إبراهيم اليوسف
ثمة ما لا يمكن أن يتفهمه كثيرون، فيما يتعلق بتلك المسافة ما بين: الانتفاضة والثورة، ولاسيما في ظل أنظمة الاستبداد- وفي طليعتها الأنظمة المتقاسمة لخريطة كردستان- إذ إن من عادة مثل هذه الأنظمة أن تكرس الرعب، وثقافة الاستكانة والسكوت والإذعان، ولعلها ترى في أي سلوك رافض لجبروتها خيانة وعداء يستدعيان إعدام هذا المواطن، ليس لغرض إسكاته- فحسب- وإنما ليكون عبارة عن رسالة لنشر وهيمنة آلة الرعب في أوسع مدى ودائرة، وهو مبدأ تتناسخه سياسات هؤلاء المتسلطين، على اختلاف لغاتهم، وهوياتهم، وجغرافياتهم،
ولعل الأمر يغدو أعظم وأشد حساسية إن كانوا في مواجهة الكردي الذي يتفقون على إمحاء وجوده، وتغييبه من مسرح التاريخ، بعد أن عملوا طويلاً. كل ضمن منظومة أيديولوجيته على تخوين هذا الكائن مشوه الصورة. المناوىء. العدو. المجرم. الكافر إلخ التوصيفات الملفقة في معاجم وقواميس هؤلاء العتاة الذين ماعادوا يخجلون من مؤامراتهم ضد طريدهم الكردي، وإنما يتبجحون بذلك، إذ ثمة رباط ما فوق كل خلاف بين هؤلاء الأخوة- الأعداء الذين سرعان ما يلتحمون، ويتواءمون، ويتوافقون، ويتفقون، ويتآمرون إن ظهر ما يسمونه خطراً على أحد أضلاع المربع الوهمي لخريطتهم المبنية على حساب خرائط سواهم، ومن بينهم الكرد، وخريطتهم: كردستان!
أجل. من هنا- تماماً- فإن كل كلمة فحواها: لا، بكل حالاتها الإعرابية إنما هي انتفاضة وثورة
فما إن اشتعل خبر استشهاد جينا أميني عبر منابر الإعلام، بهذه الصورة التراجيدية، وتلقفته وسائل التواصل الاجتماعي، أو العكس، حتى بات واضحاً أننا- لامحالة- أمام جريمة عظمى موصوفة، غير ممكنة التجاوز. غير ممكنة التسويغ- رغم كل ما تم من محاولات- ارتكبها أدوات النظام الإيراني المجرم الذي لا يفتأ يعلق على أعواد المشانق كل المختلفين معه، ويلصق بهم اتهامات ملفقة متناسخة مع اتهامات شركائه في- مربع الوهم الجائر- بما يكفي لإقناع بطانته بخطر ما عليها، بعد أن يوظف كل ما لديه من دهاء وخبث ومكر لنشر وتكريس ذلك، وهو ما يجعل الشارع الإيراني- ساكتاً في داخله- كما برميل مغلي، بعد كل جريمة بحق أحد الأحرار، وإن ضمن جزء من مكونات هذا البلد، المكولج، عبر جدار من الحديد والنار، بحيث لم يبق أحد إلا ومسته ألفحة ألهبة جحيم هذا النظام الذي ينظِّر له ملاليه وآياته المزورون، وهم يستثمرون- رابط الدين- ليعيثوا فساداً في الأرض، وتتجاوز أحلامهم حدود خريطتهم، ويسيل لعاب هؤلاء الزبانية المنظِرين لضم خرائط مجاورة، كي يشكلوا- في التالي- امبراطورية أخرى، باسم الدين. الدين الذي أعادوا تشكيله، وصياغته، بما يوافق ظمئهم للقتل، و أهوائم المارقة، وشهواتهم الزائلة!
