شاهين أحمد
بدايةً نريد التذكير بأن الإسلام هو دين غالبية الكورد، وجزء من الهوية الروحية لتلك الغالبية. ولا نريد العودة إلى الماضي واستحضار صور المجازر والجرائم التي تعرض لها الكورد عبر مراحل تاريخية مختلفة على يد المسلمين ( دول وحكومات وتنظيمات وأفراد …إلخ ) بـحجج وعناوين مختلفة!. ومن الأهمية التأكيد هنا بأن الهدف من هذه المساهمة ليس دفع أنصار هذه الديانة لترك دينهم ، أوالابتعاد عن عقيدتهم الروحية، لا أبداً. لكن بكل تأكيد أن المساهمة تهدف من بين ما تهدف إلى بيان الفرق بين الإسلام كأحد الديانات الأكثر انتشاراً في أوساط الكورد وشعوب المنطقة والذي يجب أن يبقى ( أي الإسلام ) في إطار العلاقة بين الفرد وربه، وبين الأسلمة المتطرفة كـ وباء قاتل ومخاطرها على الوجود الكوردي كـ شعب .
والهدف الآخر منها هو دفع هذه الظاهرة – الأسلمة المتطرفة – إلى حقول النقاش الموضوعي – العلمي في أوساط المهتمين من أبناء شعبنا وذلك لما تحملها من الخطورة والحساسية. وكذلك التوقف على أسباب انتعاشها وانتشارها في أوساط الشعب الكوردي بشكل عام، وفي كوردستان العراق بصورة خاصة وملفتة. وبالتالي التوقف على أسبابها والبحث عن حواملها، والجهات التي تشجع هذه الظاهرة محلياً واقليمياً ودولياً، ومخاطرها على الوجود القومي الكوردي . ومن الأهمية بمكان التذكير بأننا كتبنا حول هذا الموضوع في مساهمات سابقة وتطرقنا فيها إلى هذه الظاهرة في منطقتنا وكذلك عن أسبابها وجذورها التاريخية، ومدى خطورتها على مستقبل المنطقة وشعوبها . وما دفعني للكتابة في هذا الموضوع من جديد تلك المشاهد الغريبة التي نقلت عن ماسمي بـ ” مهرجان التاج الذهبي العاشر لارتداء الحجاب ” في هولير عاصمة اقليم كوردستان التي نعلق عليها الآمال في منافسة دبي وهونغ كونغ …إلخ .” وقد شهد مهرجان ” تاجى زيرين ” أو التاج الذهبي السنوي الذي اقيم في هولير بتاريخ الـ 10 من شباط الجاري 2024 (هذا العام ) تطوراً ملحوظاً حيث بدأ بإعلان 3000 فتاة في مدينة هولير / أربيل بارتداء اللباس الشرعي أثناء الاحتفال بالمهرجان. ويعد ” تاجي زيرين” المهرجان السنوي الذي تقيمه منظمة التنمية لطلبة كوردستان حيث يتم تكريم الفتيات اللاتي يبدأن بارتداء اللباس الشرعي في كوردستان، ويحظى بمشاركة وحضور عدد كبير من المواطنين …”!!.ومن المفارقات المحزنة أنه في الوقت الذي تشهد فيها المملكة العربية السعودية ثورة حقيقية في الانفتاح والتخلص التدريجي من مثل هذه الظواهر نرى تشجيعاً وترويجاً وانتشاراً لها في اقليم كوردستان ، والتي لم نجد مثلها في جميع الدول الإسلامية بما فيها المراقد المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة !.