د. محمود عباس
يهمنا ما حل بثقافة شعوب الشرق الأوسط، بقدر ما يهمنا أراء شريحة واسعة من شعبنا الكوردي، علما بأنه لأولئك الشعوب حركات ثقافية على أبواب المرحلة التنويرية والتي من واجباتها تشذيبها وإنقاذها من الأنظمة الشمولية التي سلبت إرادتهم، ودمرت ثقافتهم، وقتلت فيهم القدرة على رؤية المستقبل، وخلقت أوبئة في مفاهيمهم، مثلما أثرت على مفاهيم ومواقف نسبة غير قليلة من المجتمع الكوردي وجزء من حراكه، ومثلهم بشريحة واسعة من الشعب الفلسطيني الخاضع لسلطة حماس والجهاد الإسلامي أو المتأثر بهم، المنظمتين اللتين ضحوا بشعب كامل وحاربوا النظام الديمقراطي، ودعموا الفكر الشمولي.
فالبعض من الكورد يحاربون الدول الحضارية تحت منطق حماية الوطن من القوى الخارجية، والوطن تعني لهم الدول اللقيطة التي تشكلت في بداية القرن الماضي، تركيا وسوريا والعراق وإيران، والقوى الخارجية محصورة في دول التحالف وعلى رأسها أمريكا، وأغلب الفلسطينيين يحاربونهم تحت منطق تحرير فلسطين والقضاء على إسرائيل. وفي الحالتين يتناسون أنهم حتى وفي حال النجاح، سيستمرون بالعيش تحت نير الطغيان والإدارات الغارقة في الفساد، وسيظلون يعانون الويلات.
لا تعني ذلك أن الدول الديمقراطية الحضارية، الأوروبية وأمريكا وغيرها، كاملة وخالية من السلبيات، ومثالية كجمهورية أفلاطون، بل أنها أفضل ما بلغه الإنسان حتى الأن ويجد لذاته فيها قيمة واعتبار، ويجب التنافس مع أنظمتها لتقديم الأفضل لا أن يتم محاربتها، بل من الأفضل محاربة الأنظمة الشمولية والدكتاتورية المحلية والتي تسخر شعوبها لمحاربة الدول الديمقراطية للحفاظ على ذاتها.
لا تنتبه هذه الشعوب ومن بينهم الشريحة المعنية من الشعب الكوردي أن غياب أمريكا عن المنطقة تعني هيمنة نظام أئمة ولاية الفقيه وبشار الأسد، وإسلام أردوغان، تحت اجتياح نظام بوتين المطلق، وهيمنة المنظمات التكفيرية كحماس وحزب الله، والحشد الشيعي، وهيئة تحرير الشام والحوثيين أو الأحزاب القومية الفاشية كالبعث وأشباهه.
يتناسون مقارنة لبنان قبل وبعد سيطرة نظام الأسد والبعث، ولبنان قبل وبعد هيمنة حزب الله، وسوريا قبل وبعد البعث، وما بين الديمقراطية في إسرائيل ونظام حماس، وحرية الفلسطينيين في إسرائيل أو تحت السلطة الفلسطينية أو حماس، يتناسون أن شعوب المنطقة تعاني الويلات مع ذلك تطالب ديمومة الطغيان والدكتاتورية، وهي دلالة على وجود وباء في ثقافة شعوبنا ومفاهيمهم، تحثهم على تفضيل الذل على الحرية، ودكتاتورية الأسد وصدام حسين وأئمة ولاية الفقيه وبوتين على القوى الديمقراطية.
يتناسون وتحت تأثير المخدر الفكري، أنه بزوال إسرائيل كما تطالب به إيران وأدواتها كالحوثيين، وحماس والجهاد الإسلامي، والحشد الشيعي، تعني القضاء على أفضل الأنظمة الديمقراطية في الشرق الأوسط، وإن كان البعض يبررها بسيطرة نتنياهو، دون إدراك على أنه طفرة عابرة في النظام الديمقراطي الإسرائيلي ظهر كرد فعل على التطرف الإسلامي المتصاعد في المنطقة، ولا تعني أن إسرائيل مثالية وتتصف بالكمال لكنها الأفضل في الشرق الأوسط، ولها سلبياتها وذات وجهين عند التعامل مع القضية الفلسطينية والتي لها مبرراتها أحيانا، ونتنياهو سيزول لكن الديمقراطية لن تزول معه، وقد تأتي مرحلة تنفتح الأبواب بين الحراك الفلسطيني الوطني الديمقراطي وإسرائيل، ولبلوغها يتوجب على الحراك الفلسطيني العمل على تنمية الديمقراطية في ذاتها وتطوير الموجود في إسرائيل.
