الانحسار الامريكي ـ ج4

زاكروس عثمان 

هل ما زالت امريكا تستحق صفة الدولة العظمى: 
بلغت امريكا اوج عظمتها في نهاية القرن الـ 20 وبدايات القرن الـ 21  وباتت القطب الاوحد في العالم عقب انهيار القطب الاستبدادي ـ الشيوعي، ما مكن واشنطن من ان تلقي بثقلها في المجتمع الدولي والانفتاح اكثر على القضايا الدولية لإيجاد حلول لها.
بالفعل بدأت واشنطن بالتحرك في هذا الاتجاه في عهد الرئيس جورج بوش الاب 1989 حين نظم اضخم تحالف عسكري ـ سياسي في التاريخ  بهدف تحرير الكويت بعد تعرضه لهجوم شنه الجيش العراقي  1990 في عهد صدام حسين رئيس النظام الدكتاتوري البائد، خاض بوش حرب الكويت 1991 وهزم الجيش العراقي، ونتج عن الحرب اعلان منطقة حظر طيران في كوردستان باشورـ العراق عند خط العرض 36 شمالا، بذلك اصبحت المنطقة آمنة من هجمات الجيش العراقي ما وفر اجواء مناسبة للأحزاب الكوردية لإجراء انتخابات في كوردستان باشور واعلان  تشكيل حكومة وبرلمان  كورديين ومن ثم اعلان المنطقة كإقليم فيدرالي، وهذه اول مرة تنفتح واشنطن بهذا الوسع على القضية الكوردستانية ما شجع لندن وباريس وبرلين على ذلك ايضا، وشكل ذلك زخما قويا للحركة الكوردستانية وانعش آمال الكورد  فكانوا اكثر شعوب المنطقة ترحيبا بالمتغيرات الدولية ومن اعلان الرئيس بوش ولادة النظام العالمي الجديد بعد الانتصار في حرب تحرير الكويت.
لم يقتصر اهتمام الادارة الامريكية برئاسة بوش الاب بتحرير الكويت وفرض عقوبات على نظام صدام ودعم الحركة الكوردية بل ارسل قوات امريكية إلى الصومال ايضا ما يشير إلى قيام واشنطن بمهامها كزعيمة للعالم، وتابع خلفه الرئيس بيل كلينتون 1992 نفس السياسة حيث حرص على شن ضربات جوية ضد الجيش العراقي، إلى ان اصدر قانون تحرير العراق  1998 ، ثم جاء الرئيس جورج دبليو بوش 2000 الذي خاض الحرب في افغانستان 2001  بعد هجمات 11 سبتمبر التي ضربت نيويورك، وفي 2003 شن الحرب على النظام  العراقي حتى دخلت قوات التحالف بغداد واسقطت صدام حسين، وقدم الدعم لقوات البيشمركة، وانتهت العملية بإقرار الدستور العراقي في العهد الجديد بالفيدرالية لإقليم كوردستان باشور، وكان من المنتظر ان تتطور العملية السياسية في الاقليم برعاية امريكية ـ اوروبية الى حق تقرير المصير، ولكن في عهد خلفه اوباما 2009 حدثت انتكاسة في السياسة الخارجية لأمريكا ليس بخصوص المسألة الكوردية بل بشكل عام حيث قررت واشنطن تجميد ملفات كثيرة, لتبدأ مرحلة العزلة على يد اوباما الذي امتنع عن تدخل جدي سواء عسكري او سياسي في الازمة السورية ليفتح الطريق امام التدخل الايراني الروسي التركي، واتخذ نفس الموقف من الازمة اليمنية الامر الذي مكن ايران من تطويق السعودية من الشرق والجنوب، وزادت النزعة الانعزالية في عهد الرئيس دونالد ترامب 2017الذي خطط لسحب القوات الامريكية من افغانستان وتقليل عددها في العراق كذلك قرر سحبها من كوردستان روزئافاـ سوريا وتسبب ذلك بقدوم جيش الاحتلال التركي، ولكنه تحت ضغط  الكونغرس ومسؤولين امريكيين كبار قرر ابقاء عدد محدود من القوات في المنطقة. 

