بكاء نسائنا الكرديات

 إبراهيم محمود

لا أحد لديه رغبة في البكاء، لا أحد يريد أن يبكي أمام الآخرين، بصورة خاصة. البكاء تعبير عن عجْز، لعله قهر، لعله احتجاج على ما لا يمكن التغلُّب عليه. ربما في حالة واحدة، يختلف البكاء: في نتيجة غير متوقعة، حيث البكاء يعادلها، ولأنها مفرحة، يكون البكاء تعبيراً عن ذلك، وهو قد يمتزج بالضحك. ليبقى البكاء في أساسه شهادة مأساوية على وضع ضاغط على النفس.
في المحن يكون البكاء أكثر حضوراً. ذلك ما عاينتُه كغيري في وجوه نسائنا الكرديات، وحالت سبر قاعه، فلم أفلح فما أعمق القاع وأعتمه وأبعثَه على الإيلام. وفي وجوه النساء منهن، بصورة أكبر، وهن يعبّرن عن قهر ما كان له أن يظهر وينفذ إلى داخلهن هكذا، بكاء يلفت الأنظار إلى مظالم واقعة، إلى وجود حالة، ظاهرة في غير محلها. فالبكاء رسالة تترجم واقع حال طبعاً، وبصيغة مختلفة. البكاء ليس واحداً: من النشيج إلى الحشرجة، وتبعاً لدرجة القهر .
في وجوه نسائنا الكرديات، وفي واجهة كارثة زلزال تركيا” قهرمان مرش 6 شباط 2023 ” وفي سطوع أضواء التصوير المتلفز، حيث أنقاط المباني، وحيث يرقد ضحايا بانتظار من ينتشلهم، تبرز نساؤنا الكرديات، وهن متقدمات في السن، بوجوههن اللواتي تكفّل زمن طويل، وصعب، قاس ٍ وطاغ بأحماله الموجعة، في تحويل وجوههن تلك إلى خطوط ” زلزالية ” لحمية محفورة في في جانبي الوجه، أثلاماً، أو أخاديد، وهي تهتز تحت هزات انفعالية جارحة داخل جسد كل منهن، صورة المر’ المسنة وهي تقتعد تراب المكان، مهروره، متناثره، حصاه، وهي تعطي للناظر فرصة لا بد منها ليرى بأم عينه أي كارثة سافرة جعلت ” عالي ” الأرض ” سافلها “، لتصبح الوجوه بهيئتها نظيرة الأنقاض وقد غارت فيها ثمالة حياة العمر المتبقية كثيراً .
بكاء ما أفظعه في تقطّعه، في حشرجته، مترافقاً مع ضرب اليدين على الصدر، مع ترنح لاشعوري للخاصرة، مع حركة الرأس أماماً وخلفاً، وتثبيت الموجوع من طاقة الإبصار في العينين على الناظر، ليتمكن من قراءة هول الفاجعة في المشهد الأنقاضي وهن” النساء ” مأخوذات بغضب واقعة لا يمكن منحها براءة طبيعية، في ضوء طغيان سدنة النظام التركي.
أي خطيئة لهؤلاء النساء الكرديات وهن في مثل هذا العمر الذي تقاسم أجسامهن بالطول والعرض، ليزيد في وجعهن البعيد الأثر وجعاً يتلبس عموم الجسم؟
كلمات محدودة، متقطعة، تمتزج مع البكاء الذي يغصِب العينين لتسفكا دمعاً ما أقله انسكابا، وميلاً إلى التقطع ويباس العينين جرّاء المدة التي طالت وأعيت العينين بالمقابل. وفي الحالتين، يكون التناوب، ويكون التعبير واحداً: ماذا حل بنا؟ وماذا فعلنا، ليحل بنا ما حل؟ وأين هم الذين يعبّرون عن أنفسهم بأنهم رحماء، أخوة الإيمان والدين، و..إنسانيون..أين ..أين ؟
على قدْر كبير من الإيلام يمكن للنظر أن يمضي بالناظر إلى مكاشفة هول الكارثة، كارثة لم تكن طبيعية؟ فيما إذا كانت طبيعية وحدة، إنما مسبوقة بنظيرتها السياسية التي تحيل شعباً بكامله إلى قرابين بالتدريج على مذبح ” أخوة الإيمان “، كما لو أن خالقهم ميَّزهم لهذا الغرض.
في وجوه نسائنا الكرديات المسنات بصورة خاصة، ثمة ما يستحيل وصفه، جرّاء الحداد الرهيب، وفي هذه اللحظة الرهيبة من العمر المهدور، إزاء فقدان بالجملة لأفراد عائلة بالكامل، أو أكثرهم، ودون رؤيتهم وهم مدفونون. وليس من رثاء. كل امرأة تكون جمعاً، ترثي نفسها بنفسها، أو بطريقتها تعلِم بهذا الجرم الذي لا يسلم منه أي كان من ” أولي الأمر والسلطة ” العالميين إلى جانب الإقليميين والمحليين ممن اجتاحوا ديارهم، حياتهم، أحلامهم، هواجسهم، من الموجَّهين بتعليمات تضعهم أهدافاً، نصْب مطامع، نزوات، غرائز تترجم همجيتهم .
في وضعهن وهن يقتعدن أرضاً خارج السيطرة، يترجمن أوضاعهن، كرديتهن، كرديتنا نفسها، وبلاغة الكارثة المفعَّلة في أجسامهن المثقلات بالأوجاع، وأمام أنظار العالم، أكثر من كونها مسرحية عبثية، إنها جدية، طبيعية، وإن لم تكن طبيعية بعيداً عن مؤثرات سياسات استئصالية. لا شيء يلوح في الأفق وهن في عراء العالم المنظور، لا شيء يوحي بأن هناك ما سيتغير.
في الكارثة الزلزالية في” مصائدها” القاتلة الجماعية العفرينية، الجنديرسية الشيخ المقصودية…إلخ، لا يقابل هذا البكاء الصرخة المعرّية لما هو إنساني وفي صمت، سوى نفسه، كما لو أن الحضور الكردي النازف من عمره كثيراً، يتمثل في مثل هذا المشهد الحافل بما يصدم جوعاً، عطشاً، برداً، ألماً، تهديداً مستمراً ومفتوحاً بالمزيد من الميتات.. والتهميش المركَّز.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماجد ع محمد بعد أن كرَّر الوالدُ تلاوة قصة الخريطة المرسومة على الجريدة لأولاده، شارحاً لهم كيف أعادَ الطفلُ بكل سهولة تشكيل الصورة الممزقة، وبما أن مشاهِدَ القصف والتدمير والتدخلات الدولية واستقدام المرتزقة من دول العالم ومجيء الجيوش الأجنبية والاقليمية كانت كفيلة بتعريف أولاده وكل أبناء وبنات البلد بالمناطق النائية والمنسية من بلدهم وكأنَّهم في درسٍ دائمٍ لمادة الجغرافيا، وبما…

