مَن يُصلح الملح إذا فسِد؟

 

 كفاح محمود

 

لا تكاد جلسة أو سهرة أو لقاء يخلو من حديث عن الفساد والإفساد، فأينما وليت وجهك في وسائل النقل أو المقاهي والمناسبات، ناهيك عن الصحف والمجلات ووسائل الإعلام المختلفة التي امتلأت بالدراسات والبحوث عن ظاهرة ظنّ البعض إنها ولدت للتو، بل ونسي الكثير بأننا في بلاد يزدحم فيها القيل والقال وكثرة السؤال، وتعج فيها أشكال وألوان من الفساد المتراكم ليس اليوم بل عبر حقب التاريخ وغيومه المدلهمة ككتل الليل المظلمة، كما لم يهطل هذا المطر الملوث بالسحت الحرام هذا الشتاء فقط، والفضيلة أيضاً لم تلد اليوم لكي تعادي الرذيلة بشكلها المزركش والمعاصر، إنه صراع محتدم بين الأخلاق العليا والأخلاق الدنيا، بين عزة النفس ودناءتها، وأكوام من التربية الفاسدة وحقب من الحكم الأعرج، وأكداس من الموروثات التي تبيح المال العام وتستسهل الاغتناء دون القيم والنبل؟

 

منذ البدء كان الفساد إنسانياً يبدأ في البيت والمدرسة وينتهي في دوائر الحكومة من القاعدة حتى الهرم ولا ينتهي في دهاليز السجون وغرف الإعدام، لأنه في الأساس إنتاج تربية منحرفة مذمومة رغم كل ما يحيط بها من زركشة وتجميل وإغراء في السلطة والمال والنساء، فهي أساس النخر في أبدان الدول والكيانات كما هي علة النفس والروح حينما يسقط الإنسان عن مجموعة ما فطر الله به خلقه من عزة في النفس وطهارة في القلب واليد، ويبقى السؤال المُر كيف لموظف مسؤول أو وزير أو حاكم يتقاضى معاشاً لا يتوافق إطلاقاً مع حجم قصره أو عمارته أو عدد سياراته ونفقاته وغنائه الفاحش خلال سنوات قليلة جداً ولا يُسأل عنها أو يُحاسَب؟   ولماذا معظم الوزارات ممالك وإمارات أما للأشخاص وعوائلهم وعشائرهم وأما للأحزاب دونما الوطن والشعب، حيث يتصرف المسؤول وزيراً كان أو نزولاً لأصغر مدير، كأمير أو مالك لتلك الوزارة أو الدائرة متنمراً ومشعراً المواطن بأنه ذي فضل عليه أو أنه أعلى شأناً منه علماً بأنه ما تمّ توظيفه إلا لخدمة هذا المواطن؟
في طوفان الفساد وفي لحظة من صحوة الضمير قال أحد كبار الفاسدين، لقد سرقتُ وأنا تلميذٌ صغير طباشير من الصف، ثم ذات سنة وأنا ما زلت دون الثانية عشرة من عمري سرقت مدفأة نفطية من مدرستي يوم الجمعة وأخذتها للبيت، رحبت بي أمي وشعرتُ بأنها سعيدة جداً، لم تسألني من أين أتيت بها ولم يسأل والدي عن مصدرها حينما عاد إلى البيت، أحسست بأن الأمر عادي وقد أسعدتهما بذلك! ويوم إعلان سقوط نظام الرئيس صدام حسين، وفي خضم عمليات السلب والنهب العلني شاهدتُ أحد الموظفين الذي كان يؤم المصلين أحياناً بغياب الإمام، قد ملأ سيارته (بيك آب) مقتنيات من أحد المعسكرات القريبة من بيته قلت له ما هذا يا رجل: أجابني وهو فرح بأنها غنائم!؟
كانت تلك الممارسات من إنتاج منظومة تربوية اجتماعية متوارثة لا ترى السرقة عملاً دنيئاً ولا الاختلاس أو نهب المال العام جريمة مخلة بالشرف، ويدرك العراقيون وغيرهم من الشعوب إن معظم عمليات النهب والسلب التي جرت في تاريخ بلدانهم منذ الغزوات وحتى اليوم، نتيجة لتلك الموروثات المتأصلة إلا من رحم ربي، حتى أن فاعلها لصاً كان أو فاسداً أو مرتشياً أو مختلساً كان يعتبر إنساناً شجاعاً يتباهى بلصوصيته كما يتباهى اليوم فاسدو الدولة بما جمعوه من سحت حرام معتبرين عملهم فرصة العمر في تحصيل الأرزاق!؟
أين الحل وما سبيله؟
سؤال أكثر إيلاماً من إجابته التي يحتار المرء فيها مع تلاطم أمواج الفساد تحت حكم نظام سياسي فاسد من أخمس قدميه حتى قمة رأسه، فقد اختلط الحابل بالنابل، وأصبح القاضي والجلاد شخص واحد، وغدى الفساد وينابيعه وأسباب انتشاره حديث الجميع فاسدين وغير فاسدين، في هستيريا الاستعراض والقيل والقال من حديث العامة والخاصة دونما إيجاد حل لإيقاف هذه الحمى النزفية التي تنخر الأجساد والكيانات، وتحيل الأوطان الجميلة إلى مساكن هزيلة يضمحل فيها البشر ويهزل؟
ترى هل ما يزال الكي آخر العلاج، وإن وضع الملح على الجرح يشفيه!؟