وإذا كنا نجد اليوم أن الانتفاضة. انتفاضة جينا أميني قد أصبحت في رأس قائمة أخبار العالم، وبات اسم هذه الفتاة التي لم تكد تتجاوز سنتها العشرين بعامين غير مكتملين بعد، يلهج على ألسنة طلاب الحرية، والأحرار، في العالم، بل وعوام هذا الكوكب، كما إن صورتها. نظرات عينيها. خصلة الشعر المتمردة من تحت منديلها. إيشاربها. خمارها. قامتها. باتت معروفة لدى كل متابع من سكان المعمورة، ولتذكر إلى جانب اسمها مفردات جد قليلة: الكردية- كردستان-إيران- الجريمة- حقوق الإنسان- الانتفاضة- الثورة. الحريات إلخ، ولكي نتعرف على أطلس كردستان الجنوبية. أطلس كردستان الكبرى. أطلس إيران. وفي هذا ما يؤكد أن الكرد الذين صنعوا خريطة الشرق الأوسط. و دافعوا عن هويات سواهم، بالإضافة إلى أنهم واجهوا أخطر صياغات وتشكيلات الإرهاب ما بعد الوحشي، ولايزالون في طليعة المواجهة، هم في الحقيقة جزء مهم من- خميرة- وأكسير روح الشرق، وأحد أهم أعمدة هذا الشرق والعالم، ولعل ما يواجهونه من تآمر دولي هو نتاج محاولة بعض متحكمي العالم، منذ بدايات القرن الماضي وحتى الآن، في عدم إفساح المجال، لظهورهم على مسرح جغرافيتهم، وفق مخطط معروف، ولربما لاستيفاء ثمن فاتورة أدوار أجدادهم: عسكرياً، ومن دون نسيان أدوارهم، عبر التاريخ، في صناعة الثقافة والحضارة، المقيدة، في سجلات سواهم، ولنا في مئات الأسماء المعروفة- في عالمنا- خيردليل!
ليس على سطح البسيطة أحد- يتمتع بأدنى درجات البصيرة والبصر- إلا وهو يتوخى سيرورة الأمن والسلام، وأن يعيش ومن حوله: أسرة ومجتمعاً وعالماً في وئام واستقرار، إلا إن هناك ما يدفع بكثيرين منا أن يسترخصوا أرواحهم، ويقبلوا بأن يفدوا كرامتهم. رؤاهم. مواقفهم أنى تجاوز المستبد حدود إبائه. شرفه. وجوده. إنها حالة أي ثائر، في مواجهة الظلم في بلده، أية كانت لغته وهويته، وهو ما يمكننا تناوله باطمئنان ونحن نتناول- انتفاضة الكردي- في جزئه الكردستاني: روج هلات- أو كردستان الشرقية، في مواجهة آلة النظام التي واجهت الجريمة الموصوفة على أيدي زبانيتها بحق الشابة البريئة: جيان أميني، عبر إعادة استخدام لغة المراوغة، في محاولة اعتبار ما تم قضاء وقدراً، وكأن أزلام- شرط الأخلاق- عديمي الأخلاق، لم يحجزوا هذه الفتاة، ولم يوقفوها، ولم يغصبوها على الاقتياد تحت أمرتهم، أسيرة، وسوقها إلى المخفر. غرفة التعذيب، وتهديدها، وترويعها- وهذا وحده كاف ليكون سبباً في استشهادها- ناهيك عن تعنيفها الجسدي، ليتم تسريب صورها وهي مسجاة على سريرها، بعد توقف دماغها، بينما كان القلب لايزال يخفق، في انتظار وصول أسرتها: والديها ومن معهما، كي تلفظ أنفاسها الأخيرة، كامتداد لصرختها الاحتجاجية، في وجوه هؤلاء الزبانية:
أن كفى!
وإذا كانت صرخات جينا لما تزل تتردد، على امتداد خريطة كردستانها، وإيران، والعالم، إلا إن روحها استطاعت أن تفعل ما من شأنه تكذيب أسطورة آيات الله، وعلى رأسهم: الخميني، في موقفهم من الكرد، إذ أحسَّ كل إيراني. كل إيرانية، أية كانت هويتهما، كما كل كردي أن ابتسامة جينا قالت لهم الكثير. أن نظرات عينيها قالت لهما الكثير، أن روحها حطمت أسطورة أكاذيب الملالي الذين استعدوا المكونات على بعضهم بعضاً، كي يستمر جبروتهم، وظلمهم، وغيهم، وفسادهم، ودجلهم، لأن كل مكون إنما هو في المحصلة: ضحية وأن. كل إيراني، إنما هو في المحصلة أيضاً: ضحية، لاسيما إن كنا أمام عقل يفكر في ضلوع هذا النظام في ملفات الإرهاب: شرقاً وغرباً، بما يدمر اقتصاد هذا البلد!