صلاح بدرالدين لاتحتاج الحالة الكردية السورية الراهنة الى إضفاء المزيد من التعقيدات اليها ، ولاتتحمل هذا الكم الهائل من الاخذ والرد اللذان لايستندان الى القراءة العلمية الموضوعية ، بل يعتمد بعضها نوعا من السخرية الهزلية وكأن الموضوع لايتعلق بمصير شعب بكامله ، وبقدسية قضية مشروعة ، فالخيارات واضحة وضوح الشمس ، ولن تمر بعد اليوم وبعبارة أوضح بعد سقوط الاستبداد…

المهندس باسل قس نصر الله أتكلم عن سورية .. عن مزهرية جميلة تضمُّ أنواعاً من الزهور فياسمين السنّة، ونرجس المسيحية، وليلكة الدروز، وأقحوان الإسماعيلية، وحبَق العلوية، ووردة اليزيدية، وفلّ الزرادشتية، وغيرها مزهرية تضم أطيافاً من الأكراد والآشوريين والعرب والأرمن والمكوِّنات الأخرى مزهرية كانت تضم الكثير من الحب اليوم تغيّر المشهد والمخرج والممثلون .. وبقي المسرح والمشاهدون. أصبح للوزراء لِحى…

د. آمال موسى أغلب الظن أن التاريخ لن يتمكن من طي هذه السنة بسهولة. هي سنة ستكون مرتبطة بالسنوات القادمة، الأمر الذي يجعل استحضارها مستمراً. في هذه السنة التي نستعد لتوديعها خلال بضعة أيام لأن كان هناك ازدحام من الأحداث المصيرية المؤدية لتحول عميق في المنطقة العربية والإسلامية. بالتأكيد لم تكن سنة عادية ولن يمر عليها التاريخ والمؤرخون مرور الكرام،…