ماجد ع محمد
يعي المواطن السوري الذي عاش في البلد قبيل انطلاق الاحتجاجات الجماهيرية في عام 2011 أن الدمامل النتنة المنتشرة في أجساد المؤسسات الأمنية والعسكرية خارج مناطق سيطرة النظام، هي لا شك من إفرازات تقيحات جسد النظام نفسه، والصديد الموجود في الأجساد الجديدة هو اِمتداد طبيعي لذلك الأصل، طالما لم تقم أيَّة عملية من عمليات الغربلة للمنضمين للكتائب المناهضة للنظام بعد انشقاقهم، وما من التهابٍ مشكوك به خُضع لعمليات المعالجة، وما من بؤرةٍ عفنة تم ركنها جانباً ليتم جردها من مقابحها من ثم يُسمح لها بالانضمام، إنما بالعكس فقد جرى اِحتواء كل الزناخات التي كان من المفروض تركها فوق المكبات وليس اِحتضانها.
كما لا يحتاج الأمرُ الكثير من البحث والتحري والتحقق لإدراك أن الأنظمة الاستبدادية من طبيعتها التعويل على الفساد والإفساد وتفريخ المفسدين لدوام عمرها، باعتبار أن الفاسدون هم الأدوات الطيعة، وبنفس الوقت هم حُماة فعليين للأنظمة الاستبدادية، ليس دائماً حباً بها أو من شدة ولائهم لها، إنما بكونهم من جهة يتعلقون بمصالحهم الشخصية بالدرجة الأولى على حساب كل شيء،
ومن جهة أخرى أذيالهم ولِحاهم في قبضة أجهزة تلك الأنظمة؛ وهو ما يدفعهم للتمرغ في قيعان العفونة أكثر لكي يحافظوا على استمرار تلك المصالح، ولديهم الجاهزية لفعل ما يُطلب منهم مِن قبل مَن يُحقق مصالحهم أو يتحكم بهم، وذلك بما أن للفاسدين ملفات جاهزة بحوزة الأجهزة الأمنية التي تشجع الفساد وتدعم الفاسدين لضمان خنوعهم، إذ متى ما أراد فاسداً منهم الخروج عن السكة المرسومة له، أُخرج ملفه من أدراج الأمن وتم ابتزازه من خلال تلك الملفات ليكون عندها أكثر ولاءً لتلك الأجهزة مِن قَبل، بل وخوفاً على ذاته حينها يغدو مستعداً للقيام بكل ما أوتي من الوضاعة بحق أقرانه من أفراد أو عائلات البلد.
ومَن عاش في سوريا وعايش فصول الإفساد التي عُمل على تعميمها في قطاعات واسعة من المجتمع، يتذكر جيداً الخسة التي وصلت إليها فئات لا بأس بها من أبناء ذلك المجتمع، وحيث أن أنفار تلك الشريحة المنتشرة في عموم البلد صار لديهم قناعة راسخة بأنهم كلما أضروا بالعباد وهدَّدوا حياة الآخرين كان ذلك الأمر يُقربهم أكثر من عتبات السلطة، لذا صارت وظيفة تلك الفئات المعجونة بمياه الخسة هي النيل من أي قريبٍ أو غريب يختلفون معه أو يكرهونه لسببٍ ما، أو إلحاق الأذى بأي شخص يتشاكلون معه على المستوى الاجتماعي أو الاقتصادي أو الفكري أو السياسي، لأنهم من خلال ذلك القرف الصادر عنهم يضمنون رضا الأجهزة الأمنية عنهم، وبالتالي يثبتون ولاءهم للدولة ورموزها وكل ما يتعلق بها من خلال اقتراف كل ما هو مستقبح ومناوئ للقيم الإنسانية والأخلاقيات التي حث عليها الرسل والحكماء والمفكرون والفلاسفة.
كما يُدرك من عاش في سوريا بأن دناءة وقسوة ورعب الأجهزة الأمنية هناك كان وراء اِلتحاق آلاف الناس بالثورة على أمل التخلص من الإرث الخسيس الذي عممته الأجهزة الأمنية وأفرع حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم في المجتمع، وحيث كان الأمر بالنسبة لوضيعي النفوس من ناهشي الأجساد باسم صون الوطن محط تباهٍ دائم بأن يكونوا عملاء ومخبرين للأمن ليس حفاظاً على سلامة الدولة أو المجتمع، إنما حباً بالتفاخر بمرافقة تلك الأجهزة ورضاها عنهم ككلاب لا يضاهيها أحد في الوفاء، ومن جهة ثانية لينتقم ذلك القميءُ أو يتسلط على باقي الناس ممن لم يقبلوا على أنفسهم بأن يكونوا على سوية أيّ متعاملٍ رخيص أو واشٍ وضيع.
فكان أحد أهم أسباب قيام الثورة في سورية هو التخلص من العقلية الأمنية والسلوك الأمني وعسف وطغيان الأمن مع عامة الناس، وكان التحرر من قبضة المخابرات غاية وهدفاً وأملاً عظيماً تمنوا بدايةً تحقيقه، ومن ثم عمل الشرفاء الأوائل ممن التحقوا بالجيش الحر على تدمير بعض حصون الأجهزة الأمنية وتحطيم قلاع الرعب التي دشنتها السلطة في العقول إلى جانب مقراتها على أرض الواقع، ولكن ما حدث فيما بعد هو أن نفس قيم وسلوكيات ومقابح الأجهزة الأمنية استُنسخت وعُممت، ويتم العمل بها حرفياً حسب شهادات مئات المواطنين في المناطق المتاخمة لتركيا، وحيث أن الخسة التي تربى عليها الوضعاء من أبناء المجتمع إبان النظام، سرعان ما أعادوا ترسيخها من خلال الأجهزة الأمنية الجديدة في الشمال السوري، وبعثوا من جديد تجربة الأسد فيما يتعلق بسطوة أجهزة الأمن وشوق الإلتصاق بها ليس من أجل حفظ الأمن وإحلال الأمان والاستقرار، إنما من أجل تهديد حياة الآمنين الذين لا معارف لهم في الجيش أو الأجهزة الأمنية، وصار المواطن النبيل في الشمال يرى بأن التعلق بأحذية الأمن والعسكر والاستقواء بهم على الغير والإحتكاك بحذاء المخابرات وأصحاب النفوذ غدا سلوكاً ملحوظاً لدى فئة كبيرة من الأوادم هناك، كما كان الأمر عليه لدى النظام السوري قبيل 2011.