العقل المؤدلج والبروباغندا الشمولية

نزار بعريني 

من المؤسف لدرجة الإحباط أن لا يلاحظ المتحمسين للحرب في اوكرانيا و” “إنجازاتها ” الروسية أنّ اكبر نجاحات  “الطغمة الإمبريالية ” المهيمنة على سياسات الولايات المتحدة  الخارجية من هذه الحرب الظالمة ،هي دفع نظام ” الاولغارشية ” السياسي الروسي، (الذي صنّعه “يلتسن / كلينتون” بين ١٩٩٠- ١٩٩٣، لمنع قيام نظام ديمقراطي روسي  في اعقاب جريمة  تفكيك الاتحاد السوفيتي العظيم،وورّثاه”لبوتين”١٩٩٩)، خطوات بعيدة على طريق ترسيخ نهج  ” الشمولية ” ، التي شكّل نظامها السياسي الستاليني أقوى أسلحة  الولايات المتحدّة  في سعيها ” إحتواء ” الاتحاد السوفياتي “، طيلة حقبة الحرب الباردة ،وستشكّل اليوم ليس فقط  مقدمة وأداة  لتفكيك ” الإتحاد الروسي “، بل والإتحاد الأوروبي “، أيضا، كما فككت” الإتحاد السوفياتي”،وبالتالي تحقيق اهداف واشنطن لمنع توحّد أوروبا، وتحوّلها إلى عملاق بشري واقتصادي في وجه الأطماع الأمريكية، واستراتيجيات سيطرتها العالمية ! 
صحيح أنّ اجهزة الولايات المتحدّة الهائلة  تستخدم كلّ أشكال ” الدعاية ” لأقناع” جمهورها “والرأي العام  بأكاذيب تتناقض مع حقائق الواقع،ولتغييب اهدافها الحقيقة من حروبها الإمبريالية ووسائلها القذرة لتنفيذها،،لكن تبقى ” البروباغاندا ” اخطر اسلحة “الأنظمة الشمولية”، ليس لمواجهة الأعداء المفترضين، بل لتحويل الشعوب إلى أكباش فداء رخيصة  لسياسات وحروب تتناقض مع مصالحهم، وتطلّعاتهم  المشروعة لتوفير ظروف حياة آمنة، مزدهرة، مستقرّة !!
   قبل بدأ الغزو الروسي الواسع للأراضي الاوكرانية، ٢٤ في  شباط، حاول الرئيس فلاديمير بوتين شخصيا ترويج مبرراته لأسباب الحرب ودوافعها، واهميتها القصوى لضمان أمن روسيا، وحماية مصالحها،عبر مجموعة إطلالات تلفزيونية، شكّلت حملة دعاية واسعة، ومقدمة لما سيشكّل عناصر  بروباغاندا متكاملة، تعمل على تسويق اسباب الحرب، وتحشيد الروس خلف قيادتهم “التاريخيّة الحكيمة :، وخلق مزاج عام مؤيّد للحرب؛ رغم تعدد ابواب الجحيم التي فتحتها على الشعب الروسي ودولته واقتصاده !!
 في إطار حملة دعائية غير مسبوقة، خاطب بوتين الروس ” وجها لوجه”، في خطاب مساء يوم الأثنين ٢١ شباط ٢٠٢٢، متناولا اهمّ الأحداث  المفصلية في العلاقات التاريخية بين روسيا وأوكرانيا، والاسباب التي فجّرت الصراع في إقليم دونباس، ومبررات الإعتراف” بسلطات أمر الواقع”، “الجمهوريات ”  الانفصالية الموالية  في  شرق أوكرانيا. 
