د. محمود عباس
الرئيس الذي أنقذ روسيا من براثن المافيا المرعبة، ليتحول إلى عرابها. ومن مدمر لتجار الحروب الروس الذين جمعوا المليارات، وأصبحوا في المرتبة الخامسة عالميا من حيث الغنى الفاحش؛ خلال عقد ونيف من سقوط الإتحاد السوفيتي؛ ليصبح زعيمهم بدون منازع. المتحول من الظل، والتبعية إلى مريض بجنون العظمة. الذي أعاد روسيا إلى الظهور ثانية في العالم كمنافس للقطب الواحد، مرعبا الناتو وأمريكا، بالانعطافات الحادة في تطوير أسلحته، حتى ولو كان على الإعلام، إلى قائد مشكوك في قدرات جيوشه، والمتوقع أن يخسر الحرب مع أوكرانيا والتي كانت مقارنة جيوشهما واحد بالعشرة.
الرجل الذي كان بإمكانه أن ينقل روسيا من دولة في الدرجة الخامسة أوروبيا، والحادية عشرة عالميا، من حيث الدخل الوطني والذي لا يزيد عن 4 ونصف تريليون دولار عام 2021م، إلى الدولة الثانية عالميا، وربما المنافسة لأمريكا.
الرئيس الذي ركز على السلاح، والهيمنة والسلطة المطلقة، وأحل تطوير الاقتصاد ومعيشة السكان إلى الدرجة الثانية والثالثة، ولم يبالي كثيرا عندما كان يقال له أن متوسط دخل الفرد الشهري لا يتجاوز ألـ 1500 دولار، ولم يعير كثير اهتمام لتقرير نائبة رئيس وزراءه، عندما بينت وبالوثائق، أن أكثر من 15 مليون روسي يعانون من الفاقة، و60% من الشعب يعيشون على أو تحت حافة خط الفقر، في الوقت الذي كان بإمكانه ديمومة التركيز على الزيادة السنوية في الاقتصاد والتي تجاوزت في السنوات الأخيرة ألـ 4%، وتفضيلها كاستراتيجية وطنية على هدر الأموال الهائلة من الدخل الوطني لتطوير الأسلحة. وكان بإمكانه أن ينافس الصين وأمريكا في الهيمنة على العالم، تجارة وقوة اقتصادية، وخاصة على أوروبا، وقد كان من السهل بلوغ سوية الدولة الثانية عالميا، بعدما أصبحت من بين أقل دول العالم مديونية، لوجود ثروات لا تقدر.
فهي تحتل المرتبة الأولى في العالم من حيث الاحتياطي، النفط والغاز، والثانية في العالم باحتياطي الفحم، والثانية في إنتاج النفط، وأكبر مصدر للغاز في العالم، ثاني أكبر منتج له، ثاني أكبر مصدر للنفط، خامس دولة في الاحتياطي النقدي، بطاقة عمالية تبلغ 70 مليون إنسان، مع خبراء ومختصين تضعها بين الدول الأولى في العالم، والثانية في تصدير الأسلحة، والثانية في العالم من حيث إنتاج القمح وتصديره، والثالثة في إنتاج الذهب، والثانية في إنتاج البلاتينيوم، والرابعة في إنتاج الفضة، والتاسعة في إنتاج النحاس، والثالثة في إنتاج النيكل، والسادسة في الليد، والتاسعة في بوكسيت، والعاشرة في الزنك، والثانية في الفناديوم، والثانية في الكوبالت، والخامسة في إنتاج خامات الحديد، والسابعة في الـ بورون، والتاسعة في المولبيديوم، والثالثة في إنتاج سولفور، والرابعة في الفوسفات، والثامنة في الكيبسيوم، والسادسة في الأورانيوم، وغيرها من المواد التي تحتل المراكز الأولى في العالم من حيث الاحتياطي.
كما وتملك قرابة مليون ونصف كم مربع من الأراضي الزراعية، وهي قرابة 13% من مجمل مساحتها، وهي أكبر دولة في العالم، وتحتل المركز الأول عالميا في تصدير القمح، وأول منتج للشعير والبقوليات والعلف الحيواني، وثاني أكبر منتج لبذور عباد الشمس في العالم، وتملك أكبر أسطول في العالم لصيد السمك. إلى جانب المساحات الهائلة من الغابات الاستثمارية والتي تغطي معظم سيبيريا.
