مقدمة كتاب مدائح السوط: وقائع إحياء الذكرى السنوية الأولى للشهيد فرهاد محمد علي صبري*

إبراهيم اليوسف

  
 أي حبر يمكن ارتقاؤه إلى مقام الدم؟
هكذا سألت نفسي، وأنا أبدأ بالتقديم لهذا السفر الكردي، السفر الذي يتماهى بالملحمة، أو الأسطورة، رغم أن كل ما يكونه ليس سوى أعمدة ودعائم من الواقع! ولعل أية إجابة في مقام الحيرة- هنا- لا تعدو أن تكون محض اجتهاد شخصي، فحسب، ذلك لسعة فضاء الحالة، مادامت إزاء كائن استثنائي، استطاع، ومن خلال أغلى ضريبة طراً، يمكن أن يدفعها أكثرنا كرماً على الإطلاق، غير مبال بما سيترتب عليه من ثمن، أو ألم، مادام أنه في المقابل- يترجم رؤاه، وحلمه، بعيداً عن أية لغة تدخل في إهاب” فن الممكن” الذي قد يلجأ إليه أحدنا للنجاة برأسه، وهو يواجه آلة الاستبداد، في زمان الحلول الفردية المقيتة!
ومن هنا، فإن كل حبر في هذا العالم، حتى وإن اتخذ صورة كل البحار، والأنهار، والينابيع، والغيوم، لا يمكن أن يؤدي دور مجرد نقطة دم امرىء، يقدم روحه في محراب الوطن، وهو يضع صليبه على ظهره، متحدياً قهقهة الجلاد، وصلفه، وجبروته، وكل ما في معجمه من صفات قميئة، لا علاقة لها بالمعجم البشري البتة، عارفاً في قراراته، ما يمكن أن يؤول إليه مصيره، وهو يمارس متعة المواجهة!
حقيقة، حين أتحدث عن و محات أسطورية في شخص فرهاد، فأنا لم أنطلق من مسألة محددة، وهي أنني- كشخص- لم أعرف هذا الإنسان عن قرب، كما يقال، بل إن لي شرف محاولة التعريف بدمه المهدور، في أربع جهات العالم، من خلال ما أمكن القيام به، معتمداً على الفضاء الألكتروني الذي بدا أكثر من يفهم جرح الكردي، كي يتصادى ذلك في كل أذن، ويقض مضاجع كل ذي ضمير نائم، ويمعونة إعلاميين شجعان مجهولين، أو معروفين، وليغدو اسمه على كل لسان، كما تقول العامة!
ومن أين أتيت بمصطلح: الملحمة، إذاً؟
ربما، إن أهم ما في هذا المصطلح- بحسب زعمي- عاملان اثنان: الدم، والترفع عن الزائل الأنسي، وهما- تحديداً، وبعيداً عن المظنة، لمتوافران، تماماً، في شخص فرهاد، الذي وضع خلف ظهره كل مراكب الأوبة، وهو يعتقد أن في مكنة كلمة واحدة، أو نظرة، أو بصقة، في وجه قاتله، أن تعيد إليه توازنه، وأساطين كرامته، من دون أن يلجأ إلى لغة الأنين، أو البكاء، أو الاستغاثة، أو الاستشفاع، وهي عموماً، بعيدة عن إدراك، أو وعي هذا الجلاد، لأنه قد قطع آخر خيط، يربطه بعالم العاطفة، أو الإحساس البشري!
لقد استطاع فرهاد، أن يقدم- ببسالة- أوراق اعتماده، وعلى نحو خاص، كي يكون- سفيراً للشهيد الكردي- على امتداد خريطة الدم، رغم أن كل أقرانه، غائبين أو حاضرين، شهداء أو شهوداً، إنما هم- في الحقيقة- يشكلون أسراباً من الكواكب، في أعالي جبال كردستان الشمَّاء، يضيئون سماء الكرد، ويبددون كل عتمة، من شأنها أن تحاول- عبثاً- خنق ذرا هاتيك الجبال الأبية، كما هو سفير للجرح الكردي، وللألم الكردي، وللحلم الكردي!
ثمة الكثير الذي كتب عن شهداء انتفاضة 12 آذار، وإن كان ما يكتب عن أحد هؤلاء- الشهداء- أياً كان- إنما ليصح أن يعمم على أقرانه جميعاً، ماضياً، وحاضرا، ومن- هنا- تماماً- إنني لأحس كم أننا- معاشر الأحياء الأموات- بلغة الشهيد محمد معشوق الخزنوي- مدينون لهؤلاء، رغم بعض محاولاتنا غير المفلحة للإحاطة ببعض مناقب، وخصال، هذه الكوكبة الباسلة من الأبناء والأهلين!
