لا دخّان أبيض أو رمادي تصاعد من واشنطن بعد زيارة جاويش أوغلو

د. باسل معراوي

 
تاريخياً كانت العلاقات التركية الأمريكية ممتازة حيث منذ انهيار الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى وبعد اتفاقية لوزان 1923 وظهورشكل الدولة التركية الحالية، تَبنّت الحكومات التركية المتعاقبة النمط الغربي في السياسة والاقتصاد بل وطبقت عَلمانية صلبة قطعت بينتاريخ الدولة العثمانية الإمبراطوري الإسلامي وبين توجّهاتها المستقبلية وحاولت الدولة الأتاتوركية الجديدة تغريب المجتمع التركي عن ثقافتهوهويّته الدينية وكانت تركيا الحديثة تُقدّم نفسها على أنّها دولة غربية تتماهى مع الغرب ثقافةً واقتصاداً وسياسةً.
ولم تكتفِ بذلك بل أصبحت الدولة التركية عضواً رئيسياً في حلف شمال الأطلسي منذ بدايات تأسيسه وانضمت رسميا للحلفاء في آخرثلاثة أشهر من الحرب العالمية الثانية، في سعي من الغرب لاعتبارها أحد الحلفاء المنتصرين بالحرب وجعلها إحدى دعائم التحالف الغربيمستقبلاً.
كانت تركيا تُعتبر أحد مكوّنات الستار الحديدي الرئيسية المضروب حول الاتحاد السوفييتي الحائل بينه وبين التمدد للشرق الأوسط والمياهالدافئة.
وبسقوط الاتحاد السوفييتي لم تتغير أهمية التموضع الجيوسياسي لتركيا كأحد مكونات حلف الناتو وسارت العلاقات مع الولايات المتحدةبشكل طبيعي مع وجود خلافات طبيعية توجد عادة بين الحلفاء، إلى أن اندلعت الثورة السورية وبدأت التباينات في المواقف تتجذّر رويداًرويداً إلى أن بدأت الخلافات تطفو على السطح ولم يعد بالإمكان إخفاؤها.
ولم تكن خلافات سياسية آنية أو تباين رؤى مرحلية ووجهات نظر، بل أخذت تنحو مناحي أكثر عُمقاً بما يمكن اعتباره خلافات إستراتيجيةتمحورت حول نظرة كل طرف إلى الميليشيا الكردية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي، الذي تراها أنقرة ميليشيات إرهابية تتبع لحزبإرهابي هو الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني التركي (العدو اللدود لأنقرة) فيما لا تشاطرها واشنطن هذا الرأي، مع أنّها تُصنف منذمدة بعيدة حزب العمال التركي كمنظمة إرهابية، بل واعتمدت واشنطن تلك الميلشيات بعد تطعيمها بمكونات عربية عشائرية على مستوياتليست ضمن دائرة القرار، وشكّلت ما يسمى بقوات سورية الديمقراطية حليفها وذراعها الأرضي في الحرب على داعش في سورية.
أخذت الخلافات التركية الأمريكية تزداد عُمقاً بعد عام 2015 واتهام أنقرة لواشنطن بدعم عملية الانقلاب الفاشل في تموز 2016 وتقديمها الحماية والرعاية لفتح الله غولن الذي تمّ اتهامه رسمياً بتدبير تلك المحاولة، وبعد هزيمة تنظيم داعش رسمياً وإعلان ذلك على الملأمن قبل الرئيس السابق دونالد ترامب، انتظرت أنقرة انسحاباً أمريكياً بعد تنفيذ المهمة المعلنة ولم يحصل ذلك، بل إنّ ما يعرف بالإدارةالذاتية تمادت في تطبيق برنامجها على الأرض الذي لا يدع مجالاً للشك أن دويلة كردية في الخاصرة التركية هيالهدف الأمريكيالحقيقي، وما الحرب على داعش إلا استغلال للحدث للوصول إلى الهدف المنشود، وهذا يَمسّ صميم الأمن القومي وبنية الدولة والسلمالاجتماعي التركي، وهو خطر يُجمع عليه كل الأتراك ولا يختلفون في طرق التصدي له بمختلف الوسائل والأشكال.
تلك المخاوف التركية قرّبت أنقرة من شريكيها في منصة أستانة، وقَطَع التنسيق مع روسيا خطوات كبيرة وعميقة وليس في سورية فحسب بلفي كثير من الملفات.
