الانحسار الامريكي ـ ج3

زاكروس عثمان 

ما الذي يدفع امريكا للانكفاء على نفسها:
نتيجة متغيرات دولية عاصفة في نهاية القرن الـ 20، ظهرت نزعة جديدة في السياسة الخارجية لأمريكا تميل إلى الانكفاء على الذات, ورغم ان اوباما اكثر رؤساء امريكا الذين جاؤوا بعد انهيار المعسكر الاستبدادي تعبيرا عن سياسة الانعزال إلا ان هذه التوجهات كانت موجودة قبل تسلمه السلطة وبقيت موجودة بعد مغادرته للبيت الابيض، ولا تقتصر هذه النزعة على تيار ايديولوجي ـ سياسي معين بل تتجسد في مواقف و ممارسات بعض صناع القرار في واشنطن سواء كانوا ديمقراطيين او جمهوريين، ممن يحبذون انشغال امريكا بشؤونها الداخلية وانصرافها عن المشاكل الدولية إلا قضايا معينة تمس امنها القومي، إذ اعتقد هؤلاء الانعزاليون ـ ان جاز التعبيرـ 
 ان قواعد اللعب في الساحة الدولية تبدلت نهائيا بزوال القطب الروسي الدكتاتوري ـ الاشتراكي ولم يعد هناك خطر حقيقي يهدد القطب الامريكي الديمقراطي ـ الليبرالي وان المبارزة الايديولوجية انتهت بزوال الشيوعية، بناء عليه لم يعد من الضروري ان تصرف امريكا اهتمامها على القضايا الدولية طالما الغريم الايديولوجي شبه معدوم، تبعا لهذه القناعة بدأت واشنطن طواعية تغيب تدريجيا عن الساحة الدولية وذلك بتغيير مواقفها من بعض القضايا او التخلي عن بعضها الاخر، لتمنح عن وعي او خطأ فرصة ثمينة لخصمها المنهار كي يقف على قدميه مجددا ويعود إلى الساحة بسرعة ربما كانت مفاجئة لواشنطن, وحدث في اقل من عقدين ان الدب الروسي الجريح تخلص من مخالبه الاشتراكية البالية وتسلح بمخالب رأسمالية وراح ثانية يوسع دائرة نفوذه، فهل كانت واشنطن غافلة عن خصمها اللدود وهو يتعافى ام ان نزعتها الانعزالية سمحت لموسكو بالتحرك بحرية، وفي الوقت الذي كانت واشنطن تنطوي على نفسها كانت شهية موسكو مفتوحة على الهيمنة والنفوذ، وعلى ما يبدو ان الساسة الامريكيين المغترين بقوتهم العسكرية وطاقاتهم العلمية والتكنولوجية، والمنتشين بسقوط الشيوعية وانتصار الرأسمالية لم يتوقعوا أن معطيات المتغيرات الدولية سترد العافية إلى الدب الروسي وتوقظ التنين الصيني وتولد اقطاب متفرقة مناقضة للقطب الامريكي الذي وجد نفسه عاجزا عن مواجهة هذا الواقع  فقرر الانزواء ما معناه ان العزلة كانت خيارا امريكيا حرا في البداية ولكن في المراحل التالية وجدت واشنطن نفسها مجبرة على انتهاج سياسة العزلة، لأنها بعدما تخلت عن دور شرطي العالم  في عهد اوباما ما عادت قادرة على مواجهة الاقطاب النامية لا سياسيا ولا اقتصاديا ولا عسكريا.
فوضى الاقطاب:  
وجدت واشنطن نفسها امام التنين الصيني الذي فرض نفسه كقطب يصعد ويتضخم بوتيرة عالية قادما من الشرق اعتمادا على القوة الناعمة، فيما موسكو  مسلحة بترسانة نووية تعيد مجد القياصرة، وعلى التخوم تسبح اقطاب نامية مستفيدة من جدلية الجذب والنبذ  بين الاقطاب الثلاثة، وعلى ما يبدو فان الامور اعتبارا من عهد اوباما بدأت تخرج عن سيطرة واشنطن فلا هي تستطيع ردع روسيا والصين لامتلاكهما اسلحة نووية، بل هي غير قادرة حتى على لجم كوريا الشمالية او ايران او تركيا، هذه التعقيدات تدفع بواشنطن إلى الاقتداء بالنعامة بوضع رأسها في الرمال، وذلك بالانزواء على نفسها تهربا من مسؤولياتها كدولة عظمى، و ما كان التهرب إلا عاملا اساسيا في تفاقم المشكلة عوضا عن حلها، على سبيل المثال بقيت واشنطن من بعيد طوال عقود تماطل وتناور النظام الايراني في مسألة اطماعه التوسعية ومن ثم