التشييد وسط الركام

ماجد ع  محمد

صحيحٌ أنه قبيل الشروع بأي بناء عمراني لا مفر من تكدس أطنان البقايا عقب الهدم أو الحفر إلى حين البدء بإزالة المتراكم أو ترحيله إلى مكبات بعيدة حتى تتحرك الآليات في كل الاتجاهات داخل حرم المشروع المزمع إقامته، وذلك كي يبدأ البناؤون بعد التخلص من الزوائد بتنفيذ خطتهم على أرض الواقع، هذا في حال المشاريع العمرانية والمنشآت التي سيتم تشييدها مكان الذي تم تفجيره أو تحطيمه، أما فيما يتعلق بالمشاريع النقدية فقد يقول قائل ما إن الشروع في التجريب أي الإغارة من حق أي فرد ولا يحتاج الأمر للدراسة والتخطيط، وربما يكون ذلك مبرراً إذا ما كان التجريب أو التخريب غير ضار وأن يتحمل تبعات إخفاقه المحتوم صاحب التجربة نفسه، وليس في أن يعبث بمصائر الآخرين بدعوى حرية التجريب والطعن، وحيث يسارع المجرِب في التحطيم واِدعاء الإعمار وسط ما أحدثه من الدمار.
وفي إطار شن الغارات على الشخصيات العامة بدعوى حق الناس في التعبير عن آرائها لا شك أننا لا نمتلك أي وسيلة أو سلطة تمنع المحقونين من الانفجار أو المتخمين من رغبة التقيؤ والغثيان، ولكن بنفس الوقت فمن الصعوبة بمكان التعويل على آراءٍ بنيت على هوى المقتحِم، أو جاءت بناءً على الموقف المسبق للمنتَقِد من الحدث أو الشخصيات المتعلقة بالحدث من دون الاعتماد على أيّة ركيزة مادية وجودية ملموسة أو علمية ومن ثم الانطلاق منها، هذا إذا ما كان الهدامون فعلاً يبغون البناء على أنقاض ما تهدم، وليسوا مجرد عشاق هدم ولا قدرة لهم في الأصل على  بناء حجرة عوضاً عن الهرم الذي تزاحموا لهدمه.
وعن مشروعية التطاول والمداهمة باسم حق إبداء الملاحظة تجاه قضية عامة أو بحق شخصية عامة، ففي الحالة العادية عندما تجالس معظم الهدّامين المتذمرين ممن يعتبرون أنفسهم متعلمين وطلاب علم ومعرفة إضافة لمن كانوا من خريجي الجامعات والمعاهد، تراهم وبفوقيةٍ ظاهرة ينعتون أي مساقٍ مع ظاهرة اجتماعية قائمة على غريزة التقليد في المجتمع بالعوام والهمج، ولا يملون من وصف تلك الفئة بأردأ الكلمات التي تحط من منزلة من ينعتونهم بهوام الأرض، وكل ذلك من أجل أن تصل رسائلهم للسامِع بأن المتفِوه بتلك الملافظ هو من فئةٍ واعية ومختارة ومصطفاة من بين  الحشود البشرية العادية، ولكنك إن أمعنت النظر فيما يُعبّرون عنه حيال أية مشكلة اجتماعية على الأرض أو في وسائل التواصل الاجتماعي في الفضاء، سواء عبر التحدث عن واقعة ما أو من خلال التعليق على موقفٍ من مواقف الشخصيات العامة من الساسة أو أهل الفكر أو الفن، ستجد بأنهم يقتفون بحِرفية عالية جداً آثار من كانوا يصفونهم للتوِ بأشنع المفردات!
وبخصوص المسارعة في إبداء الرأيي تجاه أي قضية أو حدث أو موقف بدون امتلاك أحدنا أو أحدهم أية معلومة تفيد الاتهام أو الإدانة، أو إدراكٍ ولو جزئي لفحوى الموقف المراد تعرية صاحب الموقف من خلاله، أو الإلمام بأي قسم أو جانب من جوانب المسألة التي يتم التصدي لها، فحينها بلمح البصر ينسى المتعطش للإدلاء برأيه كل المعايير والأصول المعرفية أو الأخلاقية لحظة الهجوم، هذا في الوقت الذي لا يمل واحدهم من ترداد أقوال المشاهير والتعلق بكلام الحكماء أو تزيين جدرانهم المنزلية أو غرفهم الفيسبوكية بمزامير المعاصرين والأولين.
وللوقوف عند هذه الظاهرة التي ترى واحدهم فيها ينتقد العامة ليل نهار على شيءٍ ما في الوقت الذي ترى المنتقد نفسه من ضمن السائرين في طابور المنعوتين، لذا حيال ذلك بودنا أن نتوقف برهةً أمام قولٍ واحد فقط من بين آلاف الجمل المأثورة، والقول الذي نحن بصدده منسوب للإمام علي بن أبي طالب، ألا وهو: “من أخلاق الجاهل: الإجابة قبل أن يسمع، والمعارضة قبل أن يفهم، والعلم بما لا يعلم”، ولنعتبر أن هذا المأثور مرآة معلَّقة في بهوٍ كبير أو مكتوب على لوحة جدارية ضخمة في ساحةٍ عامة، أليس من المفروض وقتها أن نعامل هذا المأثور كما نتعامل مع المرآة المنزلية بشكلٍ يومي ولأكثر من مرة، أي أن نرى الخلل الذي فينا من خلال هذه الجملة التي يكررها الكثير منا من دون إمعان النظر فيها والتفكير بمعاني فقراتها، ولكن بالرغم من ضرورة هذه التساؤلات يبدو أن نرجسية بعضنا أو بعضهم تأبى النظر في المرآة لكشف الخلل في مكان ما من الوجه أو البدن،  أو تلمس ولو برهةً من الزمنِ أعمدة الثقة الفارغة التي نتربع على عرشها، بما أن الثقة العمياء بالنفس عادةً ما تمنع الكثير منا القيام بمراجعة الذات، وفي هذا الصدد أشار الفيلسوف والمؤرخ البريطاني برتراند راسل إلى أن “مشكلة العالم أن الأغبياء والمتشددين واثقون بأنفسهم أشد الثقة دائماً، أما الحكماء فتملؤهم الشكوك”.
وفيما يتعلق بعموم المرايا القيمية المشهورة التي نود النظر إلى ذواتنا من خلالها لنرى أنفسنا جيداً على حقيقتها وليس كما نريدنا أن نكون بناءً على تصوراتنا الإيجابية الدائمة عن أنفسنا، ونعمل حينها على المقارنة بين ما نحن عليه وما يصدر عنا مقارنةً بالذي ينبغي توفره في الشخص العاقل بناءً على عبارات الإمام المذكورة أعلاه، إذ بخصوص التعليق على موقف شخصية عامة تقرأ خلال يومين فقط عشرات المنشورات ومئات التعليقات التي تناهض تماماً ما ورد أو ما يعنيه مأثور(مرآة) الإمام، ولكن تبقى المصيبة الأعظم أن أغلبية من كانوا متشوقين للانضمام بحماسٍ منقطع النظير إلى جوقة الذين تناولوا الشخصية أو الواقعة بكامل الفجاجة، ليسوا ممن تعلم القراءة والكتابة وفك الطلاسم الكتابية من خلال السوشال ميديا، إنما وللأسف الشديد فمعظمهم كانوا من أصحاب الشهادات العلمية أي ممن لا يكفون عن نعت الناس بالدهماء والغوغائيين.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

