سعيد يوسف
ترى ماذا أقول ..؟
هل أردّد مقولة ميخائيل نعيمة “كلّ ما في الطبيعة ثمينٌ وجميل “.هذه المقولة، وربّما الوحيدة التي بقيت معلّقة في ذاكرتي منذ قراءتي لكتابه “البيادر” أيام كنت طالباً في مدرسة دار المعلمين في مدينة حمص الجميلة في سنيّ سبعينيات القرن الماضي.
أم أقول كم أنت قاسيةٌ، جامدة لا رحمة ولا شفقة لديك، ولا تملكين المشاعر والأحاسيس أيتها الطبيعة الظالمة…ومن ثمّ أردّد مع فيلسوف الصيرورة الإغريقي هرقليطس (٥٣٥-٤٧٥)ق.م. بأنّ ” الصراع/الحرب هو طبعك وقانونك الأساسي وإنّه من العدل ديمومة هذا الصراع بحسب رؤيته. وأن النار الأزلية، والأبدية جوهر وجودك وأصلك. تلك النار الحية المستعرة دائماً، والمتحولة أبداً…فلا ثبات ولا قرار.
الحياة والموت، الخلود والفناء، الخير والشّر…تموت إمرأة تحت أنقاضك، ويحيا جنين غضّ طريّ..!
با لبؤس المشهد بقدر غرابته، ويا لهول الكارثة وعمق فظاعته. في فضاء درامي تراجيدي تتزاحم فيه المشاعر والأحاسيس وتضيق ساحة الإدراك والوعي. تعجز اللغة عن التعبير، وحده الصمت لغة المكان، اللغة الأكثر بلاغةً، والأعمقُ إجلالًا في التعبير عن حرمةِ المشهد. وحدهُ أبا تمّام في قصيدتهِ البائية : غمرته جذوةٌ سادية، منتشياً بوجهِ مدينةِ عمورية المعفّرة بالأتربة، كخدودٍ مدماةٍ من الخجلِ بحسب وصفه، أثارتْ شهوته..!
إنّها الكارثة حقّاً…التي تختزلُ جدلياتِ المكان، وتناقضاتِ المشاعر والانفعالات، وتضاربِ المصالحِ والأهواء، في ساحةٍ تتعالى فيها الأصواتُ بين صراخٍ وعويلٍ وأنين واستغاثة…تحت ركامات هائلةٍ من المتهاويات، فيما الآخرونَ أسيادُ السلطات في الخارج، يتنازعون على ملكيةِ السيادة على المعابرِ الحدودية، ويتعاركونَ على تقاسمِ الغنائمِ والمعونات، ويساومون على توزيعها في بازاراتِ السياسة وفقَ الأهواءِ والمصالح والتحالفات، في غيابٍ شبهِ كاملٍ للقيمِ الأخلاقيّة ..!
فما هي الكارثة..؟ ومن هو الكارثة..؟ الإنسانُ أم الطبيعة..؟
تلكَ أسئلةٌ تفرضُ حضورها في ساحةِ الحدث/ الكارثة التي زلزلتِ الجغرافيةَ الواحدة ذاتِ الأغلبيةِ الكوردية، والممتدّةِ بين جنوبِ تركيا وشمالِ غربِ سوريا، والتي استجرّت معها العالم لتفصحَ كلّ جهةٍ عن فحوى رسالتها، وتكشفَ عن مضمونِ ردود أفعالها، وتظهر ملامحَ أشكالِ سلوكياتها.
فيما الجميعُ يعلنُ عن صفاءِ نواياه، وسموّ إنسانيته، ومحضِ براءته.
الكارثةُ لغةً، كما في معاجم العربية: مصيبةٌ عظيمةٌ، وخرابٌ واسع. يظهرُ من الشرحِ الّلغويّ عجزُ التفسير وقصوره عن توضيح المفسَّر بمفردةٍ واحدة، ولهذا أردفَ الشرحُ بكلمةٍ/ كلماتٍ أخرى عسى ولعلّ أن تعادلَ المفسَّر، الكارثة.
