د. محمود عباس
ارتدادات زيارة أنتوني بلينكن إلى تركيا ودول الشرق الأوسط، والتي بدأت من صباح هذا اليوم السبت 6/1/2024م وعنوانها الرئيس، كما هو معروف للجميع، قضية قطاع غزة والعمل على عدم توسع رقعة الحرب في المنطقة، وكانت المحطة الأولى إستانبول – تركيا، التقى فيها بأردوغان ووزير خارجيته، دون أن يتبعها أي لقاء صحفي أو تعليق رسمي على مجريات المفاوضات وليست الحوارات، وقد كانت تركيا في المقدمة لعدة اعتبارات، أولها: التصريحات النارية الصادرة من أنقرة ضد إسرائيل طوال الشهور الثلاثة الماضية، مع أفعال ميدانية تناقضها، وأمريكا تدرك أن الغاية من خلفية هذا التناقض أبعد من مساعدة الفلسطينيين، بل هي مصالح تركيا الجامدة مع أمريكا.
والزيارة المكثفة من قبل وزير الخارجية ليست كما يقال على أنه رد فعل على تصريحات حسن نصر الله؛ صوت إيران الصارخ في المنطقة.
الكل يعلم أن أهم الملفات هي التي تم التفاوض عليها مع تركيا ولم تكن ناجحة، ليس لثقل مطالب أردوغان بل ما عرضته أمريكا عليها، وفي مقدمتها دمج القضايا السابقة مع ملف غزة، ومن بينها تسليم بعض قيادي حماس إلى إسرائيل، والتي على الأرجح نفى أردوغان وجودهم في تركيا أو في سجونها وبأنه طلب منهم مغادرة تركيا بعد عملية طوفان الأقصى مباشرة، وعلى الأغلب ربط أنتوني بلينكن الطلب مع قضية قبول السويد في حلف الناتو والتي، كما يعلم الجميع، أن تركيا تعارض، عارضة طلبين بالمقابل، الموافقة على إعطائها طائرات ف-16 المتطورة، وتقوم السويد بتسليم بعض القياديين الكورد إليها ويتبع الطلب الأخير وما وراء الأروقة الدبلوماسية قضية الإدارة الذاتية، وإعادة النظر في التحالف الجاري بين القوات الأمريكية وقوات سوريا الديمقراطية التابعة للإدارة الذاتية، وعدم الاعتراض على اجتياحها، وربما هذه هي المرة الأولى بين عدة لقاءات سابقة كفة مطالب أمريكا رجحت على مطالب تركيا، أي عمليا، وبنظر أمريكا، تركيا تنضم إلى الحلف الروسي الإيراني الصيني لإخراجها من المنطقة.
لا شك، كانت من ضمن الملفات على طاولة المفاوضات والتي طرحها أردوغان ومن ثم وزير خارجيته حاقان فيدان طوال الساعتين، كان ملف غربي كوردستان، القضية التي لا تغيب عن حواراتهم مع أي طرف سياسي، ومع إدراكهم أن أمريكا متمسكة بموقفها الرافض، لكنهم كانوا يأملون في هذه المرة إحداث خلل في العلاقة الأمريكية، وخلق السلبيات حول حاضر الإدارة الذاتية وربما قادم التحالف الأمريكي مع قوات قسد.
فأردوغان الميكيافلي يدرك بأنه من السهل لأمريكا أو أية دولة ومن البعد السياسي والعلاقات الإستراتيجية مقايضة أي ملف مقابل قضية أهم، ويتوقع أن تكون قضية حرب إسرائيل على حماس والحصول على دعمه كدولة إسلامية أهم لإستراتيجية أمريكا من الحفاظ على تحالفها مع قوات قسد، متناسيا ومن على خلفية خباثته السياسية أن وجود الولايات المتحدة الأمريكية عسكريا وسياسيا في غربي وجنوب كوردستان أصبح جزء من استراتيجية الصراع مع روسيا وإيران والصين في المنطقة.
ومن الجهة الأخرى أستند أردوغان على عمليات التصعيد القادم من أدوات إيران وأزرعها في المنطقة، والتي أصبحت من أولوياتها في الواجهة خلق بعض القلاقل للقواعد الأمريكية ومصالحها في المنطقة، وليست ضربها إلى درجة قد يكون الرد الأمريكي صادما لإيران، وهنا يتضامن وبشكل مباشر مع محاولات روسيا وإيران لإخراج دول الحلفاء وعلى رأسهم أمريكا من المنطقة بدون حروب شاملة، وتركيا تدرك أن غاية إيران الإستراتيجية الأبعد ليس فقط الهيمنة على المنطقة بل ضرب إسرائيل، وهي واضحة لجميع الدول المعنية بالأمر وخاصة أمريكا لذلك تضع خط أحمر أمام بعض الدول بعدم تجاوز حدود بعض الملفات والمطالب، وعلى رأسها وجودها في سوريا والعراق، وربما تحالفها مع قوات قسد والتي تعلم الدول المحتلة لكوردستان أن الثقة الأمريكية بهم والتحالف معهم مبنية على أسس متينة ونابعة من حرب واسعة مشتركة ضد داعش امتدت قرابة عقد من الزمن، وبهم تم القضاء على إحدى أخطر المنظمات الإرهابية على أمن أمريكا مثلما كانت على المنطقة، لذلك فالتحالف معهم حتى ولو أنه جزء بسيط لكنه مهم ضمن استراتيجية واسعة الأبعاد، تشمل الصراع مع روسيا والصين وإيران.
