الدكتور باسل المعراوي
ظَنّ الجميع أنّ العرب استكانوا للاستبداد، وأدمنوا حياة العبودية واعتادوا حياة القطيع، كبش يقودهم وراع يَهشّ عليهم بعصاه إن خالف أحدهم المسير.
قوم يُدمنون الحديث عن التاريخ ويُعبّرون عن ضعفهم ويأسهم من الحاضر والمستقبل بالتغنّي بأمجاد الأجداد والتي مضت عليها قرون، يستذكرون عدالة الخليفة عمر بن الخطاب، القادسية واليرموك، وأمجاد بني أمية وبعض بني العباس، ثُمّ يَتوقّف التاريخ لألف عام لم يحكم العرب أنفسهم بل حُكِموا من أقوام مجاورة.
وفي المائة عام الأخيرة لاحت بارقة أمل بعد هزيمة الأتراك في الحرب العالمية الأولى ووضع إرث الدولة العثمانية المنهارة على طاولة الجراحة الإنجلو فرنسية وتَمّ تقطيع الدويلات الشامية السايكس بيكوية بمبضع جَرّاح غير ماهر، وقنع الجميع بمملكة سورية رائدة لم تُكْمل العامين من عمرها، فاجأها غورو بعد أنْ سطّر يوسف العظمة ملحمته الكبرى في روابي ميسلون.
ولم يكن الحال أفضل بكثير في الجناح الغربي للعرب، فوقعت كل تلك البلدان تحت احتلالات أوربية متعددة، وفي نهاية الحرب العالمية الثانية بدأ عهد جديد تَميّز بهزيمة الاستعمار القديم وبروز ثنائية قطبية عالمية حكمت المشهد العالمي قاطبة وألقت بظلالها على أرض العرب.
لم تتسلّل الديمقراطية أو الحكم الرشيد إلى بلاد الضاد من شقوق أو ثقوب الاستبداد الموروث في العقلية الشرقية، فكانت الديكتاتوريات العربية العسكرية الثورية والملكية المطلقة تُحارب تلك النظريات والأفكار الواردة القادمة من الغرب لرفض نموذجها الحداثي في الحكم والإدارة تحت دعاوى تختلف من نظام عربي لآخر، بعضهم يقول هجمة غربية على الأصالة الشرقية، وبعضهم يُدخلها ضمن دائرة التبشير الصليبي ليعطي التصدي لها قداسة وتقرباً إلى الله.
استثمر العسكر العربي القومي كثيراً في القضية الفلسطينية وتحرير القدس الشريف وسَلّم الراية للأصولية الدينية (السنية والشيعية) من بعده، وكان شعار لا صوت يعلو فوق صوت المعركة شعاراً فارغاً أعطى للاستبداد العربي ذرائع لتعطيل أي تنمية مجتمعية وسياسية، فيما كانت الأنظمة الوراثية البترولية تلهث وراء قشور حضارية وحداثة زائفة تتجلّى بعمارات شاهقة وسيارات مستوردة حديثة وتزيين مكاتبها بأجهزة كومبيوتر مستوردة أيضاً، ورشوة رعاياها بالمال للسكوت أو عدم المطالبة بحقوقهم الطبيعية والتي من أهمها المشاركة بصناعة قرارهم السياسي.
شاخَ الاستبداد العربي وظَنّ أنّه تأبّد وأنّ مطالب الحرية والكرامة لشعوبه قد ماتت بل شبعت موتاً، وأنّ تلك الكائنات الحية العربية ستكتفي بما يُرمى إليها من فُتات موائد السلطان، بينما تُراقب هذه الشعوب تَشكّل الجمهوريات الوراثية إلى جانب تجذّر الملكيات والإمارات العربية الوراثية وتحالف الثروة والسلطة بل انصهارهما في قالب واحد أحياناً.
يخرج الطاغية التونسي ليقول لهم لقد فهمتكم ووصلت الرسالة، ويخرج بعده ضابط ليبي أرعن أمضى أربعين عاماً في السلطة ليقول لهم من أنتم؟. في حين آثر الديكتاتور المصري التظاهر بـ (الحرد) من شعبه والتذرّع بالمرض كما يفعل الأب عندما يرى عدم طاعة من أبنائه وخسر الديكتاتور المصري معركة الجمل في ساحة التحرير القاهرية وخسر بعدها موقعه.
الديكتاتور السوري كان يَظنّ أنّ مجازر والده وسِجلّه القمعي الإجرامي ستعصمه من رياح التغيير وأنّ بذرة الحرية والكرامة تم وأدها تحت جنازير الدبابات في حماة وحلب وجسر الشغور، وأنّ الناجين من سجن تدمر سيحدثون أهاليهم بما ينتظر من يتمرد على الجلاد.
واتهم الديكتاتور السوري دول العالم قاطبة بحبك مؤامرة كونية عليه.
وصلت الشرارة لليمن وقدّم شبابها إحدى أرقى الثورات السلمية في التاريخ الحديث رغم العنف النسبي التي ووجِهتْ به، إلا أنّ التدخل الخارجي السعودي/الإيراني أفشل الثورة وغيّب الثوار ونقلها لحرب أهلية بنكهة مذهبية.