في حين أنّ المعنى الاصطلاحيّ : هي اضطرابٌ خطير يحدثُ خلالَ فترةٍ قصيرة نسبيّاً. تسبّبُ خسائرَ بشرية وماديّة، واقتصادية، وبيئيةٍ واسعةِ النّطاق، والتي تتجاوزُ قدرةَ المجتمعِ على التغلبِ عليها باستخدامِ موارده الخاصة (ويكيبيديا). ولهذا السّبب تسارعُ الدّولُ والمنظماتُ الإنسانية وغيرهما إلى نجدةِ المنكوب، ومساعدته، وتقديمِ مختلفِ أشكالِ الدعم، والعون له…وإنّه لفعلٌ إنسانيّ نبيل.
في الزلزال الأخير الذي ضرب المنطقة التي أشّرنا إليها، والذي خلّف دماراً هائلاً ومروّعاً، وفقداناً لأرواح عشرات الآلاف من البشر خلال ثوانٍ معدودات. هذا عدا ما تركه من هلع وفزع، في نفوس سكّان المنطقة ومحيطها…وعلى أثر ذلك عرضت كل الدّول مساعدتها، وسارعت للمشاركة في أعمال الإنقاذ ومدّ يد العون والمساعدة الإنسانية للمحتاجين والمنكوبين.
ومع ذلك فإنّ آلياتِ تقديمِ المساعدات لم تخلُ من بؤسٍ النوايا، وزيفها وعهرها، وقد تجلّى ذلك أكثر ما تجلّى في الجغرافية الشمالية الغربية من سورية، وخاصةً في منطقة عفرين المحتلة بالأساس من قبلِ تركيا ومرتزقتها الذين عاثوا فيها فساداً وتخريباً وعربدة، وأجرَوْا فيها تهجيراً وتغييراً ديمغرافياً، والمنكوبة أصلاً مع بلداتها، بينما جنديرس بينما كان لها النصيب الأكبر من الدّمار والخراب والتشرّد في الزلزال المدمّر.
وباعتبار عفرين محتلة من قبل تركيا، فإن المسؤولية القانونية والأخلاقية تقع على عاتقها، لكنّ السلطاتِ التركية تتبرّم من كونها دولة احتلال، حتى تعفي ذاتها من أية مسؤولية أو تساؤل محتمل، بل تعتبر المنطقةَ محررةً وتحت سيطرةِ ما يسمى الجيش الوطني الحرّ، والحكومة المؤقتة لإئتلافِ المعارضة السورية، التي لم تخلّف سوى ارتكابِ الجرائمِ بحقّ المدنيين الكورد، من تهجيرٍ قسريّ وتغييرٍ ديمغرافيّ، واعتداءٍ على البيئة…الخ وبناءٍ للقرى والمستوطنات النموذجية بتمويلٍ قذرٍ مقدّمٍ من إمارتيّ قطر، والكويت لعائلات النازحين والوافدين والميليشيات المسلحة، والفصائلِ الإرهابية، والتي وصفها ميشيل كيلو يوماً ما “بشلة من الزعران والسّرسريّة “. وهي تكادُ لا تعدّ ولا تحصى بمسمّياتها التراثيّة والمستحدثة، والتي تنفّذ مخططاً دولياً تركياً هدفه، اجتثاثُ الكوردِ عن جغرافيتهم بحجّة حماية ِ الأمن القوميّ التركي – وهي حجة تبدو منطقية من وجهة نظر شوفينية أحادية الجانب التي تنظر إلى تركيا كمكوّن مجتمعي إثني وحيد فيما الخارطة الجغرافية مطاطية قابلة للتمدّد، ولهذا تخشى تركيا من الشروع في بناء المجتمع المدني الديمقراطي الذي سوف يفضي بها إلى الفدرالية أو الكونفدرالية- وتجنباً لهذا المآل وعرقلته، وتحسّباً لحصول الكورد في غرب كوردستان على بعض حقوقهم، تسعى إلى توطين إثنيات أخرى موالية لها من المستعربين والتركمان…على طول الحدود السورية التركية. في مخطّطٍ شبيهٍ ومكمّل لمشروع الحزام العربي العنصريّ.
