نزار بعريني
“مع التأكيد على أهميّة إدانة ورفض جميع السوريين لخطط و سياسات انظمة تركيا العدوانية ،التاريخية و الراهنة ،تجاه الجغرافيا والديموغرافيا السورية ، أعتقد أنّ من مصلحة الجميع ، وفي مقدمتهم الكرد، إدراك ما تقوله جميع حقائق التاريخ والجغرافيا والديموغرافيا، بأنّ الإعتراف بالمصالح الحيويّة المتبادلة، السورية / التركية هي أهمّ عوامل استقرار سوريا ، وأنّ تحويل تركيّا إلى عدو ، لا يوازيه خطورة على مقوّمات الدولة السورية، إلّا تجاهل سياسات التكيّف مع تحالف العدو الصهيو /أمريكي ، وشريكه الإيراني ،وما يعمل لتثبيته من آليات نهب وشباك سيطرة تشاركية، على حساب مصالح السوريين المشتركة، وبما يهدد وحدة وسيادة الدولة السورية!”
في ظروف تغييب حقائق الصراع ، والتضليل الواسع الذي يتعرّض له الرأي العام السوري، من الضروري التأكيد في هذه المرحلة من تصاعد صراع السيطرة على شمال سوريا، على حقيقة أنّ الصراع المستمر على” تقاسم الحصص ومناطق النفوذ” منذ ٢٠١٥هو في الجوهر بين أهداف مشروعين رئيسيين متنافسين للسيطرة على سوريا ، امريكي × تركي، وقد أدارت واشنطن معاركه باستخدام طيف واسع من الشركاء ، في مقدمتهم الروسي والايراني ، و في سياق تفشيل مسار انتقال سياسي وتحوّل ديمقراطي، شكّل الهدف المركزي لحراك السوريين السلمي في ربيع ٢٠١١!!
في حين تقاطعت أهداف المشروع التركي، التي تعبّر عن مصالح تركيا الحيويّة ، مع اهداف الحراك السياسي السلمي للشعب السوري ،ومع مصالح وسياسات طيف واسع من القوى الإقليمية ،حول أهميّة و ضرورة الإصلاح/ الانتقال السياسي للخروج من ذروة المأزق الذي وصل إليه الصراع السياسي ولتجنيب سوريا مسار الحرب ، خلال المرحلة الأولى من الصراع بين ٢٠١١- ٢٠١٤ ، تقاطعت وتكاملت منذ الأيّام الأولى لتفجّر الحراك السياسي السلمي في ربيع ٢٠١١، وفي جميع مراحل الصراع ، أهداف وخطط وسياسات واشنطن مع مصالح و سياسات ” خصومها ” الروس والإيرانيين ،على حدّ سواء، حول هدف منع حدوث انتقال سياسي، باي ثمن ، فساهمت سياساتها، وشكّلت العامل الرئيسي في تعزيز جهود دفع الصراع السياسي على مسار خيار الحل العسكري الطائفي، في المرحلة الاولى من الصراع، و شاركت مباشرة ، منذ تدخّلها العسكري الواسع النطاق خلال ٢٠١٤ ، وحتّى تاريخه ، في دفع الصراع العسكري اللاحق بين أذرع الثورة المضادة الميليشياوية- بالتنسيق الكامل مع روسيا البوتينيّة وشريكها الايراني ، وفي تجاهل لمصالح تركيا الحيوية ، و مواجهة مع رؤية ومصلحة السوريين لقيام حلّ سياسي شامل،حتّى وفقا لمشروع القرار ٢٢٥٤ الأمريكي،وعبر نهج تدمير واسع النطاق، وتغيير ديمغرافي،قادته ميدانيا روسيا ، نتج عنه تهجير ملايين السوريين في الداخل ، والخارج ، و كانت تركيا المتضرر الثاني من نتائجه ،بعد الشعب السوري- على مسار بناء سلطات” أمر واقع” ” منسجمة”، أصبحت في نهاية المعارك الكبرى لتقاسم الحصص ومناطق النفوذ في مطلع ٢٠٢٠ ،واقعيا وعمليا ،تجسّد مرتكزات مشروع تقسيم سوريا ، وأدوات تحقيق مصالح الدول الداعمة للخيار العسكري، الطائفي ، وفي مقدمتها الولايات المتّحدة؛ وقد انسجمت سياسات واشنطن في جميع مراحل الصراع مع خطط السيطرة الإقليمية الاستراتيجية للولايات المتّحدة طيلة عقود الحرب الباردة ، وتوافقت خلال المرحلة الثانية، ٢٠١٥- ٢٠٢٠ مع خطط، ورؤى تفصيليّة ل مشروع “خفض التصعيد”، وضعها الخبراء الأمريكان القائمون على مركز بحوث RAND ، منذ ٢٠١٥ وقدّمها في صيفة مقترحات على موائد صنّاع القرار ،في البنتاغون ووزارة الخارجية والبيت الأبيض؛ ولم يخرج الدور الرئيسي، الروسي الايراني ، عن السياق العام لتحقيق اهداف المشروع الأمريكي.
