عنايت ديكو
المطالبة التركية الصريحة والعلنية اليوم بضم ولاية حلب اليها والتحكّم بمصيرها وبشعوبها، والتي جاءت على لسان كبير المستشارين للرئيس التركي ” YASÎN AKTAY ” لم تأت من الفراغ مطلقاً ولم تكن وليدة اللحظة الآنية. فحتى السكوت المطبق من قبل جماعات المعارضة السورية والنظام البعثي العربي معاً، عن هذه المطالب التركية والتسليم بالأمر ، لم يكن صدفة أبداً .
هنا وفي انعطافةٍ واستدارةٍ على التاريخ واستقراءٍ لبعض الأفكار والمفاهيم، لنا أن نقول: بأن ما تمرّ بها سوريا اليوم من وضعٍ كارثي ومأساوي صعب، ومن علاقاتٍ وتناقضاتٍ وانهياراتٍ داخلية وخارجية، تشبه كثيراً والى حدّ كبير, أجواء الاتفاقات والظروف والعلاقات التي سبقت اتفاقية الجزائر بين سلطة النظام البعثي العراقي والدولة الشاهنشاهية الايرانية في سبعينيات القرن الماضي، والتي تم بموجبها التنازل الكامل عن ” اقليم الأحواز ” وشط العرب لصالح الفرس، تلك الاتفاقية التي جاءت في البداية على شكل تفاهماتٍ واتفاقات أمنية وعسكرية، ومن ثم كبروتوكولاتٍ رسمية ومكتوبةٍ ومُوّقعةٍ وممهورة بين البلدين .
وكان ” صدام حسين ” هو نفسه راع ومهندس لكل الاتفاقيات بالسرّ والعلن، وكان يُشرف بنفسهِ على التفاصيل الصغيرة لتلك المحاضر والتواقيع التي جاءت وذُيّلت بها النهايات في البروتوكولات الرسمية بين الطرفين، الى أن انتهت بالجلسات الشخصية والاتفاقيات السياسية بين الطرفين، وعُرفَت فيما بعد بـ ” اتفاقية الجزائر ” المشؤومة. والتي كانت وجاءت كخنجرٍ مسمومٍ من قبل إيران بظهر الكورد والثورة الكوردستانية وبرعاية ومشاهدةٍ أمريكية ودولية فاضحة وواضحة. ومذكرات هنري كيسينجر تفضح وتكشف الكثير من الأوراق والأسرار عن تلك المرحلة.
طبعاً وهذا لا يُخفىٰ على أحد … بأن تلك الاتفاقية واعطاء المناطق العربية الحدودية الجنوبية من العراق لإيران، جاءت بأوامرٍ من رأس الهرم السياسي ومن قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي نفسه، وذلك فقط لضرب الكورد ونضالهم وللقضاء على انتصاراتهم الكبيرة على الأرض، ولوأد الثورة الكوردستانية معاً، وللقضاء على كفاحهم الكوردستاني المسلح .!
وبالفعل، تمَّت الاتفاقية بين الطرفين العراقي والايراني في الجزائر وبرعاية هواري بومدين الرئيس الجزائري الأسبق، وحصلت إيران بموجبها على كامل الشريط في المنطقة وفي الزاوية الجنوبية الشرقية من البصرة، وخسر العراق بشكل شبه كامل الاطلالة البحرية والمنفذ البحري الوحيد على شواطئ الخليج، باستثناء فتحة صغيرة وضيّقة يستخدمه العراق اليوم كمتنفسٍ اصطناعي. مقابل قطع الامداد والدعم الايراني والغربي العسكري واللوجستي عن الثورة الكوردستانية، وفي النهاية حدثت المأساة الكوردية وحصلت ايران على ما تريدها من التنازلات الترابية من الطرف العراقي وسيطرت على كامل ” الجغرافية الأحوازية ” ومنطقة شط العرب ذات الاغلبية العربية.!
السؤال هنا:
بماذا استفاد العراق والأمة العربية معاً من هذه الاتفاقية البينية التي أبرمها صدّام حسين مع شاه إيران، سوى خسارة الوطن وزيادة الجرح الوطني والتسليم والاستسلام، وبيع جزء مهمٍ من أراضيه الجنوبية للغريب وللعدو الايراني.؟ واليوم لا يستطيع العراق الحالي ومعه كلَّ أمة العروبة، ارجاع مليمترٍ واحدٍ أو شبر من الأرضِ وتراب الأحواز وشط العرب ثانية الى العراق.!
فما نشاهده اليوم من أحداث وانهيارات سياسية على الأرض, تدفعنا الى ممارسة منطق المقاربات والمقارنات في بطون التاريخ . هذا التاريخ الذي يريد أن يعيد بنفسه ثانية, لكن هذه المرة على الارض السورية وتحديدا في ولاية حلب. فالمناخ والشروط والظروف وتركيبة النظام وعقليتهِ التآمرية والظروف الاقليمية والدولية، تشبه الى حدّ كبير حالة العراق ونظامه السياسي وظروفه الذاتية والموضوعية الصعبة وقتذاك, والتي أدَّتْ في النهاية الى توقيع اتفاقية الجزائر مرغماً مع ايران.