ولا يخفى أنّ تركيا مستمرّة في تنفيذِ نواياها اللإنسانية الشريرة، على مرأى ومسمعٍ من الدولِ الكبرى، والعالمِ الحرّ، مما يعني أنّ موضوعَ عفرين وسرى كانييه وگرى سپي أكبر من كلّ العناوين الكوردية، بينما الإئتلاف الإخوانيّ والعنصريّ الذي تمّ تصميمُ نموذجهِ وترويضُ أعضائه وضبط إيقاع بوصلته، في مختبراتِ جهاز الاستخباراتِ التركّيةِ، لا يضيرهُ ذلك بل يباركه، وهذا يعني في النهاية أنّ ما يسمى بالإئتلافِ السوريّ ليس إلّا أداةً لخدمةِ الأجنداتِ التركيّةِ وتنفيذها حين الطلب، فيما حصّةُ مكوّناتِ الإئتلافِ هي بعضُ المكاسبِ الشخصيّة والروتوشاتِ الشّكلانية.
لنْ أدخلَ في سرديّاتِ توزيعِ المساعداتِ…ولكني سأشير إلى نقطة أخرى على صلة وثيقة بالحدث، فبحسب الوقائع كانت مؤسسة البارزاني الخيرية، من أولى قوافل الإغاثة التي دخلت عفرين، وبعد أربعة أيام من الزلزال، وقد قام مراسل قناة “روداو” الإعلامية بتغطية الحدث. وقد أشار مدير المرصد السوري الأستاذ رامي عبدالرحمن إلى ذلك، لكنه ذكر أيضاً إلى إن الفصائل المسلحة استولت على تلك المساعدات. في حين لم يأت مدير المكتب الإعلامي لمعبر باب الهوى مازن علوش، على ذكر تلك المساعدات، في الوقت الذي أشار فيه إلى دخول مساعدات قدّمت من قبل جمعيات خيرية تركية، وأخرى مقدمة من حكومة قطر، ومساعدات أممية جاءت متأخرة، وبعد أسبوع من الزلزال.(مقال منشور في موقع الجزيرة، باسم عمر يوسف، تاريخ: ١٣/٢/٢٠٢٣. وتحت عنوان شريان الحياة لملايين السوريين…). فما السبب ياترى ..؟ ولماذا إخفاء الوقائع، ومن أخفاها. أقل مايجب قوله، إنها خيانة لمهنة الإعلام والكتابة، وتعبير عن عقلية شوفينية إقصائية متشبّعة بالتطرف والكراهية.
هكذا نجد أنفسنا أمام أشكال متعدّدة من الكوارث، والشرور، منها ماهو ناجم عن فعل القوانين الطبيعية، فهي شرّ طيبعي، وثمّة شرٌّ ميتافيزيقي، وشرٌّ أخلاقي و سياسي بتصنيف إيمانويل كانت(١٧٢٤-١٨٠٤).. وهناك كوارث وشرور يؤججها الأنسان بمحض إرادته. وتأتي الحروب وما ينجم عنها من آثار وخيمة، ويترتب عليها من نتائج كارثية لانهائية ، في مقدمة الشرور الإنسانية، ومن أمثلة تلك الحروب، القريبة والتي لا زالت ذكرى آثارها الأليمة، عالقة في أذهاننا حروب الخليج، وقصف حلبجة بالكيماوي، وجرائم الأنفال…وغيرها كثير كالغزو الروسي الهمجي لأوكرانيا، بينما الحرب الأخرى لمّا تنته بعد ..! وهي الحرب السورية، وبمشاركة أطراف دولية، الأكثر دموية و وحشية.
