إبراهيم اليوسف
1-
لم تكن الشابة جيانا أميني لتعرف أن صباح يوم الثالث عشر، من شهر أيلول الجاري2022، الذي حطت وأسرتها: والديها وبعض أهلها، خلاله، الرحال في طهران. عاصمة بلدها المفروض، وعاصمته المفروضة، أو المفترضة، سوف يكون فضاء أكثر من حدث، ليس على بال أحد، ولا على بالها هي، أو أسرتها الصغيرة التي تعيش بأحلامها البسيطة التي شقت لها مساراتها في بلد تعاقبت فيه الدكتاتوريات: الشاهنشاية والملوية، فما كادت الأسرة تنتهي للتو من تناول طعام إفطارها البسيط في مطعم صغير، وانطلاقها لتنفيذ برنامج زيارتها، وهو برنامج أية أسرة تزور عاصمة بلدها، باعتبار أن مدينتها التاريخية العريقة التي لا يزيد عدد سكانها عن المائتي ألف نسمة تعد مجرد نقطة في بحر أية مدينة كبرى، ومنها هذه المدينة المزارة!
كانت جينا أميني- وهو اسمها الكردي باعتبار مهسا الاسم الفارسي المفروض- بلباسها الكردي، المحتشم، التراثي، من جهة: الإيشارب، أو المنديل، والمتأثر ببصمات الدين الجديد الذي دخله أكثر الكرد- طواعية- ودخله سواهم من الأغيار، مكرهين، تسير وسط أحد شوارع المدينة المضيفة شامخة، أبية، بما يليق بكردية حالمة بالغد. تتباهى بتاريخ ذويها. بجبالهم. بتشبثهم بكرامتهم، وكبريائهم، وهو ما ستشرع هي ذاتها، بعد ساعات، فحسب، بإعادة التذكير به، كله: تفصيلاً تفصيلاً، بعد أن استوقفها- حرس. أو رجال شرط- يسمون بشرطة- الأخلاق- وهم نتاج ثقافة سلطوية جاهلة. غبية. دموية. عديمة الأخلاق، لتتفاجأ بإيقافها، وتوقيفها، وسوقها، إلى المخفر القريب، واستجوابها، عما ارتكبته” وما الذي ارتكبته هي؟” لتتعرض للتعنيف المعنوي، والرعب، والتعذيب، لتخرَّ أرضاً، ويدخل الذعر مركز التعذيب- اللاأخلاقي- ويتمّ إسعاف هذه الفتاة البريئة، ليظلَّ قلبها خفاقاً، بينما يتوقف دماغها غير المصدق لما تم، عن العمل، وتلفظ أنفاسها الأخيرة، ويتمّ تسريب صور ملتقطة لها، وهي في كامل لباسها، وكأنها، مغمضة العينين، خجلى، كما عروس في يوم عرسها!
وإذا كان ملالي الفتاوى الكاذبة قد أبدعوا طرائق لتعليق الشباب الكردي، أو الإيراني الثائر، على أعواد المشانق، على نحو يكاد لا يتم إلا لدى نظام آخر- في دمشق- هو أيضاً- قيد الانقراض- فإنهم في هذه المرة وجدوا ذواتهم أمام مواجهة غير عادية. أمام ما يهدد نظام- إبراهيم رئيسي- بالسقوط، إذ إن كردر وجهلات- إيران- الذين أسسوا دولتهم، بقيادة القاضي محمد و رفاقه، ما كان لأركانها أن تتداعى لولا- تآمر الغرب- وهذا ما جعل أوضاع- كردستان- أشبه بقنبلة، فلم تستطع الأنظمة المتعاقبة محو الهوية الكردستانية:عن هذا المكان وكائنه، وما فتىء الكردي، بين التقاطة أنفاس وأخرى، يقول كلمته، ويصر على وجوده، رغم تآمر دول الاحتلال: سوريا- تركيا- بغداد- إيران، عبر رابطة التربص بالكرد، ومحاولة اجتثاثهم، من جذورهم، والتسابق فيما بينهم لتسجيل سبق الأولوية، فكان لكل محتل طرائقه وأساليبه في محاولات طمس الهوية الكردية، وهوما لم يكن ليتحقق لولا ابتلاء العالم عامة، والكرد، بخاصة، بأسرة دولية داعمة لهذا الصنف من الجينوسايد
!