وعلى الأغلب جميع الحوارات، بدءَ من تركيا إلى مصر مرورا بدول عدة والضفة الغربية أي السلطة الفلسطينية، تتمحور حول كيفية وقف الحرب على غزة وما يخطط لمستقبلها وإدارتها، مع التأكيد على عدم عودة حماس إلى الساحة، مع ذلك مستقبل القطاع أصبح من أعقد أطراف المعادلة والتي جلبت أنتوني بلينكن إلى المنطقة للمرة الرابعة خلال ثلاثة أشهر، والدول المعنية بالأمر بدأت تطرح عدة حلول ما بين إدارات مدنية فلسطينية وسلطة عسكرية إسرائيلية وغيرها، وجميعها تؤكد على عزل حماس كما نوهنا، كما تخطط إسرائيل بالقضاء عليها، علما أنها جدلية غير قابلة للتطبيق، ربما تتمكن من حصر نشاطات الحركة أو إضعافها لكنها لن تقضي عليها والأسباب عديدة منها مصلحة إسرائيل ذاتها، ففي أبعاد سياسية وعسكرية ما قدمته حماس لحكومة نتنياهو لا تقل عن الرد الفعل الدولي السلبي حول عملية طوفان الأقصى، والتي كان سببا في تدمير غزة وتهجير شعبها، أي عمليا المسبب هي حركة حماس والجهاد الإسلامي، والمنفذ حكومة نتنياهو، والكل يدرك هذه الجدلية رغم صمتهم.
وأمريكا تدرك خلفيات هذا الصمت ويحاول وزير خارجيتها من خلال جولاته على تجاوزها مركزا على عدم انتشار رقعة الحرب وانتقالها من جغرافية غزة وربما جنوب لبنان إلى المناطق الأخرى، وخاصة إلى العراق وسوريا، والتي قد تمتد إلى دول الخليج وهنا ستكون الكارثة الأكبر، وهي من الأسباب التي تدفع بالقوات الأمريكية بالرد على أدوات إيران بأسلوب كلاسيكي، وترك الرد الأقوى لقوى الأمن الخارجي، أي الاكتفاء بتصفية قياداتها، في دمشق وبيروت والعراق وقد تطال إيران واليمن قريبا، وستحاول تركيا النأي منها بأروقة خاصة عن طريق الناتو، وهو ما فعله أردوغان عندما طلب من قيادات حماس بعد عملية طوفان الأقصى الخروج من تركيا، مع الاحتفاظ بالخباثة الدبلوماسية وهي استمرارية التصريحات النارية، وأردوغان مشهور بسلاطة لسانه، وذلك لطرح مطالبه، ومن بينها القضية الكوردية على طاولة المفاوضات، وعلى رأسها فك الارتباط مع قوات قسد، كما هو معروف للجميع المحليين السياسيين، علما أنه لم يعد يطرح إشكالية الاجتياح على الإعلام، لكنها حاضرة في كل الحوارات مع أمريكا، ومن ضمنها هذه المرة ربما بلسان أكثر نزقا، والنتيجة كانت كسابقاتها وهي الرفض، وتتبين من خلال الصمت الذي ساد الطرفين بعد المفاوضات، مع ذلك لا بد من مراقبة التطورات بعد عودة الوزير من جولاته.
بعض الملفات التي يحملها أنتوني بلينكن محلولة ومتفقة عليها مسبقا، وبعضها سيتم الحوار عليها مع عرض صفقات متبادلة، ومن بين الأخيرة لا يستبعد أن تكون قضية التخفيف من التصريحات بحق إسرائيل مقابل غض الطرف على اعتداءاته على غربي كوردستان وحيث عمليات الاستنزاف الاقتصادي الدافع إلى التهجير القسري كتمهيد لتغيير ديمغرافيتها الكوردية المتبقية في المنطقة، فلا بد من مراقبة ما سيقوله أردوغان في الأيام القادمة.
طاولات المباحثات مع الدول المعنية بالزيارة، مليئة بالملفات المتممة، كملف الإدارة الذاتية وقوات قسد في غربي كوردستان، والتي جلها ستكون فروع متممة أو حلقات وصل ما بين القضيتين الرئيسيتين المذكورتين، وهي حرب إسرائيل على حماس ومستقبل الحركة وقادم القطاع بعد الحرب، وربما قادم المنطقة بشكل عام.
الولايات المتحدة الأمريكية
6/1/2024م