فما نراه اليوم وعلى الأرض السورية ودخول تركيا على الخط وفرض الشروط والاملاءات على النظام السوري لتقديم التنازلات، تشبه كثيراً والى حد كبير تلك الممارسات والسياسات الايرانية التي فرضتها آنذاك على الحكم في العراق . حيث فصول المعارك تشبه بعضها بعضاً، الى جانب الشروط وصفات اللاعبين وأهدافهم، الى الدور الاقليمي والدولي، الى الظروف الذاتية والموضوعية الضاغطة، الى المراهنات الضبابية، الى الاحتلال من دولةٍ جارة، الى دعم المعارضات ومن ثم الى القرابين والضحايا والخسارات طولاً وعرضاً.
فالسياسة التركية اليوم حول المطالبة بولاية حلب يا سادة يا كرام، تأتي متطابقة ومتشابهة ومتقاطعة كثيراً في الشكل والمضمون والممارسة مع تلك السياسات التي كانت تمارسها إيران الشاهنشاهية على النظام العراقي البائت للحصول على التنازلات، بالاضافة الى المتشابهات الأخرىٰ مثل :
ضعف النظام المركزي المستبد في جغرافيات الأطراف.
سيطرة الكورد على الكثير من المساحات والمناطق خارج سيطرة النظام الرسمي.
وقوف أمريكا على حافة الدعم والتأييد للكورد في كلا الحالتين ومدّهم بالسلاح .
الى جانب المعارضات الوطنية الهشة وحالة الفوضى التي تعمّ البلاد .!
وبما أننا ما زلنا نتكلم عن التاريخ، فالتاريخ علّمنا أيضاً بأن النظام العراقي مستعدٌ للتخلي عن نصف جغرافية العراق للعدو وللغريب، وأنه ليس مستعداً للتفاوض على قرية كوردية في سهل نينوى مع حكومة اقليم كوردستان. وان النظام البعث العروبوي المجرم القابع في دمشق، مستعدٌ لبيع كامل أراضي الجولان ومزارع شبعا واسكندرون وغيرها، لكنه ليس مستعداً أبداً لفتح أي حوار جاد مع الادارة الذاتية مثلاً. هذا هو المنطق والتفكير وعقلية أعدائنا التاريخيين تجاهنا وتجاه قضيتنا الكوردية وحقوقنا القومية.
أجل … فكلُّ ما نخشاه اليوم هنا، وعبر هذه المقاربات والمقارنات … هو أن نرىٰ اعادة في التدوير والتطبيع واستنساخ تجربة ” الأحواز ” وشط العرب بنسخته الثانية أو من خلال ” أضنة الثانية ” مثلاً وتطبيقها في الشمال السوري، وبيع ولاية حلب للاتراك، وابرام صفقة أو اتفاقية سياسية بينية مشابهة لاتفاقية الجزائر من قبل نظام بشار الاسد وزمرته مع النظام التركي على حساب السوريين عموماً والكورد منهم على وجه الخصوص.
في الأخير … لا بد لنا من قول شيء ما بهذا الصدد :
أجل … أيها الطغاة .!
تستطيعون القيام بالقتل والرعب والمجازر، ووأد الانتفاضات والثورات الكوردستانية، والعمل معاً لانحسارها ومحاربتها وبكل السبل والطرق، وإنْ تَطَلَّبَ هذا العمل استخدامكم للكيماوي والبيولوجي وغيره ،
تستطيعون القيام بقطع أطرافٍ وأجزاءٍ من بكارة أوطانكم واهدائها الى الأعداء، وتستطيعون بيع الأرض والعرض، قطعة وراء قطعة. فقط من أجل أن لا تصبح للكورد دولة وحكمدارية أو فيديرالية أو حكمٍ ذاتي، وأن لا يتمتع الكوردي بالحرّية والآزادية على أرضه وأرض أجداده.
فقط لعدم سماعكم لأنشودة ” EY REQÎB ” الخالدة، أو مشاهدة العلم الكوردستاني وهو يرفرف عالياً على حدودكم وحدود دولكم المصطنعة والديكتاتورية.!
نعم … لربما لن يحصل الكورد في الظروف الراهنة على ” دولة مستقلة ” خاصة بهم, لكن يقيناً أيها الطغاة، مادم الكوردي حيّاً، فلن يَدَعكُم بأن تنعموا بالنوم والهدوء والسكينة والاستمتاع بالحكمداريات والسلطات والمال والأوطان … ما لم يحصل هذا الكوردي على حقوقه القومية والتاريخية والانسانية.!
اقرؤوا التاريخ … فتجربة العراق وسوريا مع الكورد ودمار هذين البلدين من وراء محاربتهم للكورد … هي خير تجربة وخير دليل على عنصرية وعفونة آيديولوجياتكم النتنة في بناء الأوطان الهشّة .!
حذارٌ أيتها المعارضة العربية السورية، وحذارٌ يا معشر النظام البعثي، أن تفرطوا بحلب وتلعبوا بهذه النار المحرقة والحارقة، فلا تستنسخوا التجربة الأحوازية وشط العرب في ولاية حلب .!
…………………