وفي تهيئته لمسرح الحرب، ومن اجل  تبرير سياسات  نظامه  لغزو أوكرانيا، لم يكتف السيّد بوتين بالإتكاء على التاريخ -هذا الملعب الواسع، المليء بالمكائد  والدم والدمار، الذي يستطيع ان يجد فيه أي مغامر ذرائع لمخططاته – كاشفا  ما تضمّنه من أخطاء،  مناديا بضرورة تصحيحها؛ ليس فقط “إنتصارا لحقوق روسيا التاريخية”، بل أيضا في إطار ” تصحيح العلاقات الدولية الراهنة “،و”إعادة التوازنات الدولية الى طبيعتها التي كانت قائمة قبل تفكك الإتحاد السوفياتي “
وفي إطار  ترويج أسبابه لخيار الحرب، وتبرئة نفسه من مسؤولية نشوبها، وما قد  تخلّفه من كوارث، أسهب زعيم الكرملين في توصيف مسؤوليّة ” سياسات  لينن القومية”، الغير مبدئية، عن ذراعة الألغام  التي انفجرت في وجهة الإتحاد الفدرالي السوفياتي  في مطلع تسعينات القرن الماضي، وتنفجر اليوم في وجه ” الأتحاد الروسي “، واضعة البلاد أمام خيارات وطنية  عظمى ؛و لم يكتف باتهام القيادة الاوكرانية بما ” ارتبط بسرقة الغاز، وقضايا الطاقة، وباستخدام  الحوار مع روسيا كذريعة لمساومة الغرب، وابتزّته بأمكانية التقارب مع موسكو، والحصول على تفضيلات لنفسه “،بل أيضا  بالتواطؤ مع ” “الغرب الأمبريالي “لتطويير اسلحة نووية، تهدد الأمن القومي الروسي !
علاوة على ذلك، فليس اولائك الخصوم الجاحدون فقط ادوات للغرب، ويعملون على” تقديم الخدمات بكلّ إذلال لمنافسي روسيا الجيوسياسيتين”،  بل لقد” سعوا  الى تشويه الوعي والذاكرة التاريخية للملايين من الناس، ولأجيال بأكملها، تعيش في أوكراني “، مما أدّى إلى” صعود نزعات قوميّة متطرّفة، سرعان ما اتخذت شكل النازية الجديدة، والترهيب العدائي للروس ” ؛ وقد شجّع هذا السلوك “مشاركة القوميين الأوكرانيين والنازيين الجدد  في العمليات الإرهابية في شمال القوقاز…انتهاكات صارخة  ضدّ روسيا”!(٢)
نقطة ثانية  بارزة في هذا السياق، ما تروّجه دعاية روسيّة وحليفة لأفكار تشكّل” نظام عالمي جديد”،  يكسر نظام” القطب الواحد” الإمريكي، ويُعيد العلاقات الدولية  إلى حالة التوازن، في تزوير فاضح لحقائق الحرب الحالية، وما ستؤدّي اليه من اضعاف روسيا، وأوربا معا، وتعزيز ادوات السيطرة الأمريكية، الاقتصادية والعسكرية. فالناتو يزداد تمدده  شرقا، مضيّقا الخناق حول عنق روسيا، والعقوبات الأقتصادية كفيلة بسحب البساط من تحت النجاحات التي حققها الأقتصادي الروسي خلال العقدين الماضيين، وستعيد الخسائر العسكرية الفادحة الجيش الروسي الى مرتبة الجيوش الإقليمية . لن يقلل  من  هذه النتائج الواقعية الكارثية لخيار الحرب ما يهدد به من جاهزية “الردع النووي “، أو  وما يُعلنه من شروط فتح حسابات بالبنوك الروسية،  وجوب دفع ثمن الغاز الروسي بالروبل، في محاولة لمنع حدوث  انهيارات اقتصادية كبرى، يهدد بحصولها استمرار الحرب والحصار لفترات طويلة!
  إنّ حال  مَنْ يُصدّق اليوم ترّهات البروباغندا الروسية حول انجازات الحرب، والمستقبل المشرق الذي ينتظر “الشعب الروسي”،(الذي يُستخدم  ابنائه كوقود لحرب ظالمة على شعب صديق، مسالم)، وإمكانية تحوّل روسيا إلى ” قطب عالمي “،لن يكون أفضل من حال السوريين الذين وقعوا ضحيّة بروباغاندا متعددة الألوان، قدّموا فلذات أكبادهم قربانا لحروب ” الثورة المضادة “، و أنطلت  عليهم اهداف ما روّجت  له دعاية الدكتور” فوزي الشعيبي” عن وجود ثروات طائلة، نفطية وغازية، تنتظر ابناء الساحل السوري، فقط عندما تنتهي الحرب، وتتفرّغ القيادة المنتصرة لرد جميل شعبها!!  