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

صديق ملا   إن قراءة سريعة ومتفحصة للتاريخ المعاصر في الشرق الأوسط يستنتج : أن هذا الشرق مقبل على تحولات كبرى ، فالدول التي أنتجتها إتفاقية (سايكس_بيكو)ستتفكك لا محالة ليس فقط بتأثير النظام العالمي الجديد ، بل بتأثير يقظة الوعي القومي للشعوب المستعمَرة أيضا… فالتطورات التي حدثت بعد ثورات الربيع العربي ابتداءاً بتونس ومصر وليبيا وأخيراً سورية قد أرعبت الدول…

خالد بهلوي   تُعَدّ العلاقات الاجتماعية جزءًا أساسيًا من حياة الإنسان، إذ تلعب دورًا جوهريًا في بناء شخصيته وتشكيل نظرته إلى الحياة. فالإنسان بطبيعته كائن اجتماعي لا يستطيع العيش بمعزل عن الآخرين، مما يجعل هذه العلاقات ضرورية لتحقيق التوازن النفسي والعاطفي. ورغم دورها الإيجابي، فإن للعلاقات الاجتماعية جوانب سلبية قد تؤثر على الأفراد والمجتمعات بطرق مختلفة. في سوريا، تتميز…

عُقد يوم الثلاثاء الموافق ٢٢ نيسان ٢٠٢٥ لقاءٌ مشترك بين المكتب السياسي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا برئاسة سكرتيره الدكتور صلاح درويش، ووفد من المكتب التنفيذي لحركة الإصلاح الكردي – سوريا برئاسة المنسق العام الأستاذ فيصل يوسف، وذلك في مقر الحزب بمدينة القامشلي. تناول اللقاء عدداً من القضايا ذات الاهتمام المشترك، وكان أبرزها: ١. مناقشة آخر المستجدات على الساحة…

مصطفى منيغ / تطوان من الدولِ مَن صوتها يعلو وهي صامِتة ، تُسْمِعٌ عنها كلَّ أنباءٍ مُفْرِحة ، عملاقة لا تهتم بمن دونها مع الأفضل أفكارها مُعلَّقة ، متطلٍّعة للمزيد ما دام الرقي يُكتسَب عن إرادة غير مُصَنَّعَة ، حافظة أصلٍ بالابتكار الطبيعي المُباح نتائجه بالقبول الحسن مُشبَّعة ، مهما بلغ التطوُّر مِن تطَور به دوماً بجذوره مُشبَّهة ، وُجِدَت…