بعد أن طال التحقيق مع الشابة، أو لأقل: الطفلة البريئة جينا، أو جيان، مفرَّسة الاسم، ومفترسة الوطن، ومفترسة الحرية، على أيدي هؤلاء الوحوش اللاآدمية، باسم الدين، ما دعا ذويها للتساؤل، والاستفسار من كل خارج من هذا المركز اللاأخلاقي، عن مصير فلذة كبدهم، ليصارحهم بعضهم:
لقد سقطت الشابة بين أيديهم، وها هم قد أسعفوها إلى أحد المستشفيات
أغمي عليها
لربما ماتت إلخ
فما كان منهم إلا أن أسرعوا صوب ذلك المستشفى، وهم واثقون مما تم، لأن أصداء صرخات ابنتهم كانت قد تناهت إلى آذانهم، وماذا في إمكان أسرة عزلاء أن تفعله في مواجهة- أزلام النظام المجرم- المسلحين، فقد خيل إليهم أن الأمر جد سهل: إنه مجرد تنبيه. ترهيب. تسجيل مخالفة. توقيف. سجن مؤقت، بحق فتاة طيبة، لا ذنب لها، فغطاء رأس ابنتهم انزلق قليلاً، ليكشف عن خصلة من شعرها، وكان في إمكان هؤلاء الزبانية تنبيهها:
أن غطي شعرك يابنيتي!
وإن كان ثمة سؤال يطرح ذاته:
لماذا المرأة ليست حرة، أصلاً، في الالتزام بارتداء المنديل أو رميه
لماذا لا نرى خصوصية غير المنتمين لبنية المذهب المتحكم؟
ألا يمكن أن تكون خصلات شعر هذه الفتاة قد تسللت سهواً من دون معرفتها وهوما يحدث، بأشكال أخرى، مع جميعنا، ومن بيننا شخصيات رسمية، فيما يتعلق بملابسنا؟!
لم يدر هؤلاء الجلاوزة، سليلو النظام الجلواز، المجرم، أن الكردي لا يسكت على إلحاق الأذى بكرامته، وأن غيارى إيران، في كل مكان لم تنطل عليهم أكذوبة قتل هذه الشابة البريئة، ظلماً، باسم الدين، والقانون، فانتفض الكرد، على امتداد خريطتهم: كردستان روج هلات. الجزء المقتطع لصالح إيران، وفق خرائط سادة العالم، في نشأة خرائط الشرق، الذين بدوا وكأنهم يوزعون مال وقف على دول وكيانات، ويسعون لإقصاء الكردستانيين، كما الأيتام على موائد اللئام، لنجد، في التالي دولاً مصطنعة، ما كان لها وجود في التاريخ، وغياب منبع حضارات الشرق، في غفلة من الكردي، صانع ملامح الشركاء الذين يغدر بهم ولاة أمورهم الدجالين، في دول الاحتلال
!
جينا التي واجهت هؤلاء المجرمين بمرافعتها الشفاهية عن حالتها، من دون أن تستسلم، وترفع يديها لهم، كانت تترجم بذلك أمالي تربيتها البيتية، والقومية، والإنسانية، فغطاء شعرها جزء من ثقافتها، بعكس بنات تلك النخب الإيرانية- الحاكمة- اللواتي كن يرمين مناديلهن في حقائبهن ما إن يصلن مطار- دمشق- على سبيل المثال، كما وجدناهن، في حالات كثيرة، لئلا يخرجنها من هذه الحقائب إلا في المطار ذاته، عندما يشرعن للعودة إلى بلادهن، بعد أوقات تطول أو تقصر، من السفور، كما قال لي أحدهم في تسعينيات القرن الماضي، عندما التقيته وحدثني عن بنات أعيان سافرات، بينما كانت أمهن قد غطت نصف شعر رأسها بمنديل شكلي، ولم تخطىء جينا الأبية، تقديراً، فها ذووها منذ أول لحظة من انتشار نبأ استشهادها قد انتفضوا، لتكون تلك انتفاضة كردستان. انتفاضة كل بقعة في إيران: المحتلة، أو الطبيعية، للسعي لإسقاط النظام-الإرهابي- الذي ينشر ثقافة البغضاء والفتن، وأضر بالإسلام، بكل مذاهبه، ويسعى لإقامة دولته الصفوية، في طبعة جدّ بائسة، على أساس العنف، والكراهية، وتمويل الإرهاب، بينما يتواطأ العالم كله مع هذا النظام- الأفعى. الغدار؟!
ما أعظم الكردستانيين: شيباً وشباباً رجالاً ونساء، وأطفالاً، وهم ينتفضون، يواجهون بصدورهم رصاص الحرس المجرم، من دون هلع أو خوف، لاسيما بعد أن راح أولو الأمر يسوغون، على عادة كل سفاح قائلين: موت مهسا كان طبيعياً، أي أنها لم تقتل برصاصة، ولم تعلق على عود مشنقة
!
يتبع….
في الحلقة المقبلة
حين يكون الدم ديناً في رقابنا:
ما الذي ينبغي علينا القيام به؟