لاغرابة ، والحال هكذا، أن يحاول النظام التركي في هذه المرحلة المتقدّمة من تنفيذ خطط المشروع الأمريكي لتقسيم سوريا بين سلطات الأمرالواقع- التي يلعب في تنفيذها دور الشريك الرئيسي، بما استحوذه من اوراق قوّة طيلة سنوات الحرب -،استغلال بعض المتغيّرات الدوليّة، التي أعقبت الغزو الروسي/ الأمريكي لأوكرانيا المستمر منذ ٢٠١٣ ، لتوسيع حصّة بلاده في إطار تحقيق مشروعه المُعلن حول إقامة” منطقة آمنة” بعمق ٣٢كم ، رغم إدراك قادته العميق لحقائق موازين القوى الرادعة ، وطبيعة تحالف الخصوم والشركاء الذي تواجهه، واستيعابها لدروس غزوة نبع السلام، ٢٠١٩، التي شكّلت مكاسبها التركية اقصى ما يمكن أن تتنازل عنه واشنطن لصالح ” منافس / شريك ” إقليمي كبير ، مُتعب ، لم يَعُد يشغل نفس الأهميّة في أولويات أدوات السيطرة الإقليمية للولايات المتّحدة ؛ بالمقارنة مما كانت عليه الحال خلال حقبة الحرب الباردة، وتفاديا لإنزلاق الصراع على مسارات حرب شاملة ، قد تقلب نتائجها الطاولة فوق رؤوس الجميع !!
بناء عليه ، وفقا لموازين قوى الصراع المستقرّة منذ مطلع ٢٠٢٠ ، يمكن الإعتقاد أنّ احتمال قيام النظام التركي بغزو عسكري جديد لمناطق السيطرة الأمريكية/ القسدية غير وارد ، ليصبح من المرجّح حصول تفاهمات صفقة سياسية جديدة ، تعمل على مقايضة اوراق تركيا الجديدة / القديمة ببعض النفوذ والسيطرة في مناطق” منبج” ، او” عين عيسى” ، او كليهما – الاقل اهميّة في مشروع السيطرة الامريكية/ القسدية، بالمقارنة مع مدن أخرى – ، ودون مواجهات عسكرية حقيقية ، وعلى حساب النفوذ الروسي ، ومصالح السوريين !!
لتوضيح أبرز سمات المشهد السياسي/ العسكري الراهن ، وآفاق حركته ، دعونا نتساءل:
ما هي الاهداف التي يسعى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لتحقيقها من مناورة رفض بلاده التوافق الناتوي لضم فنلندا والسويد ، الذي اصبح مطلبا لكلا البلدين، وصاحب الحلف “أيضا ، بفضل غزو شريكه الروسي اللدود لأوكرانيا “؟
الهدف الاوّل ،
هو تحجيم دعم الدولتين لحزب العمال الكردستاني التركي PKK وفرعه السوري ، PYD اللذين يتلقيان احتضانا رسميّا ، ودعما متعدد الأشكال من قبل حكومتي البلدين ؛ رغم وقوف الحزب الأم ، وفرعه السوري المدلل ، في” خندق الثورة المضادة” للتغيير الديمقراطي منذ ٢٠١١ ؛ وهو سلوك سياسي غير مفهوم من قبل “حكومتين ديمقراطيتين” ، تدّعيان دعم حقوق الشعب السوري؛ إلّا في حال إلحاقه بسياسات واشنطن، المعادية للتغيير الديموقراطي !!
ثانيا ،
الرسالة لاتقتصر على “فنلندا والسويد” ، بل يريدها أردوغان أن تصل بقوّة الى مسامع “شركائه” الأعداء ، الاوروبيين والأمريكان في” حلف النيتو”، الذين يقدّمون كلّ اشكال الدعم المادي واللوجستي لحزب pkk ، وفرعه السوري ( رغم وضعه على قائمة الإرهاب الأمريكية !!)،وجناحه العسكري ، ” وحدات حماية الشعب!” التي تشكّل العمود الفقري والقوّة المهيمنة في ” قوّات سوريا الديمقراطية “( قسد )، التي يخوض معها أردوغان حروب وكالة إخطبوطية منذ ٢٠١٦ ، ضد خطط وسياسات النظام السوري والايراني والولايات المتّحدة وروسيا وحزب العمال الكردستاني التركي، الرافضين ، كما يعتقد أردوغان ، الاعتراف بمصالح بلاده الحيوية في سوريا !