عندما قدمت – بطاقة الدعوة- للشيخ الشهيد، لحضور الاحتفال بسنوية الشهيد فرهاد، سألني: هلا حدثتني عن هذا الشهيد، قليلاً!، فقلت له: أجل، على الرَّحب والسعة، ورحت أحدثه عبر حوار استطعت أن أكونه، من خلال شهادات أقران له، ثقاة كانوا معه في غرفة التعذيب، لأجده منخرطاً – على الفور- في لجة حالة استثنائية، يتصبب عرقاً، في ذلك اليوم الربيعي، وهو يرسم تصوراته عن هذا الرمز. في اليوم نفسه، يقدم كلمة عنه، يلقيها علينا في هذا الاحتفال، وليغدو كل من سمعه أسير رعشة مبهمة، في حضرة هذا الجذب الاستثنائي، ولأعلم بعد أسابيع قليلة، فحسب، أن هذا الشيخ كان قد توحد – حقاً- مع صورة هذا الأنموذج الكردي، وراح يترجمه، على نحو آخر، في مواجهة أخرى، قد تكون أعقد، وأشرس، وإن كنت لا أفرق، بين ترجمة من هذا النوع، وأخرى، البتة، مادام الدم هو الدم، وما دامت كلمة “لا” هي ذاتها، بأي صوت قيلت، وبأية ذبذبات رددت، ومن أي فيه أو حنجرة أطلقت، وأنى كانت..!
لقد غدا- فرهاد- في الترجمة المتواضعة، العصيَّة، الصعبة، لموقفه البطولي، مدرسة في المقاومة، يستحقُّ من خلالها أن يطلق اسمه عالياً، وإن كان قد يتداول- الآن- في حدود الهمس، والهلع..!
وحين أشخّص -هنا- اسم فرهاد، فأنا لأعني كل الشهداء الكرد، على اختلاف مسارح استشهادهم، وحكايات بطولاتهم، منذ أول شهيد كردي، قضى نحبه واقفاً، دون رسالته، ومروراً بكوكبة شهداء الانتفاضة، ومنهم شيخ الشهداء الخزنوي، وحتى من ينتظر منا، أياً كان، ليكلل بتاج الشرف الاستثنائي، إلى أن يتمَّ إحقاق حق الكردي، ويعود إلى مساره الطبيعي، بعد أن غيِّب عنه، على مسرح التاريخ، والجغرافيا، طويلاً، وهو يمضي في رحلة التيه المديدة، محتلاً أول المقاعد، في سفينة النوايا الطيبة..!
ونحن، في المنتدى الثقافي، حين آلينا على ذواتنا مهمة إحياء الذكرى السنوية الأولى لهذا الشهيد، فإن اعتبارات عديدة، انطلقنا منها، برهتئذ، أولها إحساسنا، برد جزء من جميل أي إنسان، إليه، لاسيما إن مثل هذه المهمة، كانت تواجهه بمثبطات عديدة، لم نكترث بها، انطلاقاً من جملة قناعات، دأبنا أن نكون أوفياء لها، ما أمكن، ولكي يكون هذا الاحتفال احتفاء بأروح بقية سرب الشهداء الذين اقترنت أسماؤهم بانتفاضة آذار.!
تحية إلى روح الشهيد فرهاد محمد علي صبري، نجل صديقي أبي فرهاد، الذي كان خير مدرسة، ومعلماً تربى في كنفه هذا الابن البار، الذي لم يقبل بأن تستجوب أمه، أو زوجه، أو شقيقته، ليلوذ بالفرار إلى أن تحط الزوبعة أوزارها، بل راح يواجه جلاديه، عبر همة ومهمة واضحتي النتائج لديه!
تحية إلى أرواح كل شهداء الانتفاضة الباسلة، ممن ستظل أسماؤهم- جميعاً- منارات في سماء كردستان، مادام أن هناك كردياً ينبض قلبه…!
 
*الكتاب من إعداد منتدى الثلاثاء الثقافي-2004
تمت الطباعة عن طريق- نهاد أوسكان – مؤسس مكتبة جارجرا- وكان ذلك مغامرة كبيرة حقاً
** سأحاول أن أقدم عرضاً لمحتويات الكتاب عماقريب
 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي في السنوات الأخيرة، بات من الصعب تجاهل التحوّل المتسارع في نبرة الخطاب العام حول العالم . فالعنصرية والكراهية والتحريض عليهما لم تعودا مجرّد ظواهر هامشية تتسلل من أطراف المجتمع، بل بدأت تتحول، في أكثر الدول ديمقراطية ولم يعد ينحصر في دول الشرق الأوسط ( سوريا . لبنان – العراق – تركيا – ايران وو .. نموذجاً ) وحدها…

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…