زعامة امريكا للعالم كانت ضرورة وليست ترفا:   

درجت العادة على مر التاريخ ان تكون هناك دولة عظمى تنتج نظام عولمي يرتب العلاقات الدولية وفق ضوابط معينة تمنع او تقنن الطغيان، حيث تمنح الدولة العظمى نفسها صلاحية إدارة العالم ومتى ما تقاعست عن القيام بهذا الدور فانها تمنح الفرصة لظهور قوى منافسة لها تعمل على الحلول محلها، ومتى ما بدأت هذه القوى بالتمرد تفقد الدولة العظمى تدريجيا هيبتها وسطوتها حتى لو بقيت متفوقة عسكريا ـ اقتصاديا فترة من الزمن، لكن تفوقها لا ينفعها في ردع خصوم يعملون على ازاحتها عن مركز قيادة العالم، بكلام اخر الدولة العظمى رغم قوتها تدخل بشكل غير متوقع او غير مفهوم مرحلة الضعف ـ هذه جدلية تاريخية ليس لها تفسير واضح ـ ولكن الامر يتكرر على مر العصور، قوى ناشئة تنهض فجأة وتطيح بقوى عظمى، حدث هذا مع قبائل الجرمان الذين اسقطوا الامبراطورية الرومانية العظيمة فكان الحادث منعطف تاريخي غير وجه اوروبا والعالم، حدث الامر نفسه مع العرب المسلمين وكانوا قبائل بدوية لا باع لها بالدولة والحضارة اسست دويلة في عمق الصحراء وقبل ان تثبت اركانها فاجأت الدولة البيزنطية والفارسية أعظم إمبراطوريتين في العالم القديم, وكانت المفاجئة أن هذه الدويلة تمكنت من إسقاط الإمبراطورية الفارسية في وقت قصير لا يتناسب مع حجم وقدرات دولة عظمى، وفي نفس الوقت انتزعت مجمل اراضي المشرق القديم من بيزنطة لتقلص مساحتها في حدود آسيا الصغرى ومحيط العاصمة القسطنطينية التي احتلها الاتراك فيما بعد ثم توغلوا في اوروبا حتى وصلوا أبواب فيينا، ونتج عن هذه الاحداث الخطيرة متغيرات دولية كبرى انهت نظام عالمي وجاءت بنظام عالمي آخر تهيمن عليه دولة الخلافة الاسلامية.  
اعتقد مفكرون معاصرون ان هذا العنصر المجهول الذي يحرك التاريخ بشكل يعاكس منطق الأشياء لن يستطيع التأثير في مصائر الدول العظمى الحديثة نظرا لما حققت من تقدم حضاري ومنجزات علمية تكنولوجية تمكنها من مواجهة التحديات الظاهرة والباطنة, ولكن على ما يبدو فان هذا العنصر يحتفظ بفاعليته وقدرته على رسم مصير دولة عظمى معاصرة، حين يقودها فريق من السياسيين ذوي ادمغة بلاستيكية يعتقدون ان الاهتمام  بالشأن الامريكي افضل من زعامة واشنطن للعالم، ربما هذه التوجهات دفعت اوباما وخلفه إلى اهمال القضايا الدولية والتهرب منها، ولكن ما لم يحسب حسابه الانعزاليون هو ان النظام العالمي الجديد فشل، وبسبب ذلك دخل العالم مرحلة حرجة تنذر بالصراعات والفوضى ولهذا فان زعامة امريكا للعالم ليست وجاهة او رفاهية بل ضرورة تمليها ظروف تاريخية ـ جيوسياسية، واليوم نتيجة تراجع الدور الامريكي تزداد الخلافات بين الدول وتشتعل الحروب والنزاعات حيث لا توجد قوة ترد قوى الصراع عن بعضها البعض، من جهة اخرى كانت زعامة امريكا للعالم ضرورية لحفظ السلم العالمي وابعاد شبح الاسلحة النووية، ولكن انكفاء واشنطن على نفسها افسح المجال أمام القوى المناوئة بالتحرك اكثر مما يجب إلى درجة تهديد الامن القومي الامريكي، وفي الظرف الراهن تزداد الاجواء الدولية توترا واحتقانا بسبب الحرب الروسية في اوكرايينا وقد تجد واشنطن نفسها مجبرة على الخروج من الشرنقة والتخلي عن سياسة المهادنة، فان قررت العودة إلى الساحة الدولية بما يناسب حجمها فلن تحصل على ذلك بسهولة لان قوى اخرى تلعب بالقنابل النووية وجدت لنفسها موقع قدم وهي غير مستعدة ان تخلي مواقعها كرمى لواشنطن، كما ان امور كثيرة تغيرت حين كان الامريكان يغطون في نوم الانعزال، على الرئيس جو بايدن ان يسأل نفسه لماذا تحولت السعودية عن الشراكة الاستراتيجية التاريخية مع واشنطن الى شريك لخصومها في موسكو وبكين.

