د. محمود عباس
تراجيديا الشعوب السورية، تحولت إلى مسرحيات كوميدية على منصات مجلس الأمن، وجنيف، وأستانه. كما وتحذيرات لجان الإغاثة الدولية تحولت إلى صدى صامتة ضمن أروقة الأمم المتحدة، ونداءات المنظمات الإنسانية أصبحت غير مجدية، ودون القدرة على تحفيز القوى الكبرى لتصعيد الاهتمام المتناسب مع حجم الكارثة، خاصة بعد الحرب الروسية الأوكرانية.
لم تكتفي روسيا، بعد صراعها المتصاعد مع أوروبا وأمريكا، بالإصرار على فتح معبر واحد من أصل أربعة معابر دولية، لإيصال المساعدات إلى الداخل السوري، وبالتحديد إلى مخيمات منطقة إدلب، بل حذرت العالم على أنها بعد ستة أشهر ستضع شروط قبل تجديد الاتفاقية.
تمكنت من فرض مدتها، بعدما لم تحصل على بعض المكتسبات بالمقابل، من الدول الأوربية والناتو في حربها الأوكرانية، ولا من تركيا ضمن جغرافية إدلب وجنوب عفرين، خاصة بعدما رفضت الاجتياح التركي للمنطقة. رغم أن جدلية الخلاف على الزمن، ظلت تعالج خلف كواليس مجلس الأمن، بعكس ما كانت تجري في قاعتها العامة والتي كان المجتمع السوري وخاصة أبناء مخيمات إدلب ينتظرون التصويت الهش، وما سينتج بعد استخدام الفيتو الذي أرهب الشعوب السورية طوال العقد الماضي.
حصرت حوارات المجلس خلال الأيام الأربعة حول منطقة إدلب، دون المناطق السورية الأخرى المعانية على سويات تكاد تكون مشابهة، والشعب دفع ضريبة الموقف الروسي الأمريكي من المنظمات الإسلامية المدرجة ضمن قوائم الإرهاب، (نتحدث عن الدول كقوى سياسية، وليست المنظمات الإنسانية التابعة لهم) مثلما يدفع بقية المجتمع ضريبة النظام والصراع الإقليمي على الجغرافية السورية. فكما نعلم أن بقية المناطق، والمعابر الثلاث الأخرى الرسمية، ملغية من سجل الجلسات، وذلك لأن مناطق النظام تدرج ضمن قانون قيصر، والكوردية مرفوضة من جميع القوى المعنية بالقضية السورية تقريبا باستثناء أمريكا، ومعابرها الداخلية مفتوحة على الطرفين المعارضة والنظام.
طوال السنوات الثمانية الماضية، تتحاور دول مجلس الأمن على كمية الوجبة التي يجب أن تصل إلى العوائل السورية، يدرسونها فيما إذا كانت كافية على إبقائهم أحياء، وما هي نسبة الشعب الذي سيظل حيا بعد ستة أشهر أو سنة.
للمرة السابعة عشرة تستخدم روسيا حق الفيتو لصالح النظام السوري، وتنتهك حقوق الإنسان، وتعرض قرابة أربعة ملايين سوري ونصف إلى خطر المجاعة، دون أي تحرك سياسي أو دبلوماسي من قبل النظام أو المعارضة لتغيير مواقف الدول المعنية، لأنهم أدوات يتلقون الأوامر دون اعتراض، وطلباتهم لا ثقل لها لدى الدول المعنية بفتح المعابر الدولية، والأغرب أن مصالحهم تفرض عليهم الاختلاف على فترة فتح المعبر الوحيد والذي تتحكم به تركيا دون الدول الأخرى.
لم يصوت مجلس الأمن الخميس، استعملت روسيا كالعادة حق الفيتو في يوم الجمعة، وانتهت الفترة الزمنية دون الموافقة على مشروع قرار آلية التمديد، فأضطر الجميع على التصويت ثانية وربحت روسيا الجولة بعدما امتنعت أمريكا وبريطانيا من التصويت، دون استخدام الفيتو على مدة ستة أشهر. بعدما رفضت اقتراح تسعة أشهر من قبل البرازيل والأمارات العربية.
الطرفين متفقين على كمية محددة لا تتجاوز 800 طن شهريا، قد لا تكفي لإطعام مليوني شخص من أصل أربعة ونصف مليون يعانون من خطر المجاعة، فكما تقول منظمة الإغاثة أن مخازنهم شبه خالية، والمتبقي كاف لثلاثة أشهر فقط، أي أن 650 مخيما، قرابة مليوني ونصف من البشر سيواجهون خطر فقدان الخبز ومياه الشرب في فصل الشتاء عندما تنتهي الفترة الزمنية، حينها ستكون خطوط الأمداد كارثية، كما نبهوا على أن المساعدات الصحية تقلصت بنسبة 80% خلال الأشهر الأخيرة.
نحن هنا لا نتحدث عن البقية من الشعوب السورية في مناطق النظام والإدارة الذاتية في شرق الفرات، ولا في منطقة عفرين، أي لا نتكلم عن تناسيهم لقرابة 13 مليون ونصف سوري، المدرجون تحت خط الفقر المدقع.