وسبق تلك الفعالية المذكورة مهرجان مماثل لـ نحو 1300 فتاة ارتدين الحجاب في محافظة حلبجة بكوردستان العراق!!. والمؤسف أن هذا المهرجان الدوري السنوي يلقى اهتماماً وتغطية وترويجاً ملفتاً من قبل وسائل الإعلام المختلفة بما في ذلك تلك الفضائيات الرسمية العاملة في الاقليم !. وهنا نريد أن نلفت عناية الأشقاء في المؤسسات المعنية وأصحاب القرار، بأن هذه الظاهرة تشبه إلى حدٍ بعيد ” تسلل الأفاعي السوداء السامة التي تزحف تحت التبن ” وأن الأسلمة السياسية هي الأشد خطراً على وجود شعبنا، وأن هناك جهات معادية تقف خلف تشجيع هذه الظواهر المخيفة من خلال أدواتها في الاقليم، وأن تلك الأدوات تغيير جلودها حسب المطلوب ودون المساس في منهجية تفكيرها أو أهدافها . وعلى سبيل المثال لا الحصر ما حصل مع جماعة علي بابير، حيث غير المشاركون في المؤتمر الرابع للجماعة والمنعقد بتاريخ الـ 19 من شباط 2021 إسم حزبهم من ” الجماعة الإسلامية في كوردستان ” إلى ” جماعة العدل الكوردستانية ” وأزالوا كلمة الإسلامية ، كما استبدلوا عبارة الأمير بـ الرئيس الذي هو نفسه ” علي بابير ” زعيم ومؤسس الجماعة ، دون أن يطال التغيير ميثاق عمل الجماعة وأهدافها، كنوع من المناورة والتلون . وهكذا فعاليات وكذلك مختلف الجمعيات والمعاهد الدينية بمختلف مسمياتها تشكل جسوراً لعبور الحركات السياسية ذات الطابع الديني التي تتبنى الإسلام فكراً وتعتمده منهجاً للعمل ونظاماً للحكم وتعتقد أنه ليس مجرد عقيدة روحانية فقط ، بل أنه (الإسلام) عبارة عن منظومة متكاملة للحكم والإدارة وبناء المؤسسات وإدارتها لمختلف جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والأمنية والقانونية والاقتصادية…الخ . والمهم بالنسبة لشعبنا أن كل جماعات الأسلمة السياسية في الشرق الأوسط ( سواءً الراديكالية منها أ وحتى المعتدلة ) تقر بحق كافة الشعوب في تقرير مصيرها باستثناء حق الشعب الكوردي في تقرير مصيره ، ومواقف قادة هذه الحركات واضحة تماماً تجاه قضية شعبنا وجوداً وحقوقاً. وتختلف هذه الحركات لجهة الأساليب والوسائل التي تعتمدها في تحقيق أهدافها، فمنها تعتمد العنف والإرهاب وتوظفها في سبيل تحقيق أهدافها كما حصل في أفغانستان وسوريا والعراق وليبيا واليمن …الخ. ومنها ما تعمل من خلال الوسائل السلمية لتحقيق أهدافها مستغلة الهوامش الديمقراطية عبر الانتخابات . ومع إنطلاق ثورات الربيع في المنطقة منذ بداية عام 2011 ونجاح بعضها في وضع نهاية لبعض الدكتاتوريات كما حصل في تونس ومصر وليبيا حيث سيطرت أجنحة الأسلمة على الحكم فيها، وبالتالي النشوة الأولية لتلك التغييرات أدت إلى بعث الروح والأمل في غالبية جماعات الإسلام السياسي في المنطقة والاقليم . ونظراً لضيق الآفاق وغياب الرؤى الوطنية الواقعية لدى مختلف جماعات الأسلمة السياسية بشكل عام، وفشلها في الإدارة ،حصلت ردات فعل عكسية من جانب مراكز القوى العسكرية والفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وكانت نتيجتها إزاحة تنظيمات الأسلمة السياسية عن الحكم وإعادة إنتاج نماذج حكم مماثلة لتلك التي حكمت المنطقة لعقود قبل اندلاع ثورات الربيع . الغاية من ذكر بعض الأمثلة ، وطبيعة تلك الحركات هي وضع القارئ الكريم وخاصة الاشقاء في اقليم كوردستان في صورة حقيقة هذه التنظيمات التي تخلط الدين بالسياسة عن وعي وتخطيط ،وعدم أهليتها لبناء الأوطان وقيادة المجتمعات والدول وإدارتها. لأنها حكماً ستدفع بالشعوب إلى حالة الانقسام والصراع الداخلي . وشعب كوردستان