هل تستطيع واشنطن تصحيح غلطتها:

ما يحصل اليوم هو ان البشرية عالقة في مرحلة انتقالية مستعصية “فوضى الاقطاب” وضع بالغ الخطورة يحدد مصير الكوكب، إذ لا تستطيع امريكا العودة بالعالم إلى حقبة القطب الاوحد، ولا تستطيع الاقطاب الصاعدة ان تعبر بالعالم إلى نظام عالمي بديل، في مثل هذه الاحوال يقول التاريخ كلمته إذ حين تعجز البشرية عن ايجاد حل ناجع لازمات كبرى تواجهها فان الحرب تكون الحل الوحيد، ولن تكون الحرب القادمة تشبه اي حرب عرفتها البشرية من قبل، نظرا لاستحواذ افرقاء كثر على قنابل نووية، فهل تصحيح الخلل وإعادة ضبط النظام العالمي يتطلب التضحية بـ 7 مليار انسان والابقاء على مليار ذهبي، شخصيا لست قلق على فناء مليارات البشر بل من العذابات التي سوف يعانون منها قبل ان يحصدهم الموت، ما يقلقني هو هل سنحصل سريعا على فرصة الموت الرحيم. 

ديمقراطية عرجاء: 

ما زالت الديمقراطية في كثير من مفاصلها تفتقر إلى العدالة والمساواة, سواء على صعيد الأمم المتحدة أو على صعيد العلاقات الثنائية بين الدول او حتى على صعيد العلاقات داخل الدولة الواحدة, فلماذا توضع الحواجز امام المد الديموقراطي, ولماذا تشهد الدكتاتورية حالة صعود وانتعاش, حيث عادت روسيا قلعة قوية للدكتاتورية, فيما الولايات المتحدة الأمريكية حامية الديموقراطية تنكفئ على نفسها, ليس بإضعاف التيارات الديموقراطية والليبرالية فحسب بل كذلك ايضا بتمكين القوى الاستبدادية حول العالم وتحديدا في الشرق الأوسط, كما هو واضح في الحالة السورية حيث لا تكتفي واشنطن بالامتناع عن دعم التيار المعتدل في الثورة بل تضغط على الدول الأخرى لإجبارها على التوقف عن دعم هذه التيارات بالمقابل تغض النظر عن المساعدات التي تقدم الى الجماعات الراديكالية بمختلف مشاربها الشوفينية الاسلاموية او اليسارية.
انتهى

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…

خليل مصطفى مِنْ أقوال الشيخ الدكتور أحمد عبده عوض (أُستاذ جامعي وداعية إسلامي): ( الطَّلَبُ يحتاجُ إلى طَالِب ، والطَّالِبُ يحتاجُ إلى إرادة قادرة على تحقيق حاجات كثيرة ). مقدمة: 1 ــ لا يختلف عاقلان على أن شعوب الأُمَّة السُّورية قد لاقت من حكام دولتهم (طيلة 70 عاماً الماضية) من مرارات الظلم والجور والتَّعسف والحرمان، ما لم تتلقاه شعوب أية…

أحمد خليف الشباب السوري اليوم يحمل على عاتقه مسؤولية بناء المستقبل، بعد أن أصبح الوطن على أعتاب مرحلة جديدة من التغيير والإصلاح. جيل الثورة، الذي واجه تحديات الحرب وتحمل أعباءها، ليس مجرد شاهد على الأحداث، بل هو شريك أساسي في صنع هذا المستقبل، سواء في السياسة أو في الاقتصاد. الحكومة الجديدة، التي تسعى جاهدة لفتح أبواب التغيير وإعادة بناء الوطن…