د. محمود عباس
بموجب القرار رقم (13894) الصادر بتاريخ 17/10/2019 في عهد إدارة دونالد ترامب، وعلى خلفية المراقبة الدولية لمجريات الأحداث في عفرين، وتقارير منظمة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، وبعض المنظمات المدنية الكوردية وكذلك تقارير مكتب الإدارة الذاتية في واشنطن، حول الانتهاكات الصادمة بحق الشعب الكوردي في عفرين، تم اليوم معاقبة المنظمتين السوريتين اللتين يعبثان في عفرين والمناطق المحيطة بالمدينة بأوامر من المحتل التركي.
كما وأصدرت وزارة الخزانة الأمريكية، الإدارة المعنية بمتابعة المنظمات الإرهابية، إلى جانب عقوبة المنظمتين العسكريتين واللتين يشكلان جزء مما يسمى بالجيش الحر، أمراً بمصادرة ممتلكات قادة المنظمتين، وشركة رئيس لواء سلطان شاه سليم لبيع السيارات وفروعها، وهو المعروف باسم العمشات، وهذا هو القرار الثاني من هذا النوع بحق المنظمات السورية التكفيرية، عند محاربتها للشعب الكوردي، ففي المرة الأولى كانت قد صدرت بحق (أحرار الشرقية) على خلفية اغتيال الشهيدة همرين خلف عام 2021م.
لا شك، ورغم أنها عقوبة مهمة من حيث المجال السياسي وكانت ضرورية في البعد الأمني بالنسبة لأهل عفرين، لكن وفي الواقع الميداني، مثل هذه العقوبات لن تكون لها تأثير كبير على المنظمتين، فيما إذا لم تؤثر في البداية على مواقف الدولة الراعية لهم وهي تركيا، وبإمكان أمريكا، فيما لو تطلبت مصالحها، أن تضغط إلى درجة حلهم، وإخراج عناصرهم من المنطقة، لكن هل أمريكا ستضغط على تركيا إلى هذا الحد؟ حالة بعيدة الاحتمال، فلا يمكن المقارنة بين علاقات تركيا مع أمريكا بعلاقات أمريكا بالدول التي تعاني من حصارها المدمر، كإيران وسوريا؟ لذلك وفي الوجه الأخر من المعادلة السياسية، ستظل نتائج هذه العقوبة محل الشكوك، ويمكن استنتاج ذلك من خلال نتائج العقوبة التي تمت بحق أحرار الشرقية، أو حتى بما عليه منظمة النصرة والتي تحولت إلى هيئة تحرير الشام، وهي كما نعلم مدرجة كمنظمة إرهابية لدى أمريكا وأوروبا وروسيا، فتركيا وبمساعدة قطر، لا تزال تراعيهم وتدعمهم بالمال والسلاح.
نتذكر كيف أن حصار اقتصادي بسيط بحق تركيا أدى إلى انهيار عملتها، وهذه المنظمات هي أدوات بيد تركيا، وأية عقوبة يجب أن ترضخ أو تقتنع تركيا بالقرار وغايته وما ستؤول إليه النتائج، حينها قد تحد من تجاوزاتهم، أو بالأحرى تحد من أوامرها لهم بعدم التعرض للشعب، والاعتداء على الناس والاستيلاء على ممتلكاتهم، والاستمرار في جرائمهم، لأنهم في الواقع مجموعات من المرتزقة وحثالة الشعب، وشريحة من المجرمين، وبقايا منظمة داعش، يستلمون رواتبهم من تركيا وقطر، وأسلحتهم هي الأسلحة التركية، وتحركاتهم واعتداءاتهم من ضمن المخطط التركي لضرب المنطقة الكوردية، ومن مهماتهم إنجاح التغيير الديمغرافي الجاري للمنطقة، وبالتالي فيما إذا لم تتعرض مصالح أمريكا أكثر لن نجد ضغط مباشر على تركيا وبالتالي لن يحصل الشعب الكوردي في عفرين على أي بادرة امل بالراحة، ولن يتم تحرير ممتلكاتهم، ولن تخلى بيوتهم المستولية عليها، ولن تخف الجرائم بحق الأهالي.
