نحن الكورد انفصاليون (2)

د. محمود عباس
    رغم كل نشاطات الحراك الكوردي الوطنية والمنافية للانفصال، بشكل قطعي؛ ظلت تهمة الانفصال أحد أهم أدوات التهجم عليه، كان يخمد تارة ويشتدّ تارة أخرى؛ وذلك حسب الظروف. ومن المسلم أن الشعوب تزدهر في البيئات الملائمة، والديمقراطية هي من أركان الازدهار، ولها أهميتها الكبيرة في عصرنا الراهن، لذا نراها نحن الكورد كأنجع حل لقضيتنا، لكن الأنظمة المهيمنة في شرق أوسطنا لا تناسبها الديمقراطية، فهي ماضية في وسيلتها المعروفة لإرضاخ شعوبها.
وبعد هبوب رياح ربيع الحرية عقب انهيار الاتحاد السوفيتي طرأ تغيير على بعض دول منطقتنا؛ أما بالنسبة لقضيتنا الكوردية؛ حيث زادت وتيرة التهجم عليها من قبل الشرائح القومية، وفي مقدمتها تهمة الانفصال! فكوردستان ملحقة بدول عدة، ومهضومة الحقوق، وعليه وصمنا بأكبر تهمة (الانفصال) يُراد منها تصفيتنا قوميا.
  يبدو أن تفتت الاتحاد السوفيتي أتاح لجزء من شعوب شرق الأوسط القيام بالانتفاضة في وجه طغاتها، وفي قيامها هذا عرّت ليست فقط سلطاتها الحاكمة، بل الشرائح الانتهازية والعنصريين المختفين تحت عباءة الدين والوطنية، وأبانت غاياتهم؛ حيث: خلقُ البلبلة بين شعوب المنطقة من خلال إثارة شتى أنواع التهم، وبخصوص الكورد فالتهمة الوحيدة هي الانفصال وبأساليب مبتكرة، والتي له أهميته البالغة بالنسبة لوحدة الوطن، وعلى وجه الخصوص بعدما تحقق للشعب الكردي بعض المكتسبات القومية جراء ربيع الحرية، وما تثيره هؤلاء الآن من هذه التهجمات سوى دليل بارز على دفع الحراك الكوردي نحو الانفصال، كحجة لمحو القضية من الوجود؛ إلا إن حراكنا الكوردي السوري متمسك بوحدة تراب الوطن، ويشارك مع معارضتها في النضال من أجل استعادة حريتها.
 فعلى مر تاريخنا المشترك عشنا كلنا مسالمين متساوين، جمعتنا جميعا وحدة متماسكة، إلى أن تأثر ثلة من ضعاف النفوس بالفكر القومي الغربي، مسهّلة به دخول المستعمر الأوربي إلى أراضينا، فكان ذلك أول نشوء لدول هذه المنطقة التي اعتمدت الجانب القومي في تكوينها بمساعدة مباشرة من المستعمر القادم من الغرب.
 بما أن حراكنا الكوردي يعكس سمات شعبنا، لم تجرّه مقاصد أولئك، ورأى رأي العين مخططاتهم القاضية بتصفية الكورد قوميا فكوّن شعبنا حراكا هدفه دفع الظلم المطبّق عليه، فسار على الخط الوطني ولم يحد عنه، إلا إن العنصريين من الحكام والشرائح القومية أصرّوا على اتهامه بالانفصال، وما زالوا متمسكين بنهجهم هذا حيال شعبنا إلى هذا اليوم.
كما نعلم جميعا، أن ما يُبديه الاتحاد الأوروبي اليوم، وبعد قرون من الصراع المدمر، من تعاضد بشري رائع، جدير أن يحتذى به. فرغم اختلاف المذاهب والقوميات واللغات وغيرها، جمعهم اتحاد يقوّيهم ويشدّ ظهرهم، ويدرّ عليهم الخير والمصالح النافعة. الذين سعوا إلى هذا الاتحاد كانت عقولهم متفتحة وبصيرتهم نيّرة، استخلصوا العبر المفيدة من ماضيهم المتحارب فاختاروا التآلف والتعاضد فيما بينهم.
لكن في شرقنا تستلهم سلطاتهُ نمط إدارتها من زمن أكل الدهر عليه وشرب، متمسكة بالقومية من جانبها السيء. فتفرخ صيصانا تزقزق على أنغامها، وتشدو بما يعود على الشعب بالوباء مستقبلا. فالقوانين الجائرة التي أصدرتها وتصدرها هذه الأنظمة لصهر نسيجها الوطني في بوتقتها القومية، مسترشدة بما نبذته أوروبا منذ زمن، بعد أن عانت منها قرونا، وقدمت ضحايا لا مبرر لها إلا تلبية لنزعتها القومية؛ حين جسدتها على أرض الواقع في حربين عالميتين، وقتها أبانت لها مستخرجاتها بشكل قاطع أنها كانت وباء كارثيا جلبتها لنفسها، فراحت ضحيتها ما يقارب مائة مليون من أبنائها، ناهيكم عن الخراب والدمار التي جنتها من تلك النزعة. ما يدمي القلب أن حكامنا ماضون في الاسترشاد بهذه التجربة الكارثية.
نعود ونطرح السؤال التالي: هل هناك من استفاد من التَجْرِبَةَ المُجَرّبةِ ضررها؟
وفي حالتنا الكردية السورية، لا تكلّ الأنظمة المتعاقبة على إدارة البلاد من ممارسة الضّغط بأنواعه المختلفة علينا مستخدمة شتى الوسائل، وفي مقدّمتها زجّ مطالبي حقوقنا في أقبيتها الأمنية، تزامنا مع سلب أرضنا، وطردنا منها. وكونها تفرّخ صيصانها، ليس في عقر دارها فحسب، بل تتجاوز حدودها إلى دول أخرى متأثرة بأفكارها القومية البالية، فتخصص لها مراكز دراسية وبحوثية، وفضائيات تروّج لهذه المنطلقات المثبت أضرارها الوخيمة.
 فالكوردي المضغوط من قبل هذه الأنواع القديمة والمبتكرة، يجاهد بأقصى إمكانياته درْأها، وكذلك يحاول بطاقاته المنهكة جرّاء المطبّق عليه إفهام المزقزقين من صيصانه إن ما يشدون به غير حقيقي. وهذه الزقزقة والشدو تثير الغرائز السيئة لدى الناس، وعليه سيزداد عدد المنضوين تحت لوائهم مع مرور الزمن، وبالتالي سيؤدي إلى التنازع بين النسيج الوطني المتماسك، آنئذٍ سيحصل تصدع في تلاحمه الذي يعود تاريخه إلى ألف وأربعمائة عام، والشعب الكوردي من بين أكثر الشعوب التي حافظت عليه وعلى تلاحمه رغم كل جرائم الأنظمة بحقه في الدول الملحقة بها أرضه.
نتساءل من جديد: ما القصد من هذه التهمة ومن المستفيد منها؟
يتبع…
الولايات المتحدة الأمريكية
11/3/2024م