عالم بلا ضمير
بلغت أعداد شهداء الانتفاضة حتى الآن حوالي ستين إيرانياً. ستين كوكباً. ستينً باسلاً وباسلة- ومن بينهم حوالي ستة عشر شهيداً وشهيدة من الكرد، تسجل أسماؤهم جميعاً بماء الذهب في صفحة مختلفة من صفحات الكرامة في العالم، لاسيما ونحن نشهد المشاركة الواسعة للنساء إلى جانب الرجال. الصغار إلى جانب الكبار، وبمختلف هوياتهم، وانتماءاتهم، بعد أن ضاقوا ذرعاً بهذه القيود القاتلة التي يكبلون بها، وما أكثر هؤلاء اللواتي يمزقن أو يرمين أو يحرقن- مناديلهن- أو إيشارباتهن، كتحد عظيم لأسفار آيات الله السافرين التي ابتدعوها، بما يتبرأ منه الإسلام الصحيح، لاسيما ونحن في القرن الحادي والعشرين، أو الألفية الثالثة، إذ إن- العين لتواجه المخرز- وأن هؤلاء المنتفضين العزل: إناثاً و رجالاً لا ترعبهم آلة الخوف وهي تلجأ إلى العنف في أول درجاته، وهي تلوح، وتهدد، وعلى لسان كبار ضلوع نظامها الضالع، باستخدام وسائل قمع أشد عنفاً، وهذا غير مستبعد من نظام مجرم طالما كان حلمه: إنجاز المفاعل النووي، وبتواطىء من الدول الكبرى. المذعنة، أو الداعمة، لقاء مصالحها، بل وإنها هي الأخرى باتت تدخل على خط: صانعات المسيرات الذكية في لعبة الحرب الدولية الحالية!
و ليس غريباً على الدول التي تقود العالم أن تسكت إزاء هذا الانتهاك الصارخ لحقوق الإنسان، في دولة المشانق والعمائم السوداء، لقاء ما تجنيه من منافع، كي تبقى مزاعم هذه الدول في دعم الحريات- حبراً على ورق- أو ورقة تستخدم- في أروقة وكواليس صنع القرارالأممي- عند الضرورة، إذ يمكن محاسبة بلد ما على ذريعة ما ولو كاذبة، في الوقت الذي يخلد هؤلاء المتحكمون بالعالم، إلى الصمت، إزاء أحد أشكال الإبادة التي تتم أمام أعين جميعها والعالم كله، إذ إننا لم نجد- حتى اللحظة- أي موقف دولي صارم من جرائم هذا النظام المجرم، لاسيما فيما يتم بحق المظاهرات السلمية المطالبة بإسقاط هذا النظام، رغم أن هذا النظام هو أحد بؤر الخطر على المنطقة والعالم.
سبات النخب
لايزال تفاعل مثقفينا- لاسيما الكرد- من خارج بلد الانتفاضة، في حده الأدنى، إذ إننا لنجد صمتاً مريباً، من لدن كثيرين، كما جهات سياسية محددة، وهوما يمكن استقراؤه في أكثر من اتجاه، أوله: تبعية الثقافي للسياسي، وعدم ثقة الثقافي برسالته، ناهيك عن تخلي المثقف عن دوره التنويري المطلوب، إذ إن علينا أن نتحرك- كل في مجاله- لاسيما ممن يمتلكون قنوات التواصل مع أقرانهم من مثقفي العالم، لإطلاق حملات تضامن مع هذه الثورة، بل ومتابعة هذا الحدث العظيم الذي علينا ألا نستخف به، وإن كنا نصرُّ على سلمية المظاهرات أمام النظام الأرعن، فاقد القيم والأخلاق، والكرامة ،باعتباره- أي الحدث- مفتوح على اتجاهات عديدة، أقلها كسر أنف لآلة الطغيان، لكي تتنازل- وإن بنية المراوغة- عن الكثير من قوانينها المجحفة بحق أبناء المكان، وإعادة النظر في حقوق الجزء الكردستاني المحتل وهو- لامحالة- في طريقه- إلى الاستقلال الذي تزامن ذكراه الخامسة اشتعال وطيس الانتفاضة/ الثورة!