د. محمود عباس
مقارنة تطرح ذاتها، قد تبدو للبعض غريبة، بين موقف رئيس أوكرانيا فلاديمير زيلينسكي، ورده الحاسم، على رئيس وزراء بريطانيا بالالتجاء إلى دولته، والذي فضل الدفاع عن الوطن مع المساعدة على الضيافة، والتي لولا المصالح الدولية لكانت أوكرانيا في عالم التجزئة مثل كوردستان. وموقف قيادة الإتحاد الوطني الكوردستاني، وتخليهم عن كركوك وأرض كوردستان، مع تقدم الحشد الشعبي، من أجل مصالح ذاتية، غطيت بتهديد بسيط من أحد أئمة ولاية الفقيه. إلى جانب غيرها من المواقف الدولية المتماثلة مع الأخطاء الداخلية السياسية والتي غيرت الكثير من المسارات على مستوى كوردستان.
فمن أغرب الأفكار في عالم السياسة، والتي تعكس السذاجة، وأحيانا الجهالة:
معاتبة القوى الكبرى، لتدخلها في شؤون الدول الأضعف منها، والبحث عن القيم والأخلاق والفضيلة في عالم المصالح، أي عالم السياسية. وتناسي أن الإمبراطوريات تبنى على الحروب وتدمير الشعوب والنهوض ببعضها الأخر. ودراسة الدول والأنظمة التي تنهار وتزول على أنها لم تعد بذات أهمية لجدلية التطور الحضاري، كالاتحاد السوفيتي.
لا تقل غرابة عن المنوه إليه، تأفف الحراك الكوردي من الدول الكبرى بعدم التزامها بقيم الصداقة، رغم الخدمات وتنفيذهم للإملاءات، والتخلي عنهم، عند مواجهة أعدائهم. وقد أثبت واقع أوكرانيا الجاري بين روسيا والدول الأوروبية الجدلية بشكل فاضح، وهو ما تناساها فلاديمير زيلينسكي لغاية، وأتبع منهجية لا تختلف عن أساليب الحراك الكوردي، بمطالبة أمريكا وأوروبا تقديم الدعم اللامحدود، متناسيا مصالح الإمبراطورية الأمريكية، وليس ناسيا تقوية العامل الداخلي، التي فتحت الأبواب الواسعة على أسسها لتقديم الدعم، ليس حرصا على سلامة أوكرانيا أو دفاعا عن شعبها، بل حماية لمصالحها العالمية. ولا شك وللتغطية لا بد من غطاء إنساني ينشر على الإعلام، يتم تسخير المنظمات الحضارية للقيام بها.
وعلى نقيضه يواجه الشعب الكوردي الوجه المعتم والقاتم للقوى الكبرى (أمريكا أو أوروبا أو روسيا وحتى الصين) والتي لم تصل خلافاتها مع القوى الإقليمية المحتلة لكوردستان، درجة ترجيح مصالحهم مع الكورد على مصالحهم معها، مثلما حدث بين أوروبا وروسيا وتفضيلهم لأوكرانيا على معظم العلاقات الاقتصادية مع روسيا. ولا بد هنا من وجود أبعاد إستراتيجية بعيدة المدى، ترجح على ما تمده روسيا لأوروبا والعالم من موارد للطاقة والمواد الغذائية، وغيرها. لذلك لابد للحراك الكوردي من البحث عن أساليب جديدة مختلفة كليا عن الماضي في العلاقات الخارجية، ونسيان لغة الصداقات والعداوات، فكوردستان لا تقل غنى عن أوكرانيا، وكذلك مركزها الاستراتيجي.
وهاتين البعدين هما ما تبحث عنهما القوى الكبرى، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، كإمبراطورية قبل أن تكون حضارة، فهي حتى قبل عقود كانت الإتحاد السوفيتي منافستها الوحيدة على الأرض، تحاول روسيا والصين بعد انهيار الأخيرة، أخذ مكانتها، بل وأحلتا في المركز وبقوة، والقوتين كانتا تحصلان على ما كانت تنتجه أرض كوردستان دون أي اعتبار للوجود الكوردي، وسخرتا جغرافيتها من خلال الدول المحتلة، رغم معرفتهما لمصادر الغنى ولمن تنتمي الجغرافية. ذاك التعامل عكست منطق الإمبراطوريات، ولم تخالف منهجية الهيمنة.
تبقى جدلية التعامل مع هذا الواقع بعيدة عن مداركنا كحراك كوردي، بقدر ما سخرته الحكومة الأوكرانية وبنجاح حتى اللحظة، وهو ما قد تؤدي إلى ظهور أقطاب جديدة في العالم، وقد تكون بداية التراجع الأمريكي، حتى ولو أدت إلى خسارة روسيا، أو تراجع هيمنتها. فمن المعروف تاريخيا، أن الإمبراطوريات، تنهض وتتراجع إما: لنخر داخلي، أو لمواجهات خارجية، والاستراتيجيون الأمريكيون وشركاتها العالمية، يدركون الجدلية، وهي أن انهيار السوفييت أدت إلى ظهور منافسين أقوى، لذا لا بد من المواجهة، لديمومة الهيمنة، وهو ما حدى بها إعادة اللحمة لحلف الناتو بعدما كادت أن تتفكك وتزول، وبدأت بمنطق أضعاف روسيا على أمل الحفاظ على مكانتها العالمية.