فأي الكارثتين أكثر وحشية وقذارة ..؟ الكوارث الطبيعية، أم الكوارث البشرية..؟ بالنسبة لي لا أتردّد في القول : إنها الكوارث البشرية: إنها “الحرب”..! الأنظمة الشمولية الاستبدادية بغرائزها العدوانية وسعيها للمُقاتلة وارتكاب الجرائم وكل ّأشكال العنف والإرهاب، لا بل يسعى جلّادوها إلى التفنن في تعذيب الضحايا وتصفيتهم .
فما هي الحرب..؟ أهي الوجه الآخر للسياسة..؟ أو امتداد للسياسة بوسائل مغايرة..؟ حسب مقولة كلاوزوفتس(١٧٨٠-١٨٣١).،صاحب الكتاب الشهير (فنّ الحرب). تلك المقولة التي خضعت لتأويلات متعدّدة، وربما أكثرها شهرة ومعقولية، تأويل ريمون آرون (١٩٠٥-١٩٨٣). مؤلّف كتاب (إعقال الحرب).(راجع كتاب عبدالله العروي، ثقافتنا في ضرء التاريخ الفصل الرابع ،الحرب والسياسة).
تلك المقولة ” الحرب “. تضعنا في مواجهة سؤال إشكالي حول طبيعة الإنسان..؟ هذا إذا كان للإنسان طبيعة حقّاً ..! فهل الإنسان كائنٌ شريرٌ بطبعه، وكما وصفه توماس هوبز(١٥٨٨-١٦٧٤). حينما قال: “بأنّ الإنسان ذئب على أخيه الانسان”. وهذا ما يجعلنا نحكم بفشل واخفاق كل محاولات الأديان والمذاهب الفلسفية والأخلاقية في تهذيب الإنسان وترويضه..!
وبشكل مختلف نسبياً، رأى كانت، أنّ الإنسان شرّير بطبعه، أو أنّ الشرّ جزءٌ من كينونته ومتجذّر فيه، ولكن في الوقت نفسه لديه استعداد فطري وميل دائم لفعل الخير بفعل الإرادة الطيّبة.
أمّا بحسب الفلسفة الوجودية، والفيلسوف الوجودي الفرنسي، جان پول سارتر(١٩٠٥-١٩٨٠). فإنّ الإنسان يصنع ماهيته، ويبني ذاته بذاته، فالوجود يسبق الماهية، ولا توجد قَدَرية قبْلية تحكم ذاتيتنا، وترسم سير سلوكنا وأفعالنا من هنا، فالإنسان حرّ ومسؤول عن أفعاله.
أم نردّد مقولة جان جاك روسو(١٧١٢-١٧٧٨). بأن الإنسان خيّرٌ بطبعه، وأنه في الحالة الطبيعية تمتع بكامل السعادة، إلا أنّ المجتمع المدني هو من أفسد تلك الطبيعة ..؟ لكنّ الفيلسوف الإنكليزي ألفريد نورث وايتهيد يرى أنّ تاريخ البشرية هو سيرٌ باتجاه الإقناع بدلاً من استخدام القوة، وهذا ما يمنحنا التفاؤل بمستقبل أكثر أمناً واشراقاً، ويجعلنا نحكم بأنّ الإنسان المعاصر بات أفضل خلقاً، وأكثر رأفة ًورحمة من سلفه البدائي المتوحّش.
تبقى الأسئلة قائمة، والأجوبة عليها غير محسومة ونهائية، ويبقى ديالكتيك الصراع بين الخير والشرّ، أو بين النّور والظلمة،
مستمراً ودائماً ، كما قالها زارادشت وقبل هيراقليطس الإغريقي الملقّب بالفيلسوف الباكي.