انطلق ربيع عربي مفاجئ ليس للحكام والدول التي لها مصالح في المنطقة فقط بل كان مفاجئاً للذين فَجّروه أيضاً، لم يكن يَتصوّر أحد أنّ صرخة البوعزيزي وأنّات خالد سعيد تحت سياط جلاديه المصريين التي أزهقت روحه، ولم يكن يعلم عاطف نجيب أنّ إهانة رجال درعا ستُفجّر بركاناً من الغضب يَعتمل في النفس العربية التي سئمت حياة الذل والإذعان، بَلْور تلك الصرخة الشعب السوري “الموت ولا المذلة”.
بالطبع تكاتف الحكام العرب ضِمنياً للقضاء على الربيع العربي الذي يُهدّد عروشهم وعمل كُلّ واحداً منهم بطريقته وإنْ بدت في ظاهرها بدعم خصوم حاكم آخر، ولكنه في الحقيقة كان دعماً للسيطرة على الثورات ليس بحربها بل بتوجيهها إلى غير هدفها الذي انطلقت من أجله وحرف بوصلتها لاتجاهات أخرى.
وبذلك الدعم العربي أو/و الإقليمي والدولي يَتمّ اكتشاف كل مكامن القوة والضعف في الحركة الجماهيرية.
لم يكن الدعم العربي الذي قُدّم لثورات الربيع العربي يهدف لإنجاحها، بل إما لدعم تيارات دينية غير ديمقراطية لن تكون مقبولة من جزء مهم من مواطني بلدها ولن تكون مقبولة من الخارج أيضاً ولا تملك أي مشروع سياسي نهضوي حداثي إنما شعارات عامة بدون أي برنامج حقيقي كشعار الإسلام هو الحل.
أو كما حدث في سورية واليمن كان الدعم العربي موجهاً لتيارات جهادية ما لبثت أن ابتلعت الجيش الحر الذي تَمّ تشكيله شعبياً، وكان الهدف من دعم تلك التيارات التصدي للميليشيا الإيرانية ومحاولة منع، أو الحد من تغوّل إيراني في سورية واليمن بعد هضمه النسبي للدولة العراقية، مع أنّ محاربة الميليشيا الإيرانية لم تكن تحت مظلة أو مشروع لبناء الدولة السورية وإنما تحت نفس الشعارات المذهبية التي بدأت بإطلاقها الميليشيات التابعة للحرس الثوري الإيراني.
وأيضاً يَكْمن الهدف العربي بدعم القوى المناهضة للنظام للحيلولة دون هيمنة القوى الوطنية (العسكرية والمدنية) على قرار الثورة السورية وبروز مشهد الرايات السوداء السنية في مقابل الرايات الشيعية متعددة الألوان، وحرف المسار من ثورة شعبية ضد نظام مستبد ظالم إلى حرب طائفية وبأحسن الأحوال حرب أهلية، لا يوجد منتصر فيها.
كان قراراً إقليمياً (ومن المرجّح أنه دولي أيضاً) بإيقاف قطار الربيع العربي في محطته السورية وعدم الإقلاع منها الى محطة عربية أخرى.
تَمّ دعم النظام من أطراف خارجية صلبة ومتوحشة، وساد صمت دولي مُريع عَمّا يحدث من مجازر وتجاوز للخطوط الحمر للدولة الأعظم في العالم، وفي الوقت نفسه تَمّ دعم قوى مناهضة للأسد وتُحسب على الثورة، وتصدير صورة مُشوّهة عن الثورة للخارج والإقليم، وإظهار صورة المقتلة السورية كنهاية حتمية لأي هَبّة ربيعية أخرى في الدول التي نجت من نسائم الربيع الأول، تصدير صور الدمار والقتل والتهجير الممنهج والتعذيب لتلك الشعوب لإحباط أي تَطلّعات مُستقبلية وإيثار السلامة تحت بسطار العسكر أو أحذية الملوك.
والأمر الأدهى من ذلك إصدار عفو على من لا يستحق من قبل من لا يملك، وهو الصفح على الجلاد واعتبار أنّ أفعاله التأديبية بحق مواطني بلده الرافضين لحكمه والتي خلّفت مآسٍ إنسانية سيتم إصلاحها عبر مراسيم عفو أو صفح يُصدرها الجلاد بحق من تمرّد عليه وبناء مساكن هدمها الجلاد فوق رؤوس ساكنيها لإسكان من بقي حياً منهم ودعوتهم للعودة إليها.
هذا المشهد يُجسّده العرب اليوم بدعوة جزّار سورية لنظامهم الرسمي العربي وسيتم استقباله كنجم المباراة والمثال الذي يُحتذى به، الذي دافع عن عروشهم من انتفاضات شعوبهم، سجّادة حمراء وحرس شرف وموسيقى عسكرية وإحدى وعشرون طلقة مدفعية مع صك براءة ذمة والدخول لقاعة اجتماعات الملوك والزعماء وصعوده للسُدّة وهو يحمل كأس الفائز الأول وبطل أبطال دفن الربيع العربي.