يرى بعضهم أن من أسباب التدخل الروسي العديدة في سورية هو كسب تركيا إلى جانبه أو تحييدها على الأقل وإحداث صدع عميق فيحلف الناتو، وقد نجح الرئيس الروسي في ذلك إلى حد كبير.
ومن أهم أسباب الحُنق التركي على الولايات المتحدة هو المفاضلة بين الدولة التركية العظيمة والحليف التاريخي وقوات قسد، تركيا التي تعتبرالجدار الذي يحمي الشرق الأوسط ومنابع الطاقة وخطوط نقلها من الخصمين الروسي والإيراني.
وتركيا تلك الدولة الأنموذج وقائدة الأمة التركمانية التي سيكون لها دور مستقبلي بِكبح جماح أي تمدد صيني عبر طرق الحرير العابرة لقارةآسيا، الدولة المسلمة السنية الحديثة التي يمكن اعتبارها كنموذج للإسلام السني المعتدل إذا ما وصل لقيادة الدول، والتي تتموضع فيملتقى قارات العالم القديم.
وعندما يكون مطلوباً موقف أمريكي بالمفاضلة، لا تتخلى الولايات المتحدة عن قسد.
وبعد رفض أمريكي واضح وصريح لأي عملية عسكرية تركية في الشمال السوري، وبعد إخلال واشنطن بكل تعهداتها السابقة من اتفاقمنبج 2018 القاضي بإبعاد قسد عن المدينة وصولاً لتعهدات واشنطن في خريف 2019 بالسعي لإبعاد قسد عن الحدود التركية كشرطتركي لإيقاف عملية نبع السلام.
حتى إنّ بروز دور تركيا المحوري في الحرب الدائرة في أوكرانيا لم يؤدِ إلى زحزحة الموقف الأمريكي بعدم الموافقة على عملية عسكرية لوّحتبها أنقرة في أيار وحزيران من العام الماضي، حتى بعد تفجير إسطنبول الإرهابي في شهر تشرين الثاني لم توافق الولايات المتحدة علىعملية عسكرية تركية، بل اكتفت بإجراءات تعتبرها واشنطن أقصى ما يمكنها تقديمه لأنقرة، في حين لا تَعتبرها أنقرة تُلبي المطالب الدنيالها، وهنا برز الخلاف العميق والاستراتيجي بين البلدين بمقاربتهما للملف السوري عامة وفي الشمال الشرقي خاصة.
ولم تعد السياسة التركية تنتظر خيراً من أي موقف أمريكي قادم، فأخذت الخيار (ب) بعد قمة طهران في تموز من العام الماضي بالسير فيرِكاب خطط مناهضة للولايات المتحدة في سورية بالتعاون مع روسيا وإيران وحديثاً بالمصالحة مع نظام الأسد لتشكيل محور مناكفللسياسات الأمريكية في سورية.
أجواء زيارة وزير الخارجية التركي لواشنطن
بعد ترجمة التصريحات التركية باتجاه مصالحة مع نظام الأسد تَمّ إجراء لقاء عالي المستوي بين وزيري دفاع البلدين في موسكو، ويمكناعتباره بدون أدنى شكّ أنه لقاء سياسي بين وزير في حكومة تركية ووزير من حكومة النظام ولن يحجب تلك الصورة تسمية بعضهم له، بأنهلقاء أمني عسكري لم يرتقِ لمرتبة الاتصال السياسي، فلو كان محور الاجتماع البحث في ملفات عسكرية أسوة بالملفات الأمنية لحضر رئيسالأركان التركي أو أي ضابط مهني تركي رفيع المستوى، وعلى وقع تأجيل اللقاء المرتقب بين الوزير مولود جاوويش أوغلو ونظيره فيصلالمقداد لبعد جولة واشنطن، حضر إلى تركيا وزير الخارجية الإيراني حاملاً ملفّات هامة تنتظر قرارات سريعة من الرئيس، فصحبه وزيرالخارجية التركي للقاء الرئيس أردوغان قبل أن يَجتمع به الوزير مُنفرداً وفقاً للقواعد المتبعة بين الدول، وموضوع لقاء الوزير الإيراني بالرئيسالتركي يحدد لاحقاً على ضوء ما تم بحثه بين الوزيرين.
كان المؤتمر الصحفي للوزيرين التركي والإيراني حارّاً وحافلاً بتبادل عبارات صديقي العزيز من كلا الطرفين، وأبديا عدم رضاهما علىمستويات التبادل التجاري ورفعها لأقصى حد ممكن وأعربا عن إصرارهما على متابعة التنسيق السياسي والتحضير لزيارة قريبة للرئيسالإيراني إلى دمشق ومن ثَمّ أنقرة.