لا شك هذا الواقع الإنساني المرعب، يخلق البيئة الملائمة للمنظمات الإرهابية بالدعاية لنشاطاتهم وإلقاء اللوم على الدول الكبرى، وبالتالي ستساعد على تنشيط خلاياها لتعبث بشوارع الدول الكبرى، تحت حجة الدفاع عن الشعوب السورية.
لو كانت قضية سوريا بذات الأهمية الإستراتيجية لهم، ومؤثرة على مصالحهم، لكان بإمكان أمريكا والدول الأوروبية المتعارضة مع روسيا إحالة القضية إلى هيئة الأمم، كما تم بحق روسيا عندما هاجمت أوكرانيا واستخدمت الفيتو في مجلس الأمن، لكنهم لن يفعلوها، لأسباب:
1- أنهم بذلك سيدرجون قانونية النظام السوري إلى المعادلة، وهذه تعني شبه اعتراف بالمنظمات العسكرية المنضوية تحت أسم المعارضة، ومعظمهم مدرجون ضمن قائمة الإرهاب عند الأمريكيين والأوربيين مثلما هم عند الروس.
2- ستتم محاسبة القوى المتواجدة على الأرض السورية من قبل منظمات هيئة الأمم، وبالتالي يتوجب عليهم قانونيا الانسحاب، وهذا ما لن تفعله أية دولة حتى ولو حكم عليه بالإجماع، وهذه ستؤثر على مصداقية الأمم المتحدة.
3- لا يتم طرح معبر اليعربية (تل كوجر) لأنها تحتاج إلى اعتراف سياسي بالمنطقة، أو أنها يجب أن تكون ذات نظام قانوني معترف به دوليا، أي يملك صلاحية عرضها على مجلس الأمن، أو أن تقوم دول أعضاء بعرضها.
4- تم رفض فتح معبر الرمثة، والبحث فيه، لأنها تحت سيطرة النظام، وتنطبق عليه شروط قانون قيصر.
جميع المؤتمرات، والاتفاقيات، والصفقات السياسية، من الأستانة إلى السوتشي إلى جنيف، إلى مؤتمرات تشكيل المنصات، وغيرها التي جرت، باستثناء ما يتم كل ستة أشهر في مجلس الأمن، تناولت مصير النظام والمنظمات التكفيرية المسلحة، دون أن يتم الحوار على مستقبل المخيمات والمهاجرين، والمهجرين، والأطفال المشردين، وما تم حول مشكلة السجناء كانوا يعنون بها الأشخاص المنتمية إلى النظام والقوى العسكرية المسماة جدلا بالمعارضة.
قوى دولية تماهت مع هذه النزعة الإجرامية، والانحطاط الأخلاقي، باستثناء بعض المنظمات الإنسانية التي حاولت إرضاخ الدول المعنية إلى بعض شروطها، دون أن تتمكن من التأثير عليهم، أو رفع سقف المساعدات الإنسانية، والتي لا تصل إلى 20% من حاجة السوريين، الذين يواجهون الموت في العراء أو ضمن المخيمات. فمصالح تركيا وإيران ومن ثم روسيا وأمريكا تفرض استمرارية الصراع الداخلي بعمقه الدموي للحصول على الشرعية في البقاء لنهب وربما تقسيم سوريا، وإيجاد التبريرات لمصير الشعب المهاجر والمعاني من المجاعة.
الألم السوري له خصوصية، لم يعد يتأثر به إلا أبناءها، والقضية أصبحت وباء تنفر منه الدول، ليدفع المجتمع السوري ضريبة النظام المجرم وشرائح المعارضة الفاسدة ومرتزقتها.
والغريب أنه من شبه المستحيل، وعلى مر التاريخ، إيجاد أتفاق أقذر من الاتفاق الضمني بين النظام والمعارضة على قتل الشرائح الوطنية من الشعب. والأغرب، عدم وجود تضارب بين مخططات تدميرهم للوطن، والتي تشمل التجويع إلى القتل عن عمد إلى التهجير القسري، إلى النهب وفتح الأبواب للقوى الإقليمية للعبث بمصير المجتمع. لهذا فجلسات مجلس الأمن، وغيرها، تصبح بشكل جدلي حوارات على المصالح الدولية قبل أن تكون على مصير الإنسان السوري أو سكان المخيمات الآيلة إلى المجاعة المرعبة.
على القوى الوطنية السورية أن تدرك أن سوريا تتجه نحو الزوال، فيما لو أستمرت على ما هي عليه، ولإنقاذها لابد من مطالبة مجلس الأمن لعقد جلسات خاصة لمحاكمة ليس فقط سلطة بشار الأسد، بل المنظمات الإسلامية التكفيرية، وتجريمهم، وإقناع الدول المعنية بالإقرار على إزالة الطرفين، حينها سيكون من السهل فتح المعابر وإيصال المساعدات، ودخول المنظمات الإنسانية، دونها معاناة المجتمع السوري ستستمر، بل ومصيرها كدولة ستنتهي بالتشتت والضياع.
الولايات المتحدة الأمريكية
10/7/2022م