لا يمكن وصف الرئيس الذي يملك هذه الثروات، ويطمح في تحقيق مطامعه عن طريق الحروب الكلاسيكية، إلا بساذج مريض بجنون العظمة، كان قد بلغ الرئاسة، عن طريق الحظ أكثر من الحنكة، ساعدته الظروف في بلوغ سدة كرملين. كان بإمكانه جلب أوكرانيا ومعظم الدول الاشتراكية السابقة، إلى حضن تحالف شرقي جديد، من خلال تمتين الاقتصاد الروسي، وتحسين مستوى المعيشة، ومنافسة الغرب برفاهية المجتمع، ونقل روسيا كدولة اقتصادية من المركز الحادي عشر عالميا إلى المركز الثاني أو الثالث اقتصاديا، لأصبح القطب الذي سيجذب الدول وليست الدولة المرعبة، والتي تنفر منها أصدقائها السابقين.
لا يمكن وصفه إلا بالرئيس المتبجح، بعد سقوطه وبهذه السهولة في خباثة مخططات الناتو وأمريكا، وانجراره إلى مستنقع الحرب، ليتم تدمير اقتصاده قبل أن ينطلق عالميا مثل سلاحه، وتتعرى قدرات جيوشه، وسوية أسلحته المتطورة، كما وأعطى المجال لأمريكا والناتو بتجربة أسلحتهم واكتشاف نقاط ضعفها، والتي كان يتبجح بها طوال العقد الماضي، متناسيا دروس التاريخ أنه لا يمكن محاربة العالم أجمع، كالتي أقدم عليها إسكندر المقدوني، وهولاكو، وهتلر، ولم يفصل بين روسيا المدافعة عن الذات، والتي حققت الانتصارات الباهرة، والمهاجمة الخاسرة في كل محاولاتها.
على مدى شهور، في الواقع العملي كان يهدد، وعلى الإعلام وفي الحوارات الدبلوماسية، كان ينفي التخطيط بالهجوم على أوكرانيا، أكدها لبعض الرؤساء الذين حاورهم، ولربما كان يدرك مغبة السقوط في حبائل أمريكا والناتو، وهو ما توقعناه إدراكها، إلا أنهم لم يتقاعسوا من التحريض وحثه على الهجوم، بخلق المشاكل من جهة، والتعامل الدبلوماسي من جهة أخرى، إلى أن بلغ مرحلة تصديق الذات، على أن الناتو وأمريكا، سيرضخون لمطالبه، في حال قام باجتياح أوكرانيا، والمتوقعة على أنه سينهيها بأقل من أسبوع، وهو ما صرح به وزير دفاعه على أنه لو طال الحرب أكثر من عشرة أيام، سيستقيل.
خسر الألاف من خيرة شباب روسيا، وأوكرانيا، وأعاد كوارث الحرب العالمية الثانية الى المنطقة وأذهان شعوبها التي لا تزال تعاني من تبعات الدمار، والهجرات، والمعتقلات. لا شك أن لأمريكا والناتو اليد في كل ما يحصل من الدمار، ولكن وحسب قوانين الحروب المهاجم هو المذنب الأول، وهو الذي يحمل التبعات، فبوتين بجهالته والذهنية الدكتاتورية، لم يتمكن من الحفاظ على وعوده، بل انجر إلى المستنقع وجر معه كل روسيا، والمنطقة، وربما العالم.
بوتين وبعد تدميره غروزني، عاصمة تشيشنيا، إحدى الفيدراليات الروسية، وتشكيل السلطة الموالية، وتقسيم جورجيا إلى ثلاث جمهوريات والتحكم بمصيرهم، وتدمير سوريا ومساعدة النظام الإجرامي، وتسليم المناطق الكوردية (عفرين وما بين سري كانيه وكري سبي) لأردوغان، لكسب تركيا إلى جانبه، وعقد صفقات عدة معه بعد ابتعادها المشكوك فيه عن الناتو، وتعميق العلاقة مع إيران، ظن أنه أصبح القطب الثاني في العالم والمنافس المتمكن لأمريكا والناتو دون مساعدة الصين والدول الأخرى المعنية، كما كانت عليها الإتحاد السوفيتي، متناسيا مستنقع أفغانستان وبدعم أمريكي، وظانا أنه سيربح الحرب الإستراتيجية خلال أسبوعين على الأكثر.
نحن والعديد من المراقبين السياسيين، أخطئنا ليس فيما أقدم عليه، وحدوث الحرب، بل في مدى جهالة فلاديمير بوتين، وسهولة انجراره لمخطط بريطانيا وأمريكا، وتقديمه الحرب الطريق الأمثل لبلوغ غايته، خاصة مع الدول الكبرى لربما متناسيا الفرق بينهم وبين القوى الصغرى التي قضى عليهم. التوقعات هي ذاتها بالنسبة لقدرات جيوشه، وما كان يظن على أنه سيقسم أوكرانيا خلال أسبوعين على الأكثر. ما يجري اليوم أصبح خارج كل الاحتمالات وألغيت كل التوقعات الممكنة ظهورها في قادم الزمن.
الولايات المتحدة الأمريكية
24/4/2022م