وعلى الشريحة الكوردية المتأثرة بمفاهيم الأنظمة الشمولية والتي أدت إلى هيمنة نفس المنهجية في أحزابها، وعلى خلفية فكرية ما، أحيانا تقوم بمحاربة أمريكا والدول الأوروبية التي ترجح مصالحها، وهي من ضمن إستراتيجية المصالح الدولية والعلاقات السياسية، أن تدرك أنها لن تحصل على مبتغاها ولن تكون هناك كوردستان حرة دون سيطرة الديمقراطية على أنظمة المنطقة، الجدلية متداخلة ما بين الديمقراطية واستقلال كوردستان وتحريرها من تحت سيطرة الأنظمة المحتلة، فمحاربة القوى الديمقراطية، وعدم تحلي أحزابهم بها، تعني الدعم المباشر للأنظمة الدكتاتورية العنصرية في المنطقة.
شعوب المنطقة ومن ضمنهم الشعب الكوردي، يحتاجون إلى حركات تنويرية، توضح لهم ما هو الأفضل لهم، وليس الأفضل للأنظمة الفاسدة، وتبين أن مستويات المعيشة لن تتحسن ما دامت ملتهية بمحاربة الديمقراطية والقوى الداعمة لها، وتكشف عن الخدع التي أغرقت أنظمتنا شعوبها فيه تحت أغطية الوطن والحرية والاستعمار والإمبريالية العالمية، ومساوئ النظام الاقتصادي الحر، ومنطق التنافس بين الشركات الرأسمالية، مفضلين عليهم الاحتكار والتي تسهل للشريحة المهيمنة على مقدرات الأمة نهب اقتصاد الوطن، كما كان يفعلها حافظ الأسد برفعه شعار (النفط في أيدي أمينة فلا تسأل عنها) وأن اقتصاد الوطن في خدمة جبهة الصمود والتصدي، ولم تدرك شعوب المنطقة التصدي لمن، علما أنهم كانوا أكثر القوى التي كان ويجب أن تحاربهم وتتصدى لهم شعوب هذه الدول.
نسيت الشعوب أن الحرية في قفص منذ عقود طويلة إلى درجة لم يعد يميزون بين طعم الحرية والطغيان، حتى أن البعض المهاجر إلى الدول الأوروبية يشمئزون من الحرية هناك وينعتونها بالمفرطة في الوقت الذي يطالب فيه شعوب أوروبا بالأكثر بل وتنعت سلطاتها بأنها تقيد الحرية، أي أننا أمام ثقافتين، ثقافة لا تعرف طعم الحرية وعندما تتذوقها تجدها مرة وأخرى ترى حلاوتها قليلة وتريد المزيد، وهو ما يحصل للفلسطينيين مواطني إسرائيل مقارنة بالذين تحت حماية منظمة حماس والجهاد الإسلامي، والكورد الذين يخرجون في المسيرات دفاعا عن حماس ضد إسرائيل، ويؤيدون أردوغان وإسلامه في الانتخابات، ويدعمون أئمة ولاية الفقيه تحت سمة المرجعية الشيعية. كم كنا نتمنى أن تنافس دولة فلسطين وقطاع غزة بديمقراطيتها ديمقراطية إسرائيل، وتكون الدول المحتلة لكوردستان على سوية ديمقراطية إسرائيل.
تحرير أي شعب أو دولة بدون هيمنة الديمقراطية وتمتع أبنائها بالحرية الكاملة، ووجود دستور حضاري لتتداول عليها سلطات عصرية متطورة لن تكون حياتها بأفضل من وجودها في السجون وتحت نير الأنظمة الدكتاتورية، فغياب الحرية هي ذاتها في الحالتين، الإنسان يبحث عن لقمة العيش لأطفاله قبل الوطن، لن يكون هناك الوطن بدون الخبز والحرية، وخير مثال، ما يتمتع به المهاجرون من الوطن إلى الدول الحضارية، وتفضيلهم العيش في الغربة على العيش في الوطن المعاني، والمعاناة ليست من الأنظمة بل من مخلفاتها، وحيث الدمار الاقتصادي وتقييد الحريات وتدمير الثقافة، والفساد والبيروقراطية وغيرها من الأمراض السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية المتفشية في منطقتنا، لا شك جميعنا نطمح إلى جغرافية أسمها الوطن حتى ولو كان الفقر والجوع والطغيان ينخر فيهم على العيش في جغرافية تسودها الحرية، وهي دلالة خلل في ثقافتنا تغطي عليها الحنين الكامن في اللا شعور مع تغييب الشعور، وهو ما قاله البعض أنه لو أمطرت السماء الحرية لرفع البعض المظلات.
الولايات المتحدة الأمريكية
5/1/2024م