ملف طهران النووي دون ان تتخذ الاجراء المطلوب الذي ينهي مشاريع النظام الايراني في وقت كانت امريكا تستطيع انهاء هذا الملف، بل حدث العكس حيث ان الادارات الامريكية المتعاقبة مكنت عمدا او سهوا الايرانيين من احتلال 4 بلدان عربية ومن تصنيع وامتلاك اسلحة نووية، واليوم تبدلت الظروف ولم يعد بمقدور واشنطن بسهولة وضع حد للمطامع الايرانية بل طهران هي من تهدد الامريكان حيث تسرح وتمرح الدرونات والصواريخ الايرانية في سماء الخليج برا وبحرا كذلك فوق رؤوس الجنود الامريكان بالقواعد والبوارج المتواجدة في المنطقة، قد يقول البعض ولكن اوباما قَيَدَ برنامج ايران النووي باتفاق دولي، اقول هذا الاتفاق كان اضحوكة لأنه افرج عن مليارات الدولارات لتدخل خزينة النظام الايراني ما مكنه من توطيد حكمه ومن تغذية مشاريعه العسكرية والنووية، ومن تطوير برنامجه النووي في مواقع سرية بعيدا عن اعين المراقبين الدوليين، وحين جاء الرئيس دونالد ترامب والغى الاتفاقية فانه لم يلحق الضرر بالنظام الايراني بل منحه الحجة حتى يسرع في تطوير برنامجه النووي الى مستوى القدرة على انتاج سلاح نووي. 
من المؤكد ان الادارة الامريكية تدرك بان توسع إيران هو توسع لنفوذ روسيا, وتدرك أيضا بأن الاستراتيجية الروسية والإيرانية تلتقيان على إنهاء الوجود الأمريكي في آسيا الوسطى والشرق الأوسط وشرق أوروبا, فأي منطق يبرر لرئيس امريكي أن يعطي الفرصة لطهران وموسكو حتى تمضيا قدما في تحقيق أهدافهما, بالمقابل ماذا تجني واشنطن حين تسمح لخصومها بالتفوق عليها, والجواب هو ان واشنطن لا تريد للديمقراطية الحقيقية ان تنمو وتزدهر في بعض البلدان، وهذا يفسر دعمها للأنظمة الاستبدادية بالأخص في الشرق الاوسط، إذ لا يمكن فهم الموقف الامريكي من طهران إلا انه حرص على تقوية نظام تيوقراطي مستبد, وأن دعوتها لبناء نظم ديمقراطية زيف ونفاق، وهذا جلي في اتباع واشنطن سياسة المعايير المزدوجة في تعاطيها مع المسألة الكوردستانية  فهي التي تقف دائما وابدا مع الدول المحتلة لكوردستان. 
القضية الكوردستانية اسطع مثال على الانعزالية الامريكية:
ضغطت الادارة الامريكية على مختلف الدول بعدم الاعتراف بنتائج الاستفتاء 25 سبتمبر 2017 الذي اجري على استقلال اقليم كوردستان باشور، مع ان الاغلبية الساحقة صوتت لصالح الاستقلال، من جهة اخرى تمتنع واشنطن حتى عن مجرد الاعتراف بالإدارة الذاتية في كوردستان روزئافا رغم انها تعتمد على القوات الكوردية في محاربة الارهاب ومواجهة التواجد الروسي ـ الايراني في منطقة غرب الفرات الاستراتيجية، ناهيك عن امتناع  الامريكيين عن تقديم ابسط اشكال الدعم السياسي او العسكري للثوار الكورد في كوردستان روزهلات وكان المفروض ان تساعدهم في محاربة النظام الايراني باعتبار الاخير خصما لامريكا!! اما الموقف الامريكي من مسالة كوردستان باكور اسوأ بكثير كون واشنطن تنحاز تماما إلى صف المحتل التركي، فاي عزلة تعيشها امريكا وهي التي تتنكر لمبادئ رئيسها وودرو ويلسون الذي قدمها إلى الكونغرس 8 يناير/ 1918 والتي تنص على حق الشعوب في تقرير مصيرها، فأي رياء تأتي به واشنطن وهي تتحدث عن المبادئ الإنسانية والديمقراطية في وقت تحرم فيه امة على ارضها من الحرية والاستقلال، هذه هي العزلة التي اقصدها والتي تشوه الانطباع السائد لدى جمهور كبير في مختلف انحاء العالم على ان الولايات المتحدة الامريكية نموذج الدولة المثالية.   

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…