د. محمود عباس
كانت البشرية تسخر ذاتها للسلطة السماوية بمنطق الديمقراطية، وكانت الألهة تتحاور، يحكمون السماء والأرض بالعدل، ويستمعون إلى حكماء البشر، وكثيرا ما كانوا يأخذون بمشورتهم، إلى أن سئم الإنسان من روتين خلقه، فقضى على التعددية، وهدم مجلس الألهة، ليخلق مكانهم الإله الواحد المطلق، بها أدخل ذاته تحت طغيان الأمر بدون نهي، راضخا وبلذة لهيمنة الله الواحد للسماء، بلا منافس، ولا نقاش، يجرم المحاورين معه، ويكفرون المشككين في أحكامه، وبها ألغى الإنسان قوة العقل، وغرز مكانها بساطة النقل، فساد التخلف المجتمعات الراضخة لهذا الإله، رغم ما انتابت البشرية من التطور الفكري والعلمي، وبها أصبح حكماء الإنسان بلا رأي ولا تأثير على مسيرة البشرية، والقوة الكونية، وما سماه الإنسان بأسمائه المختلفة؛ حسب الشعوب والأديان، أعظم وأشمل مما حدد الإنسان لذاته بجغرافيات الأديان المختلفة.
أي أن الإنسان حكم على ذاته بالإعدام فكرا ورأيا وإرادة، تحكمه قوة سماوية مطلقة هو خالقها، ولم يعد له القدرة على تغييره أو عزله، وقد تستمر الجدلية قرون طويلة إلى أن يتمكن الإنسان من الإتيان بالبديل، كالطفرة التي دفعته لوضع الإله الواحد على عرش مجمع الآلهة.
ففي المرحلة الأولى أستمرت هيمنة السماء بالشراكة مع الأرض آلاف من السنين، والحالية بفرض طغيان السماء على الأرض دون منازع لا تزال في بداياتها، لا تتجاوز ثلاثة آلاف سنة.
فما جرى ويجري في العالم من العبث والجرائم، والتي امتدت قرابة ألفي سنة، وأكثر، هي من تبعات هذه الذهنية التي خلقت الجمود، وألغت الفكر الأخر، المنهجية التي تجاوزت منطق الأديان، وانتشرت لتسود حتى على الجغرافية السياسية والثقافية، فطغى السيادة المطلقة، وألغي منهجية التكفير الحر، والتي أدت إلى تشكيل بيئات جاهلة متطرفة، ظهرت فيها المنظمات الإرهابية بأشكالها المختلفة على مدى قرون عديدة وفي أوطان مختلفة. فلم تكن محصورة في ديانة بحد ذاتها، لكن السماويات تجاوزت الجميع، والمنظمات التكفيرية الإسلامية تفوقت على السماويات الثلاث، فهي من أفظعت في أساليب جرائمها، مثلما فظعت المسيحية في القرون الوسطى، وفي أساليب التغطية على جرائمهم، وتبريرها بالتأويلات والفقه حسب منهجية كل داعية.
ومن لدن هذه المنظمات الإجرامية والفاسدة، انبثقت داعش وتوابعها ومخلفاتها، والذين لايزالون ينتهجون الدمار بكل أنواعه، بأساليب مختلفة، يقودها أئمة جهلاء موبوئي الأذهان، من بينهم الذين خططوا لبناء جامع الرحمن وغيرها من الجوامع المشكوكة في نياتها، في شنكال مركز أبناء الديانة الإيزيدية المعروف على مدى التاريخ، وفي الإقليم الفيدرالي، مثل شكوك الرسول الكريم في بناء مسجد الضرار في المدينة، فالذين يخطبون في بعض جوامع الإقليم الكوردستاني ضد الإيزيدية وأبناءها، لا يختلفون عن خطب (أبو عامر الراهب) في مسجد الضرار في زمن الرسول الكريم.
بناء مسجد بحجم جامع الرحمن وهندستها وضخامتها في منطقة شنكال، جغرافية الكورد الإيزيديين بشكلها المطلق، مخطط ممنهج للقضاء على البقية الباقية من الديانة الإيزيدية العريقة، وسياسة خبيثة لإتمام ما أقدم عليه داعش قبل سنوات في المنطقة، وما سبقتها من الفرمانات العديدة والتي أدت إلى أسلمة عشائر كوردية كاملة من الإيزيديين في شنكال ومناطقها، وظلوا يعيشون في المنطقة ذاتها، ويشكلون أكثر من نصف سكان شنكال. وبالعودة إلى التاريخ بأقل من قرن ستتبين خلفيات تلك العشائر الكوردية الدينية.
فما صرف على بناء بهذه الضخامة من حيث الحجم والديكور والهندسة الغريبة، لا بد وأن يكون خلفها قوى تكفيرية ودول إقليمية لا تزال تنتهج منطق الغزوات وبأساليب عصرية ضد الكورد والإيزيديين حصراً.