خليل مصطفى مِنْ أقوال الشيخ الدكتور أحمد عبده عوض (أُستاذ جامعي وداعية إسلامي): ( الطَّلَبُ يحتاجُ إلى طَالِب ، والطَّالِبُ يحتاجُ إلى إرادة قادرة على تحقيق حاجات كثيرة ). مقدمة: 1 ــ لا يختلف عاقلان على أن شعوب الأُمَّة السُّورية قد لاقت من حكام دولتهم (طيلة 70 عاماً الماضية) من مرارات الظلم والجور والتَّعسف والحرمان، ما لم تتلقاه شعوب أية…

أحمد خليف الشباب السوري اليوم يحمل على عاتقه مسؤولية بناء المستقبل، بعد أن أصبح الوطن على أعتاب مرحلة جديدة من التغيير والإصلاح. جيل الثورة، الذي واجه تحديات الحرب وتحمل أعباءها، ليس مجرد شاهد على الأحداث، بل هو شريك أساسي في صنع هذا المستقبل، سواء في السياسة أو في الاقتصاد. الحكومة الجديدة، التي تسعى جاهدة لفتح أبواب التغيير وإعادة بناء الوطن…

إبراهيم اليوسف إنَّ إشكالية العقل الأحادي تكمن في تجزئته للحقائق، وتعامله بانتقائية تخدم مصالحه الضيقة، متجاهلاً التعقيدات التي تصوغ واقع الشعوب. هذه الإشكالية تطفو على السطح بجلاء في الموقف من الكرد، حيث يُطلب من الكرد السوريين إدانة حزب العمال الكردستاني (ب ك ك) وكأنهم هم من جاؤوا به، أو أنهم هم من تبنوه بإجماع مطلق. الحقيقة أن “ب ك ك”…

شيروان شاهين سوريا، الدولة ذات ال 104 أعوام البلد الذي كان يومًا حلمًا للفكر العلماني والليبرالي، أصبح اليوم ملعبًا للمحتلين من كل حدب وصوب، من إيران إلى تركيا، مرورًا بكل تنظيم إرهابي يمكن أن يخطر على البال. فبشار الأسد، الذي صدع رؤوسنا بعروبته الزائفة، لم يكتفِ بتحويل بلاده إلى جسر عبور للنفوذ الإيراني، بل سلمها بكل طيبة خاطر…