 مشكلات ” العقل المؤدلج” عديدة، اكثر تعبيراتها انفصالا عن الواقع هو عجزه عن تعلّم الدروس، ومراكمة الخبرات . فبعد كلّ ما حصل من كوارث منذ  ١٩٩٠، على الصعيد السوفياتي، والسوري، مازال البعض يلهث وراء اوهام، ويصدّق أكاذيب مُضللة !! 
ف”هنيئا ” للإتحاد الروسي  ” بستالينه الجديد  “، و”طوبى ” للراقصين على الحان الديكتاتوريات الجنائزية !!
١-المثال الأكثر تجسيدا لهذا السلوك الأمريكي حصل في نهاية ٢٠١١، حين اجرت الولايات المتحدّة” إنسحاب تكتيكي “،في مواجهة تحدّي الربيع السوري، تاركة العراق في قبضة نور المالكي، وبما يغطّي على حقيقة اهدافها وسياساتها المعادية  لقوى واهداف الانتقال السياسي والتحوّل الديمقراطي، ويجنبها مسؤولية الجرائم. لقد اتاح الانسحاب ” الرسمي” الأمريكي لإيران الإستخدام المفرط لموارد العراق الضخمة، البشرية والمالية والعسكرية، اضافة الى ” خلايا الارهاب ” النائمة، لرفد قوى النظام والميليشيات الطائفية  بمئات ألواف المقاتلين، المنضوين في صفوف داعش والحشد الشعبي، وتقديم مليارات الدولارات المنهوبة من ثروات العراق، وكان لذلك  الجهد الدور الأوّل في دعم سياسات النظام  الساعية لأسلمة الثورة، وتحويلها إلى حروب طائفية…ولسان حال الأمريكان يقول:
” نحن انسحبنا، مدخلنا !!…لكنّهم سرعان ما أطلّوا برأسهم في قلب منطقة الثروات السورية، عندما انجزت  داعش وميليشيا الحشد المهام الموكلة لها !!!!
(٢) -تصبّ الدعاية الروسية جامّ غضبها على الخيار الديمقراطي للشعب الأوكراني، في إدراك عميق لخطورة أنّ  في  يتمتّع  الشعب الأوكراني، الذي هو جزء من الفضاء الروحي للروس، بحرية التعبير وحرية الإعلام، والصحافة، والقدرة على تغيير حكّامه، في نهج ديمقراطي، يمنع إحتكار السلطة، وتأبيدها، بينما ، لا يتمتع الروس بمثل هذه الحريات، ويستطيع أن يقودهم في طوابير استفتاء مثيرة للسخرية، ليغطي طبيعة نظامه المعادي لحقوق الروس، وامالهم المشروعة بتوفير ظروف حياة كريمة، الذين، كما يدرك بوتين جيّدا، إنّ  حذوا حذو جيرانهم الأوكرانيين، فلن يستمر بوتن طويلا في الحكم.!!
 “الهدف الأساسي لما، يٌسمّى” الخيار الحضاري” ، المؤيّد للغرب، للحكومة الاولغارشية، كان وما يزال ليس خلق ظروف افضل لرفاهية الشعب، بل في تقديم   الخدمات بكلّ إذلال لمنافسي روسيا الجيوسياسيتين، لتوفير مليارات الدولارات المسروقة من الأوكرانيين، واخفائها من قبل القلّة في حسابات بنوك غربية” !! 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي المرء لا يذهب إلى طاولة المفاوضات وهو خالي الوفاض وإنما يذهب وهو متمكن وقادر والمفاوض يكشف أوراقه تدريجياً تبعاً لسير العملية التفاوضية فعند كل منعطف صعب وشاق يقدم المفاوض بطريقة أو بأخرى معلومة ولو صغيرة حول قدراته على إيقاع الأذى بالطرف الآخر من أجل أن يكون مقنعاً فعليه أن يسأل عن مقومات الندية والتي تتركز على مسألة القوة…

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…