وفي الوجه الأخر، روسيا كانت لا تزال في بدايات النهوض، اقتصاديا، بعد الطفرة العسكرية، وكان من الحكمة عدم انجرار فلاديمير بوتين إلى المستنقع، وهو ما عملت عليها استراتيجيو الإمبراطورية الأمريكية والناتو، وخاصة البريطانيين الأقل تأثر بمسارات الصراع، لكنه أخطأ، على خلفية العنجهية الدكتاتورية، وثمن خطئه يدفعها الشعبين الروسي والأوكراني، والاقتصاد الروسي، وقادمها، متوقعا أن تكون العملية مماثلة لتدميره لغروزني الشيشانية، ولجورجيا، وسوريا.
الحرب الأوكرانية ليست بأكثر من واحدة لعدة مواجهات عسكرية قد تحصل في قادم الزمن، بين أمريكا متمثلة بالناتو وقطبي النهوض، الصين وروسيا، وعلى جغرافيات مختلفة، ولا شك المواجهات الاقتصادية لن تكون بأقل منها كارثية، علما أن ديمومة الصراع بين روسيا والناتو على الأرض الأوكرانية، وحيث الشعب الأوكراني حطبه، قد يطول، إلى أن تنتهي مقارنة القدرات العسكرية من حيث التطور التكنلوجي، ومن ثم فصل روسيا عن الاقتصاد العالمي، وهو ما قد يؤدي إلى ظهور القطب الحقيقي المنافس لأمريكا والناتو عسكريا واقتصاديا، بقيادة الصين، وسترضخ روسيا لإملاءاتها بعدما تكون قد ضعفت في المواجهة الجارية.
فمن حيث المصالح الدولية، الشعبين الأوكراني والكوردستاني، يندرجان ضمن الدول أو الشعوب الأضعف، من حيث قوة العدو الخارجي، يستنجدان بالدول الكبرى أملين وطالبين منهم الكثير لإنقاذ الذات، علما أن مسوغاتهما التي قد تدفع بالدول المعنية إما لإيقاف الهجوم، أو الحصول على المساعدات، مختلفة، فلأوكرانيا إسقاطاتها الأوسع على الإستراتيجية الأمريكية، مع ذلك رئيسها لايزال يتحدث عن القيم، والعدالة الإنسانية، وشح المساعدات مقارنة بحجم الكارثة.
الشعب الأوكراني بدأ يتذوق مرارة محاولات تقسيم جغرافيتها كما حدثت لكوردستان، كما أن شريحة واسعة من الجيل المعاني من الحرب العالمية الثانية لا تزال حية وتحمل الألآم مثلما يحملها شرائح من الشعب الكوردي، حتى ولو كانت على سويات مختلفة وأوجه متنوعة، فما قاله فلاديمير بوتين بحق القومية الأوكرانية وجغرافيتها في صباح الهجوم الروسي، لا تختلف عما يتحدث فيه الحراك الكوردي وعلى مدى قرن كامل، وما أقدمت عليه الأنظمة المحتلة لكوردستان تجاه الشعب الكوردي، وتقسيم كوردستان والتبريرات الباطلة تحت مظلة الأوطان الافتراضية، الوطن الذي يبحث عنه فلاديمير بوتين، المتوقع فشله بعكس نجاح الدول المحتلة لكوردستان، على خلفية مصالح أوروبا وأمريكا.
ففي الأولى بني الإنكار على موقف سياسي مفاجئ، وفي الثانية تعكس مرحلة طويلة من الشوفينية، لا يفصل بين الموقفين، إلا قدر الشعبين والتفاوت الهائل بينهما كوطن وتاريخ، ومدارك الأوكرانيين مقارنة بالكورد الغارقون في الضحالة المعرفية أو عدم فهم للغة السياسة، والسذاجة في الساحات الدولية، إلى حد إثارة العجب، المرافق لتعجبنا من إهمال الدول الكبرى لقضيتنا.
فمنذ البدء، البشرية تعيش الحروب بكل أنواعها، خلقت معها، سايرت تطورها، وهي مورثة في الجينات. فبعد كل فترة هدوء على الأرض، لا بد من نقيضه، واليوم بوادر الحروب المتنوعة بدأت تسود العالم، في الوقت الذي كان الظن يتجه على أن أوروبا وروسيا ضمنها، أصبحت تتسم بالحكمة، بعد معاناة وكوارث الحربين العالميتين، وستستخدم ذهنية التفوق الحضاري قبل العنجهية العسكرية، لكن التوقعات خابت، فعادت الحروب لتفرض جدليتها، بأبشع مظاهرها، ومعاناة الشعبين الروسي والأوكراني تعكسها، والتي على الأرجح ستنشر كوباء سياسي-عسكري-اقتصادي، علما أن الجميع بدأوا يعانون من ويلاتها، وأولها كوارث الهجرات.
كثيرا ما نسأل ما الاختلاف بين تلك المآسي وما تعانيه كوردستان وشعبها منذ أكثر من قرن؟
فهل الوعي السياسي-الدبلوماسي له دور هنا؟ أم أن عنجهية قادة الدول الكبرى، ترجح العناد لموقف سياسي على مصالح الشعوب، والأنانية الذاتية على الحكمة والعقلانية.
الولايات المتحدة الأمريكية
7/4/2022م