ماجد ع محمد
يبدو أننا مع دوام تردي الأوضاع في الشمال السوري سنعود مراراً إلى المثال الذي ذكره الشاعر العراقي الراحل عبدالوهاب البياتي قبيل وفاته بسنوات في إحدى لقاءاته التلفزيونية عن الفرق الذي أحدثته الثورة على نظام الشاه في إيران، ألا وهو أن المواطن أثناء حكم الشاه كان حاله كحال شخصٍ يغوص تحت المياه ويتنفس عبر قصبة، أما في زمن الثورة فالمواطن الإيراني فقد حتى تلك القصبة، أي أن الأوكسجين أو النَّفَسُ الذي كان يمنحه نظام الشاه للمواطن قامت الثورة الدينية (الخمينية) بقطعه.
أما عن وضع السوريين فبالرغم من الحماسة التي يُبديها رئيس الائتلاف الوطني السوري هادي البحرة بخصوص التغيير المنشود في الشمال السوري، إلاَّ أن الرسائل التي تأتي من الداخل السوري المتاخم لتركيا تشير إلى أن الشعب السوري في تلك المناطق حاله حال الشعب الإيراني بُعيد الثورة الخمينية، فأبسط الحقوق المتعلقة بالتعبير عن الرأي والتي لا يستدعي الأمر التحدث عنها أو المطالبة بها غدا الفرد محروماً منها هناك، حيث أن المواطن ولمجرد أن يعبِّر عن غضبه ونفوره من عمليات السلب والنهب والسطو المسلح فهو معرَّض للإهانة والاعتقال والابتزاز من قبل أي مجموعة مسلحة تتبع هواها في فرض سلطتها على المحمية التي سُلّمت إليها وتتحرك وفق مزاجها في ذلك المجال الحيوي.
إذ أن الذي يُحاول أن يفرض نفسه في المناطق الخارجة عن سلطة النظام السوري كبديل مفترض لنظام الحكم في دمشق يتّبع نفس خطوات أجهزة أمن النظام ألا وهي التُّهم الجاهزة والحاضرة في بال وذهن ومحفظة أي حاجز أو عنصر أمني أو مسلح؛ وإذا كانت التُّهم الجاهزة لدى أجهزة أمن النظام هي العمالة لإسرائيل والتعامل مع أطراف دولية معادية، فالاسطوانة نفسها تتكرر مع الإضافات والملاحق في مناطق الشمال السوري، باعتبار أن القائمة فيها أوسع قليلاً من مناطق النظام، فالمواطن هناك معرّض للاتهام بأنه يتعامل مع النظام أو مع قسد أو مع داعش أو مع PKK أو مع PYD وطبعاً عدا عن تهمة ارتباطه بجهات دولية واقليمية؛ هذا يعني أن قائمة التهم الجاهزة هي في الشمال أطول من قائمة الأجهزة الأمنية للنظام السوري!
وكما كان أي انتقاد للفساد أو لطغيان جلاوزة السلطة ممنوع ويُؤدي للمحاسبة من قبل الأجهزة الأمنية في مناطق النظام السوري، ففي الشمال لم يتغير الأمر بعد كل ما قدمه الشعب السوري من قوافل الشهداء والمهجرين، وبعد كل ما حصل من خراب ودمار من أجل الحرية والكرامة على مدار 12 سنة، إذ لا الحرية التي حلم بها السوريون تحققت في الشمال السوري ولا كرامة المواطن مصانة فيها، ولا القانون والعدل مفعلان هناك كما هو حال مناطق النظام، ومنها على سبيل الذكر فلم تستطع “لجنة رد المظالم” التي تشكلت أواخر شهر آب من العام الماضي على خلفية تكرار الاشتباكات بين المجموعات المسلحة وازدياد عدد الشكاوى المتعلقة بالاستيلاء على عقارات المدنيين وابتزاز الناس وفرض الإتاوات على محصول الزيتون أن تحاسب قائد فصيل واحد من بين عشرات المنتهكين المعروفين للقاصي والداني، بالرغم من أن اللجنة القضائية الثلاثية المكلفة بالتحقيق في الانتهاكات المنسوبة لـ “فرقة السلطان سليمان شاه” قد أصدرت قرارها منذ العام الماضي والذي قضى بعزل قائد الفرقة “محمد الجاسم” الملقب بـ “أبي عمشة”، و5 آخرين من قيادات الفرقة وأفرادها؛ إلاّ أن الرجل وحاشيته ما يزالون على عهدهم في ممارسة جميع أنواع المقابح من دون أن يجرؤ أحد إلى وقت كتابة هذه السطور على محاسبتهم أو حتى الاقتراب من محميتهم؟
أما بخصوص ظاهرة تكميم الأفواه، فالكثير ممن كانوا يشتكون منها في مناطق النظام هم يمارسونها حالياً بأنفسهم في الشمال السوري، وذلك بعد أن غدا واحدهم صاحب سلطة ومنطقة نفوذ فيها، فممنوع أن يلمح المقيم في الشمال إلى الانتهاكات اليومية، وممنوع أن يشير بإصبعه إلى الفاسدين، وممنوع أن يتحدث بسوء عمن يقومون بعمليات السطو المسلح وهم يرتدون لباس الجيش الوطني، إذ أن أي انتقاد بسيط أو ملاحظة عابرة أو مجرد شكوى قد تودي بصاحبها إلى الأقبية البديلة عن أقبية نظام الأسد، ومنها على سبيل الذكر فأشارت “منظمة حقوق الإنسان في عفرين” إلى أنه منذ أيام داهم مسلحون تابعون لـ:”فرقة السلطان سليمان شاه” التي يرأسها محمد حسين الجاسم الملقب بــ”أبو عمشة” منزل المواطن محمد مصطفى شيخ نعسان الملقب بـ: “حمودة شيخو” وهو من أهالي ناحية جنديرس بريف عفرين وقاموا بالإعتداء عليه وضربه بشكل وحشي على الملأ، كما تعرضت زوجته للضرب بعد تدخلها ومحاولتها إنقاذ زوجها محمد من بطشهم، ومن ثم قاموا بخطف محمد ونقله إلى إحدى المعتقلات في قرية “قرمتلق” التابعة لناحية شيخ الحديد (şiyê)، وذلك فقط لأنه نشر مقطع فيديو مصوَّر بتاريخ 26/11/2023 يتحدث فيه عن حقد المسلحين المسلطين على رقاب الأهالي منذ عام 2018 على أشجار الزيتون! هو لم يشتمهم في المقطع، ولا ذكر في الفيديو أسماء أشخاص معينين، ولا لعن أحدهم في الفيديو المصوَّر، إنما كل ما فعله هو أنه تحدّث باستغراب عن الحقد والكراهية التي يحملونها على أشجار الزيتون حتى بناءً على ذلك المخزون من الغل والبغضاء يتصرفون معها بكل هذه القسوة والدناءة والعدوانية التي يُعبّرون عنها من خلال التعامل مع الشجرة التي ذُكرت في قرآن المسلمين سبع مرات.