مقارنات حضارية للبحث عن الخلل!

كفاح محمود
    في خضمّ المراوحة التي تعيشها معظم بلداننا في الشرق الأوسط منذ مطلع القرن الماضي وحتى يومنا هذا، والمتمثل ببطئ تقدمِها إلى الأمام وفشلها الذريع في تطوير مؤسساتها وتنمية الإنسان فيها، تتبادر إلى الأذهان والألسن مقارنات بينها وبين مجموعة دول أخرى لا تختلف كثيراً عنها؛ مقارنات تنتج أسئلة تبحث عن إجابات رغم أن الأمر لا يتعلق بتلك الإجابات الإنشائية أو التبريرية في معظمها، بل هو البحث عن مكامن الخلل البنيوي الذي يتعلق بجملة من المرتكزات في البناء والأسس والتركيبات التربوية والاجتماعية وربما العقائدية، وما يلحق بها من عادات وسلوك متوارث، ناهيك عن التأويلات والتفسيرات لكثير من النصوص والعقائد والنظريات في مجتمع قَبَلي وأسري يرتبط عضوياً بالبداوة والزراعة، وما يتعلق بهما من قوانين وضوابط وارتباطات؛ ولذلك ذهبنا إلى محاولة لمقاربة مجتمعات هي الأقرب في ظروف تكويناتها وطبيعة تركيباتها الاجتماعية والاقتصادية.

 

   فعلى سبيل المثال، الثورة الصينية التي وقعت في 1949، وكانت بحق حدثاً مهماً في قارة آسيا، تبعها بعد سنتين حدث لا يقل أهمية في قارة أفريقيا ألا وهو الثورة المصرية عام 1952م، والثورتان حدثتا في مملكتين من أعرق ممالك التاريخ، مملكة مصر وارثة ممالك الفراعنة أعظم حضارات الدنيا، وممالك الصين وحضاراتها الغائرة في أعماق الزمن، والمثير أنّ الثورتين الصينية والمصرية تصنفان على يسار الحركة السياسية في العالم آنذاك، وهناك الكثير من التشابهات بين الدولتين والشعبين فيما يتعلق بالتاريخ والحضارة التي تمتد في كليهما إلى عدّة آلاف من السنين، إضافةً إلى التشابه في نسبة الفقر والأمية العالية قياساً لكثافة السكان، مع انخفاض مريع لإنتاجية الفرد والمجتمع إبان قيام الثورتين،
   وربما بعدهما بسنوات ليست طويلة ما حدث في كوريا ثم قيام الثورة العراقية في تموز 1958م والكثير من التشابهات بين هذه الدول وأنظمتها الاجتماعية المحافظة وما جرى فيها خلال عدة عقود من الزمن المزدحم بالإنجازات في بعضها والمتقهقر في بعضها الآخر. ورغم أن مجموعة دول الصين وملحقاتها في تايوان وهونغ كونغ، وكوريا وإندونيسيا وماليزيا وسنغافورة، خاضت حروباً وصراعات كثيرة، لكنها رغم ذلك وبعد ما يزيد على سبعين عاماً بقليل استطاعت أن تُحدث تغييراً نوعياً كبيراً في مسار تقدمها وشكل ومضمون حضارتها، وبالذات في الصين العظمى والصغرى في تايوان والأصغر في هونغ كونغ، وما حصل من تطور مذهل في كوريا الجنوبية وماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة، ومقارنة مع مجموعتنا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عما حصل خلال ذات الحقبة الزمنية من تقهقر مريع وحصاد هزيل في بلداننا، ندرك البون الشاسع بين دولنا وأنظمتنا وبين تلك المجموعة التي كما قلنا لا تختلف ظروف تكوينها وموروثاتها وكيف غدت دول مثل العراق وسوريا ومن ماثلهما من أنظمة ودول بقياسات زمنية واجتماعية وسياسية متقاربة قياساً إلى ما حدث في الصين الصغيرة منها والعظمى، وما نتج في كوريا وكثير من بلدان جنوب شرق آسيا التي لا تختلف كثيراً عن دولنا وشعوبنا.
   هذه المقارنة وما تنتجه من أسئلة تقودنا إلى البحث عن مراكز القوة في المجموعة الأولى التي أنتجت لنا تقدماً مذهلاً خلال هذه السنوات السبعين في كل من الصين وكوريا الجنوبية وماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة، وفي الطرف الآخر، أي في مجموعتنا هنا في الشرق الأوسط عموماً، وحصرياً في دول الحضارات القديمة، أين تكمن نقاط الضعف والخلل التي تسببت في هذا الانهيار والتقهقر والانكفاء؟
   وكما يقول الأطباء فإن التشخيص نصف العلاج، خاصة عند إجراء مقارنة بين الصين وكوريا الجنوبية وماليزيا وبقية مجموعتنا في الشرق الأوسط والتي تتشابه كثيراً في طبيعة مجتمعاتها وأوضاعها، هذه المقارنات قد تقودنا في رسم خارطة طريق للأجيال القادمة لا تعتمد ذلك الكم الهائل من الموروث المربك والمعيق وما يلحقه من عادات وتقاليد ونظريات وتأويلات اجتماعية ودينية أثبتت فشلها على أرض الواقع، وكان الاعتماد عليها سبباً رئيساً لفشل كل أنظمتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية، وحان الوقت رغم كل ما جرى أن نعتمد مرتكزاً أساسياً للتقدم دونما شعارات رنانة ألا وهو التعليم الحديث والتأهيل البشري ضمن سياقات حضارية معاصرة لا تخضع لتلك الموروثات التي أثبتت فشلها في حياة شعوبنا وأنظمتنا.
kmkinfo@gmail.com