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماجد ع محمد بعد أن كرَّر الوالدُ تلاوة قصة الخريطة المرسومة على الجريدة لأولاده، شارحاً لهم كيف أعادَ الطفلُ بكل سهولة تشكيل الصورة الممزقة، وبما أن مشاهِدَ القصف والتدمير والتدخلات الدولية واستقدام المرتزقة من دول العالم ومجيء الجيوش الأجنبية والاقليمية كانت كفيلة بتعريف أولاده وكل أبناء وبنات البلد بالمناطق النائية والمنسية من بلدهم وكأنَّهم في درسٍ دائمٍ لمادة الجغرافيا، وبما…

صلاح بدرالدين لاتحتاج الحالة الكردية السورية الراهنة الى إضفاء المزيد من التعقيدات اليها ، ولاتتحمل هذا الكم الهائل من الاخذ والرد اللذان لايستندان الى القراءة العلمية الموضوعية ، بل يعتمد بعضها نوعا من السخرية الهزلية وكأن الموضوع لايتعلق بمصير شعب بكامله ، وبقدسية قضية مشروعة ، فالخيارات واضحة وضوح الشمس ، ولن تمر بعد اليوم وبعبارة أوضح بعد سقوط الاستبداد…

المهندس باسل قس نصر الله أتكلم عن سورية .. عن مزهرية جميلة تضمُّ أنواعاً من الزهور فياسمين السنّة، ونرجس المسيحية، وليلكة الدروز، وأقحوان الإسماعيلية، وحبَق العلوية، ووردة اليزيدية، وفلّ الزرادشتية، وغيرها مزهرية تضم أطيافاً من الأكراد والآشوريين والعرب والأرمن والمكوِّنات الأخرى مزهرية كانت تضم الكثير من الحب اليوم تغيّر المشهد والمخرج والممثلون .. وبقي المسرح والمشاهدون. أصبح للوزراء لِحى…

د. آمال موسى أغلب الظن أن التاريخ لن يتمكن من طي هذه السنة بسهولة. هي سنة ستكون مرتبطة بالسنوات القادمة، الأمر الذي يجعل استحضارها مستمراً. في هذه السنة التي نستعد لتوديعها خلال بضعة أيام لأن كان هناك ازدحام من الأحداث المصيرية المؤدية لتحول عميق في المنطقة العربية والإسلامية. بالتأكيد لم تكن سنة عادية ولن يمر عليها التاريخ والمؤرخون مرور الكرام،…