النزال التركي مع واشنطن وشركائها لايقتصر على طبيعة علاقتهم الداعمة لحزب العمال التركي وفرعه السوري ، ولا على جهود تركية للإنضمام إلى الإتحاد الأوروبي، بل يصل الى ساحات طموحات تركيا العسكرية ، ونظام دفاعها الجوي ، الاستراتيجي.
فقد وصل شعور احباط القيادة التركية من تجميد صفقة F-16 ، على سبيل المثال ، الى درجة “الخيانة” ، جعل “أردوغان” يصبّ جام غضبه على رئيس وزراء اليونان ،الذي قادت بلاده حملة داخل الكونغرس، مناصرة لمقاطعة مبيعات السلاح الامريكي لتركيا !
ثالثا ،
محاولا الاستفادة من نتائج الغزوة العسكرية التي اطلقها شريكه بوتين في اوكرانيا ، لتوسيع حصّة بلاده التي اقرّتها اتفاقيات أذار ٢٠٢٠ ، والتي لم تلبّي متطلّبات شروط إقامة مشروع ” المنطقة الآمنة ” على طول حدوده مع سوريا ، بعمق ٣٢كم ،والتي فشلت غزواته المتلاحقة منذ ٢٠١٦ في تأمين الجغرافيا اللازمة لتحقيقها ، بسبب معارضة منافسيه في سوريا ، وإصرار واشنطن على عدم التفريط بحصصها الأكثر جدوى من الجغرافيا السورية، وهيمنتها على القرار السياسي/ الاقتصادي في دمشق، وبالتالي بذراعها العسكري، الذي بات يسيطر على حوالي ربع مساحة” الجمهورية العربية السورية ” ، وتتخذ منه تركيا ذريعة لفرض مصالح أمنها القومي ، وتحاول إضعافه لصالح حلفائها الكرد في سوريا وأربيل؛ وقد أظهر قياديو ومقاتلو ” الجيش الوطني السوري ” ” الموحّدون ” الاستعداد والجاهزية لمنازلة” قوات سوريا الديمقراطية “، الانفصاليين ” ، عبر اطلاقهم مناورات تحمية، استعدادا للمعركة القادمة !!
رابعا ،
في توجيه تهديدات مباشرة لمناطق السيطرة الكردية / الحليفة في تل رفعت وعين العرب والقامشلي ، المواقع الرئيسيّة التي يُدرك مخططو السياسات التركية اهميّتها الاستراتيجية في خطط السيطرة الأمريكية ، وبالتالي صعوبة قضمها ، او تشارك السيطرة عليها، ثمّة عين تركية على ” منبج ” و” عين عيسى ” ، حيث يسيطر منافسيها الروس والايرانيين ،و أخرى على” إدلب “، حيث تتنافس ميليشيات تابعة لها السيطرة مع ميليشيات “القاعدة “المتعددة الجنسيات ” ، وحيث من المرجّح أن يكون ، في خارطة سورية الجديدة ، للإمارة موقعا أمريكيّا تفضيليّا !!
في ختام قصّتنا المأساوية ، من المؤلم الإستنتاج أنّ الغائب الدائم عن مشهد صراع الضواري لتقاسم بلدهم هم السوريون ، اصحاب الحق والشرعية ، والتاريخ والجغرافيا ، الذين باتوا “ملطشة “على امتداد جغرافيا هذا العالم الأمريكي المتحضّر ؛ وهي نتيجة طبيعية ليس فقط لغياب “حكومة سوريّة” ، بل ولغياب ” قيادة وطنية “، نخبوية ،سياسية وثقافية ، تقود السوريين في ظروف غياب سلطة وطنية شرعية ، وفي خضمّ صراعات نهب وسيطرة على هذا القدر من التعقيد والتداخل ؛ وقد ساهم في تهميشها تاريخيّا وراهنا ” اللانظام” و” خصومه ” الاوروبيون والأمريكان !!
إذ يحصل” النظام” على حصّته، ويحاول تثقيلها عند أيّة فرصة هي حالة طبيعية ، والطبيعي أيضا أن تحصل أذرع الثورة المضادة ( سلطات الأمر الواقع)على بعض الفتات ، الذي يليق بقوّادها الميامين !!
الغير طبيعي ، والمتناقض مع كلّ المبادىء والقيم السماوية والوضعية أن يخسر السوريون كلّ شيء- الكرامة والسيادة، والجغرافيا، وفوق كلّ ذلك، المستقبل !
الطّامة الكبرى هي في تلك ” النخب السياسيّة والثقافية السورية ” التي حوّلوها إلى معارضات مرتهنة ، فأدمنت البحث عن مصالحها الخاصّة عبر ما تقدّمه للرأي العام السوري من تضليل ،وتروّجه من دعايات منفصلة عن حقائق الواقع، فساهمت في تفتيت الصف الوطني السوري، وابعاد السوريين عن دائرة التأثير والفعل الوطني .
حزيران – ٢٠٢٢