لا شك، مصالح أمريكا في الشهور الماضية تعرضت إلى القليل من الخطورة، على خلفية تصاعد الهجمات على قواعدها في مناطق الإدارة الذاتية والتنف، والتي تتم من قبل الدول الأربع المعنية بالأمر روسيا وتركيا وإيران وخلفه نظام بشار الأسد، كل بطريقته وحسب مصالحه، وفي هذه الجدلية لا بد من ملاحظة أن تركيا هي الأكثر إصرارا على خلق شرخ بين الإدارة الذاتية وأمريكا، ولهذا نوهنا أن العقوبة بعمقها الإستراتيجي رسالة مباشرة لتركيا، رغم أن التقرير لم يأتي على ذكر أسم تركيا كليا، لكن كل القوى تدرك أن جميع المنظمات العسكرية المنسقة تحت أسم المعارضة السورية هي أدوات تركيا في المنطقة، استخدمتهم كمرتزقة في عدة دول، وبالتالي فهي المعنية بالأمر.
لكن في الإستراتيجية الأوسع، والتي يمكن قراءة المشهد على أن الخطة التركية الخامسة، ربما لروسيا رأي فيه، وهي الموجهة لمحاربة قوات قسد، وضرب الإدارة الذاتية، والتي في حقيقته اعتداء على المصالح الأمريكية ووجودها، فكما نعلم أن سوريا بشكل عام أصبحت جزء من استراتيجية الصراع الأكبر بين الناتو وعلى رأسها أمريكا وروسيا في حرب أوكرانيا، فأمريكا لم ترد إلا جزئيا على جميع المؤتمرات والمخططات التي تمت بين الدول الأربعة المعنية بسوريا، لكنها خرجت اليوم عن صمتها، بتصريح وعقوبة خلال يومين، الأول الاعتراض على المناورات التركية المزمعة القيام بها ضمن المناطق السورية المسمات بالمحررة، والثانية هذه العقوبة.
فالاعتراض على المناورة كانت، لمنع خلق الفوضى التي تطمح تركيا خلقها والتي بها ستوقظ خلايا داعش النائمة.
وغاية تركيا الأعمق من المناورة إلى جانب ما ذكرناه، تدريب أدواتها من المنظمات المذكورة لمحاربة قوات قسد وضرب الإدارة الذاتية فيما لو انتهت تركيا من مخططاتها السياسية والدبلوماسية.
خاصة وأن هذه المنظمات لم تعد تحارب نظام بشار الأسد إلا بالمناسبات، فقد وجهتها تركيا بعد بدء مسيرة التطبيع الفاشلة، لمحاربة قوات قسد. وهنا قد تتعرض المصالح الأمريكية بشكل واسع فيما إذا وجهت المعارضة لمحاربة الوجود الأمريكي من خلال محاربة الإدارة الذاتية، وهذه تعني الفوضى التي تطمح إليه الدول الثلاث معا، تركيا وروسيا وإيران، وإذا بلغ الصراع هذه الدرجة حينها سيكون لأمريكا مواقف حازمة تجاه تركيا وأدواتها، وقد تنتقل علمية العقوبة من مجرد قرار إلى تنفيذ عملي على الأرض كما حدثت لمنظمة داعش، علما أن أمريكا حتى اللحظة تبتعد من توسيع جبهة الصراع مع روسيا خارج أوكرانيا، مثلما تبتعد من تصعيد الحصار الاقتصادي على تركيا، ولا تحارب بشكل جدي الميليشيات الإيرانية في المنطقة، وتتحفظ على تغيير النظام خارج قرار مجلس الأمن رقم 2254.
الولايات المتحدة الأمريكية
17/8/2023م