العراق معروف عنه تاريخياً بروح التسامح والاعتدال الديني والمذهبي، بات اليوم مهدداً فعلياً من جانب هذه الجماعات ، فبالإضافة للتدخلات الاقليمية المستمرة بشكل عام والإيرانية بصورة خاصة يتعرض اليوم لهجمة شرسة مخططة من جانب قوى الظلام والتطرف والإرهاب المدعومة من مختلف الجهات المعادية للوجود القومي الكوردي . ونتذكر التفجيرات الإرهابية الانتحارية الدموية التي قامت بها تنظيمات إسلامية متطرفة استهدفت قيادات كوردية بارزة في مقر البارتي ومركز تنظيمات الاتحاد في هولير خلال استقبال المهنئين بالعيد بتاريخ الـ 2 من شباط 2004 . ومن المفارقات المحزنة أنه أثناء هجوم تنظيم داعش الإرهابي على منطقة كوباني – كوردستان سوريا في منتصف أيلول 2014 كان من بين مقاتلي التنظيم الإرهابي العشرات من الاصول الكوردية غالبيتهم من حلبجة الشهيدة وكان الموقف الأشد ألماً وحزناً أن يتقابل مقاتلان كورديان أحدهم يستبسل للدفاع عن الكورد وممتلكاتهم والآخر مجند من قبل هؤلاء المتطرفين ويهاجم الكورد ويدمر قراهم ومدنهم !.
نكرر ونقول بأن الغاية من كتابة هذه المساهمة هو الوقوف على أسباب هذه الظاهرة، والجهات التي تقف خلفها وتشجعها وتمولها وتقدير مخاطرها ،وليست شيطنة أنصار هذه الديانة التي تنتمي إليها روحياً غالبية الشعب الكوردي وأنا منهم . لكن وكما أسلفت ، فإن الدين تحول إلى ستار يتم استغلاله من قبل أدوات مشبوهة تعمل لدى جهات معادية وتستهدف الوجود القومي لشعبنا. والصراع بين القوى السياسية المعتدلة تشكل إحدى الثغرات التي تتنفس من خلالها وتتغذى عليها المتطرفين . ومن المفيد التذكير بأن الصراع مع الأسلمة السياسية والتخلص من شرورها يجب أن يتم عبر خطة علمية شاملة، أمنية وتربوية وتعليمية وفكرية – ثقافية و سياسية ، وأن تحظى بالأولوية لدى الأشقاء في ذاك الجزء العزيز الذي يشكل ملجأً لكل الكورد . ومن الأهمية هنا معرفة أن تنظيمات الأسلمة السياسية في كوردستان بصورةٍ خاصة تعمل لتجريد الإنسان الكوردي من خصوصيته القومية، وتفريغه من جوهره وتحويله إلى كائن مسلوب الإرادة وفاقد التفكير، ومسير بشكل كامل، ومجرد عبيد لأفكار وأوهام ليست لها أساس لا في العلوم المختلفة ولا حتى في حقيقة الأديان . لذلك من الضرورة الانتباه إلى خطورة هذا الوباء الذي بدأ يتغلغل في مفاصل المجتمع الكوردستاني بشكل مخيف، الأمر الذي يحتم العمل على فصل الدين عن العمل السياسي ومؤسسات الدولة. نتمنى على الأشقاء في كوردستان العراق ومن خلال مؤسساتهم الشرعية المنتخبة، والأجهزة الحكومية، والهيئات التربوية والتعليمية التي تمثل شعب كوردستان بمكوناته المختلفة القيام بسن قوانين لمنع وحظر أية نشاطات من هذا النوع أو أحزاب سياسية على أساس ديني . بمعنى يجب أن يتم وضع ضوابط ومحاذير واضحة وحازمة للحد من هذه الظواهر ومنعها ، وحماية تجربتهم الديمقراطية ومكسبهم القومي الكبير . ومن هنا فإن تنظيم العلاقة بين الدين والسياسة وفق ضوابط عملية لايعتبر أحد أهم مقومات الاستقرار فحسب، بل يقطع الطريق على محاولات تقسيم المجتمع وإدخاله في حالة الصراع والاستنزاف والضياع .