سافر وزير الخارجية التركي إلى واشنطن لحضور اجتماعات “آلية التنسيق الاستراتيجي الأمريكي – التركي” والتي تُعقد دورياً وليسلمهمة محددة مع كثرة الملفات العالقة بين البلدين ومن أهمّها وأكثرها تباعداً الملف السوري.
ما كان يُسرّب للإعلام عن ورقة نقلها جيمس جيفري بشكل غير رسمي عبر لقائه مسؤولين أتراك تَتَضمّن خُططاً أمريكية للتنسيق أكثر بينقوات قسد وممثلها السياسي مسد، والمعارضة السورية عبر جيشها الوطني والائتلاف مع خطط أمريكية لتأمين مصالحة بين المجلسالوطني الكردي (القريب من تركيا) وحزب الاتحاد الديمقراطي، وتفعيل المشاركة العربية عسكرياً ومدنياً ضِمن قوات سورية الديمقراطية، بلوإعادة إحياء ألوية عربية تُمسك بزمام محافظتي الرقة ودير الزور للتقليل من نفوذ الـ (PYD) إلا أن تلك الورقة وإن صحّت فإنّها لاقت رفضاًتركياً.
ويحمل أوغلو ملفات مهمة كملف إحالة الإدارة الأمريكية لطلب تركيا شراء لطائرات F16 جديدة والعودة لبرنامج صناعة طائرات F35،وتحديث ما هو موجود من المقاتلات التركية – الأمريكية الصنع، إضافة للتهديد التركي بعدم منح موافقة على انضمام السويد وفنلندا لحلفالناتو، ومشروع أنابيب للطاقة تنطلق من أذربيجان لتعبر عدة دول وتصل إلى تركيا (وهذا الملف حظي بموافقة أمريكية).
وسبق وصول الوزير التركي تصريحات لـ “بوب مندينيز” (الديمقراطي ورئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ) عن النية برفضطلب الإدارة بيع تركيا مقاتلات جديدة.
ما لمسه المراقبون من محادثات الوزير التركي مع نظيره الأمريكي:
1. صمت مطبق ولا يرافقه أي حفاوة أو ضجيج إعلامي.
2. عدم عقد مؤتمر صحفي مشترك بين الوزيرين في نهاية الزيارة لإطلاع الإعلام على ما تمّ الاتفاق عليه، بل اكتفت الخارجية الأمريكيةببيان دبلوماسي يتكلم بالعموميات.
3. الاكتفاء بتصريحات تصدر عن الخارجية، كالالتزام بتطبيق مفردات القرار الدولي 2254 وقيادة سورية لعملية السلام، والتأكيد علىالسعي لمحاربة الإرهاب المتمثل بالـ (PKK) وداعش والـ (PKK) بالمفهوم الأمريكي تعني حزب العمال التركي وليس ما تقوله أنقرة أنّ قوات قسد تتبع له، وتصريحات من قبيل التأكيد على التحالف القديم والاستراتيجيات الدفاعية (وهو بالأصل كلام لا قيمة له لأنالبلدان حلفاء في الناتو منذ تأسيسه)
ويرى بعضهم أنّ تلك الأجواء والتصريحات قِيلت للتورية عن كلام لا يرى الجانبان فائدة من قوله الآن، وهي عدم الاتفاق على كثير من الملفات  وأهمّها الملف السوري، ويبدو أنّ ملف قسد فوق تفاوضي بالنسبة للولايات المتحدة وأن دخاناً أبيض أو رمادي لم يتصاعد من قاعة الاجتماعات في الخارجية الأمريكية، بل ربما يكون دخاناً أسود، يشي بمرحلة تصعيد كبرى بين الجانبين تتجلى بالملف السوري بزيادةالتنسيق التركي مع روسيا وإيران وانفتاحاً أكبر على نظام الأسد في طريق تركي باتجاه واحد قد يكون لا مجال للرجعة منه لاحقاً.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية، وبالمشاركة مع أطفال العالم وجميع المدافعين عن حقوق الطفل وحقوق المرأة وحقوق الانسان، نحيي احتفال العالم بالذكرى السنوية الثلاثين لاتفاقية حقوق الطفل، التي تؤكد على الحقوق الأساسية للطفل في كل مكان وزمان. وقد نالت هذه الاتفاقية التصديق عليها في معظم أنحاء العالم، بعد أن أقرتها الجمعية…