً من تصاعد موجة العداء الداخلي للكورد, وهجوم أنصار اليمين المتطرف على مؤسسات ومنازل الكورد في بعض المدن التركية, وامتدادُ موجة العداء إلى المدن الأوربية التي تقطنها جالياتٌ تركية وكوردية, وهوَ أمرٌ حدثَ على الأقل في حي “سينت جوس” البروكسلي وتجمعات أخرى في مدن أوربية أخرى, وهوَ أمرٌ مرشحٌ لأنْ يكونَ من مقدمات صراعٍ داخلي كوردي – تركي إذا ما غادرَ الكوردُ في تركيا حالةَ ضبط النفس؟.
وكانَ لُزاماً على الحكومة التركية التي كبحت التغطية الإعلامية التركية فيما خصَّ الجنود الأتراك القتلى والأسرى بنتيجة غارةٍ لحزب العمال, وقيَّدتْ وسائل الإعلام إثرَ ذلك حرصاً منها على المشاعر التركية, أنْ تطلبَ منها أيضاً الحفاظَ على هواء تركيا خالياً من التحريض الإعلامي العنصري, وتكبحَ الأحقاد الصغيرة لجنرالات الزوايا الصحافية أيضاً, إذا كانَ يهمُّ الحكومةَ حقاً استقرارُ تركيا ووحدتها المطلوبة.
لماذا هذا الإصرارُ التركي الأعمى (السياسي والعسكري) على حشدِ هذا الكم الهائل من الجنود (يبلغ تعداده بحسب الإعلام التركي 150 ألفاً) والآليات العسكرية, إذا ما كان الهدفُ المُعلنُ هو استهداف مقاتلي العمال الكوردستاني في جبل قنديل؟.
ألا يشي ذلك بوجود نيِّةٍ مُبيَّتة في خلط الأوراق في كوردستان العراق الفيدرالي؟.
سيما وأنَّ المؤسسة العسكرية التركية, وهي التي خبِرت الحزب منذ 1984 وإلى الآن, تدركُ استحالة القضاء عليه بجيشٍ نظامي وبجبهةٍ قتالية نظامية, وهو الحزبُ الذي يعتمدُ تكتيكَ حرب العصابات ولم تفلحْ كلُّ المحاولات التركية السابقة في إنهاءه, ومن هذه المحاولات السابقة توَّغلُ تركيا في كوردستان العراق خمساً وعشرين مرةً منذ النصف الثاني من ثمانينيات القرن المنصرم, وسلسلةُ حواراتِ صحيفة “ملليت” التركية مع عشرين جنرالاً تركياً لعبوا دوراً هاماً في المؤسسة العسكرية التركية نشرت خلال الفترة الماضية, فيها إقرارٌ بفشل المؤسسة في إجهاض القضية الكوردية واقتلاع ورقة حزب العمال الكوردستاني, أم أن تركيا بكل هذا الحشد تريد إعادة العراق إلى حدوده في هدنة “مودرس” التي أخرجت السلطنة العثمانية من الحرب العالمية الأولى؟.
المطلوبُ من تركيا قبلَ أيَّّ تهديدٍ بعمل عسكري وأيَّ تحريضٍ على الآخر المختلف الداخلي وفي الجوار, أوربةُ سلوكياتها كدولةٍ تريدُ اجتيازَ غربال ” كوبنهاغن ” وإحداث قطيعةٍ مع إرثها الدموي, وعلى المؤسسة العسكرية إعادة انتشارها خارج السياسة والثقافة والمجتمع والتشرنق في الثكنات العسكرية, وعلى القوميين الأتراك وجنرالاتهم إخراجُ بيضهم من السلة الأتاتوركية المتخلفة, التي لمْ تنتج طيلة عقود سوى التأخر والقهقرى حتى تستطيع تركيا أخذ مكانها في النظام العالمي الجديد, مطلوبٌ منها أيضاً مصالحةُ الذات والتاريخ والداخل والبرِّ بالحقوق والحريات وتقاليد التمدن والقفز فوق ورقة الأخطار الأمنية, التي تبدو ورقة خريفية ساقطة, ولا مبرر للتستر بها, وإلا فإن تركيا ستبقى ممتطية صهوة موجة الاتجاه المعاكس في عالم اليوم.