فضخامة التكاليف المبان من حجم البناء تؤكد ما نحن بصدده، في الوقت الذي تفتقر المنطقة فيه إلى ترميم المعابد الإيزيدية، وإعادة أحياء ما تم تدميره في المنطقة من قبل منظمة داعش الإرهابية، كما وأن المنطقة بحاجة إلى المدارس وتطوير البنية التحتية، والطرقات لربطها بمنطقة كوردستان أو بمنطقة لالش.
المساجد هي مكان العبادة، ويجب أن تدعو إلى السلام، وتبنى في الأماكن التي هي بحاجة إليها، ويكون خطاب أئمتها سلام ومحبة ودعاة للخير، وربما لا ضير من بناء مثل هذا الجامع شرط أن يكون خطابه للسلام، والوئام، وتكفير البشائع التي قامت بها داعش وأمثالها والتي لا تزال مستمرة حتى اليوم. لكن ما يجري في شنكال هي على نقيض ذلك، تدعو إلى التكفير لتدرج ضمن الجرائم التي تمت طوال السنوات الماضية بحق أهلنا الإيزيديين، الذين يتبعون من حيث الجغرافية والانتماء التاريخي والعرق واللغة إلى حكومة الإقليم، رغم ما يجري من التلاعب بالأذهان، والتغيرات هنا وهناك المبنية على التلاعبات السياسية.
لذا يتطلب من حكومة الإقليم قبل أية قوى سياسية أو إدارية أخرى، الحد من مثل هذه التجاوزات، ومنع بناء المساجد في منطقة نسبة المسلمين فيها لا يذكر، بعد الانتباه على أن ما تم بحقها من محاولة لحرقها، أو حرق ما بداخلها، كان لها أسبابها، ورد فعل على التجاوزات التي يقدم عليها أئمة الجامع وروادها بحق المجتمع الإيزيدي وديانتهم، كما وهو دفاع عن الذات لا يختلف عن الدفاع فيما لو هاجمت قوى ظلامية أو داعش على سكان المنطقة، حق طبيعي وإنساني، فوجود هذا البناء الذي تجتمع فيه يوميا مجموعات تكفيرية، ويخاطبون المجتمع بعنجهية الحرب المباشر على إنسان المنطقة والديانة الإيزيدية، هو لتكفير الإيزيدي، والتبشير الإسلامي، لا يختلف عن الحركات التبشيرية المسيحية في القرون الماضية، باستثناء أنه وراء هذه تقف قوى إقليمية ومنظمات إسلامية سياسية ضد الإقليم؛ وتكفيرية ضد أبناء الديانة الإيزيدية.
فما يبثه البعض من أئمة مساجد هولير ودهوك من الخطب التحريضية ضد أهلنا الإيزيديين، تحت حجة الدفاع عن بيوت الله، وبنبرة فاجرة تكفيرية، وغارقة في الجهالة، تغطية على ما يتم في جامع الرحمن، ولا يستبعد أن يكون بينهم اتصالات وتنسيق على ما يبثونه وما يخططون له، ولا تختلف عما فعلته منظمة داعش الإرهابية قبل سنوات بحق أبناء الديانة العريقة، وهم يستمدون قوتهم ومفاهيمهم من المصادر التي تمدهم بالمال، والتي تأتي من خارج الإقليم، وهو مخطط ليس فقط لتدمير المجتمع الكوردي، وإغراقه بالجهل في الدين والثقافة الإنسانية، بل ضد مستقبل الإقليم الكوردستاني الذي يحتضن جميع الأديان والمذاهب والقوميات، ويحاول بناء مجتمع واع حضاري متفاهم.
فهم بخطبهم يخلقون بيئة غارقة في الجهل، تسهل هم تحريض الكورد المسلمين على البقية الباقية من أهلنا في شنكال ولالش، الذين لم تطالهم جرائم داعش، من القتل والسبي والتهجير، أي يدعون للفرمان؛ لكن بأسلوب مختلف خبيث، مغطاة بحجج وأضاليل واهية، يعمون بها رأي الشارع الكوردي المسلم في مدن الإقليم، لدفعهم على قتل أو أسلمة الإيزيديين في المنطقة.، وبها يخلقون بنية للدمار الثقافي الديني، والفوضى الدينية بين المجتمع، ومن ثم إلهاء حكومة الإقليم بقضايا جانبية وتناسي القضايا القومية والوطنية الرئيسة.
نطالب حكومة الإقليم، ردع ما يجري من التحريض، والحد من تمادي أصحاب هذه الخطب الشاذة، والتي ستعرض أهلنا الإيزيديين إلى خطر فرمان كارثي جديد، وشعبنا الكوردستاني إلى إشكاليات فكرية ثقافية دينية مرعبة، وهو ما ينتهجه اليوم عدد غير قليل من أئمة مساجد الإقليم، من هولير إلى السليمانية وحتى دهوك، ومعهم مسجد الرحمن في شنكال، وأغلبهم لا يختلفون عن إمام (مسجد ضرار) الذي هدمه محمد رسول الله على رأسه ورؤوس المصلين فيه، للحد من الخبث والنفاق والفساد الذي كان يودون نشره باسم الإسلام، لذلك لا ضير من تتبع سيرة الرسول ومنع الأئمة التكفيريين من الخطبة، بل ومحاكمتهم، على خطبهم التحريضية.
28/4/2023