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

شيروان شاهين سوريا، الدولة ذات ال 104 أعوام البلد الذي كان يومًا حلمًا للفكر العلماني والليبرالي، أصبح اليوم ملعبًا للمحتلين من كل حدب وصوب، من إيران إلى تركيا، مرورًا بكل تنظيم إرهابي يمكن أن يخطر على البال. فبشار الأسد، الذي صدع رؤوسنا بعروبته الزائفة، لم يكتفِ بتحويل بلاده إلى جسر عبور للنفوذ الإيراني، بل سلمها بكل طيبة خاطر…

ماجد ع محمد بعد أن كرَّر الوالدُ تلاوة قصة الخريطة المرسومة على الجريدة لأولاده، شارحاً لهم كيف أعادَ الطفلُ بكل سهولة تشكيل الصورة الممزقة، وبما أن مشاهِدَ القصف والتدمير والتدخلات الدولية واستقدام المرتزقة من دول العالم ومجيء الجيوش الأجنبية والاقليمية كانت كفيلة بتعريف أولاده وكل أبناء وبنات البلد بالمناطق النائية والمنسية من بلدهم وكأنَّهم في درسٍ دائمٍ لمادة الجغرافيا، وبما…

صلاح بدرالدين لاتحتاج الحالة الكردية السورية الراهنة الى إضفاء المزيد من التعقيدات اليها ، ولاتتحمل هذا الكم الهائل من الاخذ والرد اللذان لايستندان الى القراءة العلمية الموضوعية ، بل يعتمد بعضها نوعا من السخرية الهزلية وكأن الموضوع لايتعلق بمصير شعب بكامله ، وبقدسية قضية مشروعة ، فالخيارات واضحة وضوح الشمس ، ولن تمر بعد اليوم وبعبارة أوضح بعد سقوط الاستبداد…

المهندس باسل قس نصر الله أتكلم عن سورية .. عن مزهرية جميلة تضمُّ أنواعاً من الزهور فياسمين السنّة، ونرجس المسيحية، وليلكة الدروز، وأقحوان الإسماعيلية، وحبَق العلوية، ووردة اليزيدية، وفلّ الزرادشتية، وغيرها مزهرية تضم أطيافاً من الأكراد والآشوريين والعرب والأرمن والمكوِّنات الأخرى مزهرية كانت تضم الكثير من الحب اليوم تغيّر المشهد والمخرج والممثلون .. وبقي المسرح والمشاهدون. أصبح للوزراء لِحى…